بقلم د. علي محمد الصلابي
لا تزال الفرق المنحرفة والطوائف المغالية في الدين تنتشر في بلاد العرب والمسلمين إلى يومنا هذا، تهدد الأمن والاستقرار، وتشكك الناس في عقائد الناس، وتعيث في الأرض خرابًا، ومن أبرزها جماعة الخوارج أو التي سميت في الأدبيات السياسية الحديثة “الجماعات التكفيرية أو الجهادية المتطرفة”. وإذا تبيَّن لنا مما سبق أن الخوارج قد تسببوا في قتل أمير المؤمنين والخليفة الراشدي علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وعرفنا مناهجهم الفاسدة، فالواجب توضيح مظاهر تلك الجماعة وصفاتهم المختلفة في هذه الأيام، وهي تتكشف في مظاهر وسمات كثيرة، أهمها:
1. تشدد في الدين وتعسير على الآخرين
من مظاهر الغلو في هذا العصر: الخروج عن منهج الاعتدال في الدين، الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه». والتشدد في الدين كثيراً ما ينشأ عن قلة الفقه في الدين، وهما من أبرز سمات الخوارج، أعني التشدد في الدين وقلة الفقه، وأغلب الذين ينزعون إلى خصال الخوارج اليوم تجد فيهم هاتين الخصلتين. ومن مظاهر الغلو التعسير وترك التيسير، مطالبة الناس بما لا يطيقون، وإلزامهم بما لا يلزمهم به الشرع السهل، وعدم مراعاة قدراتهم وتفاوتها، وطاقاتهم واستطاعتهم، وتباينها، وأفهامهم واختلافها، فيخاطبونهم بما لا يفهمون، ويطالبونهم بما لا يستطيعون. ومن أسباب التعسير: الورع الفاسد، والجهل بمراتب الأحكام، والجهل بمراتب الناس، وأما مجالاته وصوره وأشكاله، إيجاب النظر والاستدلال على الجميع، وتحديث الناس بما لا يعرفون، وترك الرخص والإلزام بما لم يلزم به الشرع.
2. تعالُم وغرور
من السمات البارزة في ظاهرة الغلو في الوقت الراهن، التعالم والغرور، وادعاء العلم في حين أنك تجد أحدهم لا يعرف بدهيات العلم الشرعي، والأحكام وقواعد الدين، أو قد يكون عنده علم قليل بلا أصول ولا ضوابط ولا فقه ورأي سديد، ويظن أنه بعلمه القليل وفهمه السقيم قد حاز علوم الأولين والآخرين، فيستقل بغروره عن العلماء، عن مواصلة طلب العلم فيهلك بغروره ويُهلك. وهكذا كان الخوارج الأولون يدعون العلم والاجتهاد ويتطاولون على العلماء وهم من أجهل الناس. وأدى التعالم والغرور إلى تصدر حدثاء الأسنان وسفهاء الأحلام للدعوة بلا علم ولا فقه، فاتخذ بعض الناس منهم رؤساء جهالًا، فأفتوا بغير علم وحكموا في الأمور بلا فقه، وواجهوا الأحداث الجسام بلا تجربة ولا رأي، ولا رجوع إلى أهل العلم والفقه والتجربة والرأي، بل كثير منهم يستنقص العلماء والمشايخ، ولا يعرف لهم قدرهم، وإذا أفتى بعض المشايخ على غير هواه ومذهبه، أو بخلاف موقفه أخذ يلمزهم إما بالقصور أو التقصير، أو الجبن والمداهنة، أو بالسذاجة وقلة الوعي والإدراك، ونحو ذلك مما يحصل بإشاعته الفرقة والفساد وغرس الغل على العلماء والحط من قدرهم.
3. استبداد في الرأي وتجهيل للآخرين
من أبرز معالم الغلو حديثاً التعصب للرأي، وعدم الاعتراف برأي الآخرين، وإنكار ما عنده من الحق ما دام خالفه في الرأي. ومن الأسباب التي تولد التعصب للرأي، والانحياز له: قلة العلم، مصادفة الرأي لذهن خال، الإعجاب بالرأي، اتباع الهوى.
إن آفة الإعجاب بالرأي والتعصب له هوت بأصحابها إلى دركات خطيرة، في أزمنة قبلنا، فما الذي هوى بذي الخويصرة الجهول، يقول ابن الجوزي: وآفته أنه رضي برأي نفسه، ولو وقف لعلم أنه لا رأي فوق رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما الذي هوى بأصحاب ذي الخويصرة غير إعجابهم برأيهم، وظن السوء في غيرهم. وكانت الخوارج تتعبد، إلا أن اعتقادهم أنهم أعلم من علي رضي الله عنه وهذا مرض صعب، إن هؤلاء المساكين وقعوا أسرى لألفاظ لم يحسنوا فهمها، ولم يستمعوا لمن يجليها لهم، ويفهمهم إياها، لأن الصواب هو رأيهم وما عداه خطأ، يقول محمد أبو زهرة: أولئك استولت عليهم ألفاظ الإيمان، ولا حكم إلا لله، والتبرؤ من الظالمين، وباسمها أباحوا دماء المسلمين وخضبوا الدماء الإسلامية بنجيع الدماء وشنوا الغارة في كل مكان. وإن التعصب للرأي وتجهيل الآخرين يتنافى مع مبادىء أساسية في الإسلام كالشورى والتناصح.
4. طعن في العلماء العاملين
يشهد عصرنا حملة غريبة وظاهرة عجيبة ألا وهي الاعتداء على هيبة العلماء العاملين، وطعنهم بخناجر الزيغ والضلال. ولقد شهدت الصحف والكتب والمقالات، وقاعات الدروس والحلقات نماذج كثيرة من تلك الحملات، فجلب على أمة الإسلام أبلغ الأضرار، فشتت الشمل المشتت، وفرق الجمع المفرق، وعمق الشقاق الغائر. ولا شك أن للطعن في العلماء أسبابًا منها: التعلم بدون مُعلم، الفهم الخاطىء لبعض عبارات العلماء، واتباع الهوى، والحسد، وقد لجأ بعض الشباب إلى أسلوب سيىء ألا وهو تتبع عورات العلماء وزلاتهم، وتصيد أقوالهم، وتحريف كلامهم عن مقصودهم. هم فعلوا ذلك ليبرروا حملتهم الشعواء في الطعن في العلماء قديمًا وحديثًا ممن يخالف آراءهم، ولا يقر مناهجهم الحائدة عن الاعتدال. وإن الذين يطعنون في علماء الأمة العاملين يخدمون المخططات الصهيونية والطاغوتية والاستخباراتية سواء شعروا بذلك أم لا، والذين لا يزالون يطعنون في علماء الأمة بفعلهم هذا يكونون قد ابتعدوا عن منهج أهل السنة والجماعة. وليعلم الذين يطعنون في علماء الأمة العاملين أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك منتقصهم معلومة، وما يدري هذا المتعلم أن الاعتبار في الحكم على الأشخاص بكثرة الفضائل، قال ابن القيم: ومن له علم بالشرع والواقع يعلم قطعًا أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة وهو من الإسلام وأهله بمكان قد تكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور، بل مأجور لاجتهاده، فلا يجوز أن يُتبع فيها، ولا يجوز أن تهدر مكانته وإمامته في قلوب المسلمين، فمن يبقى لأمة الإسلام إذا طعن في علمائهم؟ أيبقى شباب أحداث، يحسنون التلاوة، ولا تستقيم لهم لغة، وليس لهم باع طويلة ولا قصيرة في كثير من علوم الشرع؟
5. سوء الظن بغيرهم
كثر هذا المرض واستشرى ضرره في عصرنا، وكانت هذه الآفة أداة فتك وتدمير، ووسيلة هدم وتخريب، وقد ترتب عليها نتائج خطيرة. ولهذه الآفة أسباب ودوافع منها: الجهل، فالجاهل لا يتفهم حقيقة ما يرى وما يسمع وما يقرأ ومرمى ذلك، وعدم إدراك حكم الشرع الدقيق في هذه المواقف خصوصاً إذا كانت المواقف غريبة، تحتاج إلى فقه دقيق، ونظر بعيد، يجعل صاحبه يبادر إلى سوء الظن، والاتهام بالعيب، والانتقاص من القدر، ومنها الهوى؛ وهو آفة الآفات، فيكفي أن يرى المرء أو يقرأ أو يسمع ما لا يعجبه، ولا يرضاه، ولا يوافق هواه ومبتغاه.. يكفي ذلك لأن يطلق للظن السيىء الحبال، ويرخى له العنان فيرتع ويصول ويجول، ولا يزن الأمور بميزان الشرع الدقيق، ولا يحاول أن يلتمس المعاذير، ولا يراجع نفسه فضلاً عن أن يتهم فهمه، فالهوى يصده عن ذلك، ومنها العجب والغرور، فإحسان المرء ظنه بنفسه، وغروره بفهمه، إن كان ذا فهم، وإعجابه برأيه يدفعه لأن يزكي نفسه ويحتقر غيره فهو الصواب والكل خطأ وهو الحق والكل باطل، وهو الهدى والجميع ضلال، وقد رأينا أناساً بلغ بهم سوء الظن مبلغًا غريبًا عجيبًا، حتى خرجوا جميع الناس عداهم، أحياء وأمواتًا، فرموهم بالزيغ والضلال، وفساد الاعتقاد، فالجميع في عقيدته دخن ودخل وهم وحدهم المخلصون، الجميع هالكون وهم الناجون، إن الظن السيىء آفة، ولكل آفة آثار وخطورة، والسيىء لا يلد إلا سيئاً.
