مقالات مختارة

خلوة الضياع

بقلم أمل عبدالله فرج

إلى كل إنسان عَشق الوحدةَ في زمن التمدُّن والتحول والتطوُّر والتجوال، في زمن التحرُّر والحركة والاحتكاك بين أبناء البشر، إلى كلِّ إنسان ألزمه الله طائرَه في عُنقه، إلى كلِّ إنسان أحبَّ أن يعيش وحيدًا، ليس ابتعادًا عن الصخب والضوضاء والتجمهر والفوضى؛ وإنما ابتعادًا عن المجتمع والناس، وحتى الحيوانات.

إليكم جميعًا: اسمعوا وعُوا، وإذا سمعتم فانتفعوا:

– اجتمع العلماء على القول: (إنَّ الإنسان مدنيٌّ بالطَّبع)؛ أي: لا بدَّ له من الاجتماع، ومن هذا المنطلق تبيَّن أنَّه لا يجوز أن يعيش الإنسان وحيدًا؛ لأن الله تعالى لو أراد أن يعيش كلُّ إنسان وحيدًا بعيدًا عن الناس لاكتفى كلٌّ بنفسه، ولجعل كلَّ واحد من أبناء البشر عبقريًّا يَفهم في كل شيء؛ لكي يعدَّ لنفسه ما يريد ولا يحتاج إلى أي أحد، وإنَّما جعل الله علاقةَ الكائنات أساسها واحد؛ وهو تبادُل المنفعة، وهو قانون التعايش السلمي الكوني بين الكائنات الحيَّة.

مثلًا: إنَّ الله سبحانه وتعالى عندما بدَأ خَلق الإنسان شرع أن يخلقه من طِينٍ، والطِّينُ أساسه التُّراب والماء؛ ولذلك تمسَّكتِ المواد، وتكوَّن الطين، ونفخ فيه من روحه، وبذلك كوَّن الله الإنسان من عدَّة مواد؛ لذلك قال الله: ﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ ﴾ [الطارق: 5].

وأيضًا لو أراد الله أن يعيش كلُّ إنسان على حِدة لانفرد كلُّ إنسان بحياته، ولَما تكوَّنت أُسر ومجتمع وتكوَّن كوكب واحد يَسكنه الجميع، كذلك لو أراد الله أن يَعيش الإنسان وحيدًا لَما قال: ﴿ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13]؛ لذلك مهما اختلفتم وتغيَّرتم واختلفَتْ أشكالُكم فالربُّ واحد، والكون واحد، والكوكب واحد، والمجتمع واحد، والأساس الخلقي للإنسان واحد.

ومن مبدأ الآية القرآنيَّة الكريمة تبيَّن أن التعارُف والأخوَّة وصِلة الأرحام هي المسند والرَّكيزة الأساسية لبِناء مجتمع مدني متماسِك؛ وهذا يتمُّ عن طريق اسم الله السَّلام الذي نذكره في السَّلام لكي يَتواصل به المسلمون، ومنه تنبث كلٌّ من الصِّلة والرحمة والتعايُش السلمي.

وبعد كل ما تكلَّمنا عنه، نذكر خلاصَةَ الوحدة التي هي الخلوة؛ فالخلوة تُطلب في أوقات محدَّدة؛ مِن أجل أن يَذكر الإنسان خالقَه، ويدعو ويصلِّي، ويقرأ القرآن الكريم، وهذه تتطلَّب ساعات محدَّدة، وليس وقتًا مفتوحًا لكي يتخلَّص الإنسان ويرتاح من أتراح الحياة وأتعابها.

ولكن خلوة الضَّياع هي أن يعيش الإنسان بمفرده داخل مَنزل أهله، ويحبس نفسه بين أربعة جدران وسقف واحد؛ كالذين أغلقوا على أنفسهم الأبوابَ وانفردوا بتكنولوجيا الضَّياع؛ لا يعرف أحدٌ ما يَصنعون، ويشاهدون أشياء غير أخلاقيَّة تتنافى مع ديننا الحنيف.

ولم يَقتصِر الأمر على الشَّباب، وإنما اتَّسع الأمر ليصِل إلى البنات والمراهقين، حتى وصَل الأمر إلى الأطفال؛ فبعض الأمَّهات مشغولة بخلوتها على المسلسلات، وتترك أطفالها على التلفزيون في غرفةٍ وحدهم إلى أن يَصِلوا إلى الضَّياع الحقيقي، ويصبحوا أقرَبَ إلى التوحُّد.

أيضًا هناك من يفضِّل الوحدةَ، ويحبُّ أن يعيش هو وعائلته بلا أقرباء، وقطَع صِلةَ الرَّحِم بكلِّ الناس، واستمتع بخلوة الضياع المرفوضة مِن الله قَبل البشَر؛ لأنَّه لا يجوز أن ينفرِد أحد بشيء حتى ولو كان هذا الشيء ملكه؛ لأنه لا ملك إلَّا للملك وهو الله الذي ملَّكَكَ هذا الشيء، ويستطيع أن يَسحب مُلكَه في أيِّ لحظه كانت.

حتى نفسك، لا يحق لك أن تقول: نفسي وأنا حرٌّ بها؛ لأنَّ النفس تعود إلى الذي خلَقها، وله حقٌّ عليها، ويحاسبك عمَّا تفعل بها؛ من تمرُّد وإذلال وضياع؛ فالناس كما قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ((المسلمون شُرَكاء في ثلاثٍ: في الكَلَأ، والماء، والنَّار))؛ رواه أبو داود، وابن ماجه.

ولا يحقُّ لأحد أن يقول: هذا لي وليس لأحد حقٌّ أن يشاركني فيه، فإنَّك إن أردتَ أن تعيش وحيدًا فإنَّك تتعب؛ لأنَّه عليك أن تصبح طحَّانًا وعجَّانًا وخبَّازًا وحمَّالًا… هذا لكي تَأكل، ناهيك عن المهن الأخرى التي تَحتاجها في حياتك.

فالإنسان المكان الوحيد الذي لا يُشاركه فيه أحد هو بَطن أمِّه إن كان طفلًا واحدًا، وكذلك قبره؛ فالقبر المكان الوحيد الذي يَعيش فيه الإنسان الوحدةَ رغم أنفِه، فلا تبالِغ يا إنسان في محبَّتك للوحدة، فلا تستطيع أن تكابِر كلَّ الوقت وكلَّ العمر الذي تريد أن تعيشه وحدك ولا تحتاج إلى أحَد، فإذا أردتَ أن تنفرِد بشيء فانفرِد بلِسانك، ولا تُحاكِ فيه النَّاس بتكبُّر وتهجُّم، وتستطيع أن تصمت وتحسَّ بالراحة وأنت مع الناس ولست وحدك.

المصدر: شبكة الألوكة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى