بقلم أ. محمد إلهامي
ممّا يثير التأمل في شأن القرامطة أنهم ظلوا قوة مرهوبة الجانب على رغم عددهم وعتادهم، تنهار أمامهم جيوش الخلافة التي تبلغ أضعافهم، ويتكرر انتصارهم على من لا يُتَخيَّل أنهم يقفون أمامهم ساعة من نهار، بل لقد كان جيش الخلافة الرئيسي وقائده العام مؤنس الخادم، وهو صاحب جهاد واسع للروم وغيرهم، يجبن عن مواجهتهم ويتحصن منهم بالجغرافيا ويكتفي بالدفاع.
ما كان ذلك إلا لأن القرامطة امتلكوا أمريْن: صلابة عقدية مع قائد فذ صلب وإن كان صغير السن..وبذلك استطاعوا أن يكونوا قوة ضاربة في عصور الضعف والاضطراب التي ضربت أطنابها في أنحاء قصر الخلافة العباسية. واستطاعوا أن يبلغوا من الفجور والإفساد في الأرض وارتكاب الجرائم ما لم يسبقه إليهم أحد في تاريخ الإسلام.
وما إن انهار هذان الأمران: الصلابة العقدية والقيادة الصلبة حتى انهار خبر القرامطة، واضمحلوا حتى قاربوا على الاختفاء من المشهد السياسي، وقد كان ذلك حين نبت فيهم داعية عُرِف في التاريخ بالداعية الأصفهاني، والذي استطاع أن يكسر قوة القيادة الواحدة ويكسر معها الصلابة العقدية، إذ دعا إلى نفسه وبلغ نفوذه أن يأمر الرجل بقتل أخيه فيفعل، واغتال كبار قادة القرامطة، لكنهم استطاعوا أن يتداركوا الأمر فاغتالوه. ولم يلبث وقت طويل حتى مات زعيم القرامطة أبو طاهر القرمطي (رمضان 332هـ).
هنا فقط بدأت شمس القرامطة في الذبول ثم الغروب، وفي هذا درس كبير لمن يتولى التخطيط وصناعة القرار في عالمنا المعاصر، والذي يعاني من خطر القرامطة الجدد!!
نعود إلى التاريخ، فقد مات زعيم القرامطة أبو طاهر القرمطي الذي ارتكب من الجرائم ما لم يرتكبه أحد قبله في تاريخ الإسلام؛ من انتهاك الحرم الشريف ونزع الحجر الأسود وقتل الحجاج في الطريق إلى وفي جوار الكعبة.
ولا ريب أن خبر موت القرمطي نزل برداً وسلاماً على المسلمين في سائر البلاد..
ولقد جاء موته نعمة عظمى من الله تعالى في ذلك الوقت، فإن الخلافة العباسية قد صارت إلى أسوأ وأقبح حال في هذه الأيام، وصارت أضعف كثيراً كثيراً ممّا كانت عليه إذ كانت تواجه القرامطة..لقد ساء الحال أكثر بعد الانقلابات العسكرية المتكررة على الخلفاء: المقتدر بالله ثم القاهر بالله ثم الراضي بالله، ومن بعد الراضي صار الخليفة لا يمثل شيئاً في ميزان القوة، بل صار أمراء العراق يتصارعون من حوله فتتكرر بينهم الانقلابات العسكرية بعضهم على بعض ليحوز كل منهم على منصب الرجل الثاني “أمير الأمراء”، فلا يلبث فيه أحدهم إلا شهوراً ثم ينقلب عليه آخر، وصار عسكر الخلافة أشبه بالمرتزقة، تكثر فيهم التحزبات والانقسامات، وهم إن وجدوا المال رضوا وقنعوا وإن لم يجدوه أخذوا في السلب والنهب والانتقال إلى ولاء أمير آخر، فما إن ينتقلوا حتى تنتعش آمال هذا الأمير في الانقلاب فتتكرر الدورة التاريخية القصيرة: يستولي على بغداد، تقابله أزمة الأموال، ينتقل ولاء الجند إلى غيره، ينهزم أمام الانقلابي الجديد..وهكذا!
لقد قُتِل الخلفاء: المقتدر بالله، والقاهر بالله، والمتقي لله بانقلابات عسكرية، والخليفة الوحيد الذي لم يُقتل وهو الراضي بالله ورث الخلافة ضعيفاً، وكان عمره خمس وعشرون سنة ثم لم يمهله الأجل فمات وهو في الحادية والثلاثين من عمره فحسب، فوصلت الخلافة إلى المستكفي بالله الذي توسل الجند أن يجعلوه خليفة مقابل أموال وعدهم ببذلها واستخلاصها من أهل بيت الخلافة وعهود وضمانات ألّا يروا منه سوءاً.. وهو ما كان!
وهكذا لطف الله بعباده إذ ضعف حال القرامطة في الوقت الذي صار حال الخلافة بائساً.
ولقد حاول أبو عبد الله البريدي، أمير البصرة وأحد أمراء الحرب في الزمن المضطرب، أن يجذب القرامطة إلى صفه في الصراع الدائر بين الأمراء، فحين وُلِد لأبي طاهر مولود (331هـ) أهدى إليه هدايا كثيرة، منها مَهْدٌ من ذهب مرصع بالجواهر، وجلاله منسوج بالذهب محلى باليواقيت، وغير ذلك. ولكن القدر كان أسبق إلى أبي طاهر من ثمرة التحالف معه.
تولى أمر القرامطة بعد وفاة أبي طاهر إخوته أبو العباس وأبو القاسم وأبو يعقوب، وكانوا ذوي اتفاق وانسجام في الرأي، وكذلك وزراؤهم السبعة..وهذا دليل على مقدار الفراغ الذي تركه أبو طاهر وعلى انهيار أمر القيادة من بعده، إذ احتاجوا إلى “مجلس قيادة” لا يُعرف فيه زعيم بارز مسموع الكلمة وله مواهب القيادة.
وقد دلَّ على هذا أنهم حين دخلوا على خط صراع الأمراء الدائر في العراق اكتفوا بدعم طرف من المتصارعين، وهو أمير البصرة، بينما كان المتوقع في الزمن القديم، أيام زعامة أبي طاهر قبل فتنة الداعية الأصفهاني، أن يجتاحوا العراق كلها بلا تردد.
لقد دعموا أبا الحسين البريدي، أخا أبي عبد الله البريدي ووارث الحكم من بعده في البصرة، ولكن هذا أساء الحكم والسياسة فانقلب عليه الجُند حتى هرب منهم إلى القرامطة، فحاولوا إعانته بجيش يرده إلى ملكه غير أنهم فشلوا بعد حصار فاشل للبصرة، فتركوا سبيل الحرب وسلكوا سبيل السياسة فَسَعَوْا في الصلح بينه وبين ابن أخيه الذي تولى أمر البريديين، فتمَّ لهم ذلك فعادوا إلى بلادهم. ثم بحث أبو الحسين عن حليف آخر يستند إليه في صراعه.
وبذلك يكون القرامطة في الخليج قد انتهوا عملياً، وخرجوا من المشهد السياسي الكبير، وإن كانوا قد بقوا كقوة إقليمية.
إلا أن القوة الإقليمية ما كان لها أن تقف أمام التغيرات الضخمة التي جرت على مشهد الخلافة، فقد ذهب عصر الأتراك، وجاء عصر البويهيين، واجتاح البويهيون بغداد وأنهوا صراع الأمراء فيه وصاروا أصحاب الأمر والنهي، وأصحاب الدولة التي تستقبل أيامها.
وكما يفعل أي ثائر أو ملك يؤسس لسلطته، بدأ معز الدولة البويهي في تحطيم كل مراكز القوى المتبقية من العهد القديم، ليفرض وضعاً جديداً يكون فيه الوحيد صاحب اليد العليا والسلطة الكاملة، ولهذا دخل معز الدولة في صراعات مع سبعة أطراف منهم: القرامطة.
كان أول اشتباك بين القرامطة والبويهيين حين انطلق جيش معز الدولة (336هـ) للاستيلاء على البصرة معقل البريديين، فرأى القرامطة أن مسيره بالجيش اعتداء على منطقة نفوذهم في صحراء هذه المنطقة، فأرسلوا إليه يستنكرون مسيره بغير استئذانهم أو مشورتهم، فما كان من معز الدولة إلا أن عامل مبعوث القرامطي بالاستعلاء، واستهان بهم فلم يكتب رداً على رسالتهم وهددهم قائلاً لحامل الرسالة: قل لهم من أنتم حتى تُسْتَأْذَنوا؟! بل أنتم المقصودون بعد البصرة لأفتح بلادكم.
كان طبيعياً أن تنهار العلاقة السلمية بعد هذا الرد، وهو ما استغله الوالي على عمان في ذلك الوقت يوسف بن وجيه، فراسل القرامطة (341هـ) يخبرهم أنه ينوي أن يهاجم البصرة، وأغراهم بالتحالف معه ومساعدته بجيش بري يساند جيشه البحري السائر في الخليج حتى البصرة، فتم له ما أراد، وكان دخول هذا اللاعب الجديد على ساحة الصراع يسبب همّاً كبيراً لمعز الدولة، فسعى لتركيز كل طاقته في تحصين البصرة وشحنها بالرجال والسلاح والعتاد، وجعل قيادتها لوزيره المهلبي الذي أسرع بالوصول إلى البصرة حتى جاءها قبل جيش القرامطة ويوسف بن وجيه، وظل معز الدولة يتابع أمره ويمده بالأعداد والعتاد، حتى اندلعت الحرب بين الجيشين واستمرت أياماً، ثم كانت نهايتها لصالح المهلبي الذي هزم يوسف بن وجيه والقرامطة، وأسر بعضاً من قادتهم واستولى على مراكبهم وأسلحتهم، فانزاح همُّ معز الدولة وثبتت سلطته ونفوذه وعلت يده على القرامطة.
وهكذا انتهى عصر نفوذ القرامطة، وسكنت أحوالهم وانكمشوا، ولم يُعرف لهم خبر طيلة عصر القوة البويهي، الذي بلغ ذروته في عهد عضد الدولة البويهي، ولما مات عضد الدولة كانت الوهجة الأخيرة للقرامطة!
فما إن توفي عضد الدولة حتى طمع القرامطة في الاستيلاء على بغداد نفسها!! فخرج جيش منهم إلى بغداد حتى صاروا قريباً منها (373هـ)، لكن صمصام الدولة البويهي استطاع مفاوضتهم وردهم عن بغداد مقابل مبلغ كبير من المال. وكان للقرامطة نائب في بغداد من أثر اتفاق سابق بينهم وبين البويهيين، ويبدو أنه انتعشت آماله أيضاً بموت الرجل القوي عضد الدولة فاصطدم بصمصام الدولة، فقبض عليه هذا الأخير وحبسه، فحرَّك القرامطة جيشاً (375هـ) إلى الكوفة بزعامة اثنين من مجلس السادة للقرامطة، فبايعا لشرف الدولة البويهي، الأخ المنافس على السلطة، فدخلوا بهذا على خط الصراع السياسي الرئيسي بين الأخوين، فاستوليا على الكوفة وأخذا في جمع الأموال وجباية أهل الكوفة. ثم تطور الأمر فأرسلوا جيشاً بقيادة الحسن بن المنذر، وهو من كبار القرامطة، إلى “الجامعين”. فلم يعد أمام صمصام الدولة إلا الحرب فأخرج جيشه واستنفر معهم العرب، فعبروا الفرات وقاتلوا الحسن وهزموه هزيمة منكرة وقع فيها هو أسيراً، فأرسل القرامطة جيشاً آخر أكثر عدداً فاشتعلت المعركة بينهما وأسفرت عن نصر كبير لجيوش صمصام الدولة، حتى لقد قُتِل قادة جيش القرامطة أو أُسِروا، ثم انطلقت الجيوش إلى الكوفة لكن القرامطة هناك كانوا قد هربوا منها فلم يلحقوهم، وكانت هذه الهزيمة من أقوى ما نزل بهم، وبها خُتِمت في السياسة والقتال صحيفة أخبارهم!
(المصدر: الخليج الجديد)