ولما كانت هذه الآفة ذات خطورة عظيمة كما تبين، فقد كان موقف الإسلام حاسمًا، فقد دعا وأمر باجتناب أكثر الظن، لأن الوقائع والأحداث أثبتت أن الجري وراءه واتباعه عاقبته وخيمة وأضراره عظيمة، قال تعالى: {ياأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم} الحجرات: 12. ومما يدفع سوء الظن التماس العذر لأخيك، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ولا تظن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيراً، وأنت تجد لها في الخير محملاً.
6. بطش وصلافة مع الآخرين
من مظاهر الغلو حديثًا الشدة والعنف في التعامل مع الآخرين، واستخدامهما في غير محلهما، وكأن الأصل في التعامل مع الغير هو العنف والغلظة لا الرفق والرحمة، وهذه الشدة أصبحت هي الطابع الغالب على سلوك بعض الشباب، وقد تجاوز العنف حدود القول إلى العمل، فسفكت دماء بريئة بسببه ودمرت منشآت، ولقد تسبب هذا العنف في أضرار فادحة على أصحابه وعلى الأمة، وقد كانت هناك أسباب رئيسية وراء استخدام بعض الشباب للعنف والغلظة، نستطيع أن نجملها فيما يلي:
– المحن: فكثير من هؤلاء الشباب تعرضوا لمحن شتى، أثرت في نفوسهم، وغيرت من طباعهم.
– الجهل بفقه الاحتساب: فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم الواجبات التي كلف الله بها هذه الأمة، وينبغي للقائم بها أن يكون فقيهًا فيها ليتمكن من تحقيق المصلحة واجتناب المفسدة بأيسر طريق.
– استخدم بعض الشباب أسلوب الغلظة والقسوة في إرشاد الناس ومحاورتهم لهم، ودعوتهم لإقلاعهم عما يخالف الشرع، وظنوا أن طرق الشدة هي المجدية والرادعة، وغاب عنهم أن أسلوب الرفق هو الأصل، ولا يترك إلا بعد أن تستنفد وسائله، لأنه هو المجدي النافع، المؤثر في النفس.
– من الأسباب الغليظة التي يسلكها بعض هؤلاء الخشونة في معاملة الوالدين، فلا يقيم لهم حرمة، ولا يعاونهما ولا يخدمهما، لقد نسي هؤلاء أن الوالدين لهما خصوصيات عن سائر الناس، لا سيما في دعوتهم وإرشادهم ولا يعني ذلك التنازل عن الالتزام والتمسك بأمر من أمور الدين أو ارتكاب معصية إرضاء لهواهم… كلا.. كلا.. إنما نريد الأدب في المعاملة، واللين في القول، وحسن العشرة، والصبر عليهم والشفقة والرحمة بهم، قال تعالى: {ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير * وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون} [لقمان: 14، 15].
هكذا تبدو لنا تلك الصفات الغريبة لجماعات الغلو والتطرف، فما سلوكيات وأعمال جماعة المداخلة في ليبيا وتنظيم تنظيم داعش والقاعدة في سورية وأنصار بيت المقدس في سيناء، إضافة إلى علماء ومشايخ التطرف والتكفير والسلطة في عالمنا العربي والإسلامي، إلا تمثيل حقيقي لجماعة الخوارج اليوم، الذين ينتمون إلى فريقين لا ثالث لهما: الفريق الأول، هم أصحاب العلاقات المشبوهة والمرتبطين غالبًا بأجهزة الاستخبارات العربية والغربية أو الإيرانية. أما الفريق الثاني، فهم سُذج وجُهال وأطفال أمتنا الذين يسخرهم الفريق الأول للتخريب والنيل من كرامة الأمة وقتل وتهجير أبنائها وإضعاف شوكتها ونزع الهيبة عن دينها، لتكون صيدًا سهلًا لكل عدو وطامع.
(المصدر: ترك برس)