خطورة تربية الأولاد!
بقلم أ. د. فؤاد البنا
يرى المثل العربي أن (الولد سر أبيه)، وحينما تظهر علامات النجابة على الابن تقول العرب: (هذا الشبل من ذاك الأسد)، ولا يقصدون هنا الحفاوة بالجينات الوراثية بالطبع ولكن التنويه بدور التربية في الوصول بالأبناء إلى ناصية الرجولة، تلك التربية التي تولى كبرها الآباء حتى صار الأولاد قرّة أعين لوالديهم.
ومن عجيب ما جرى معي أني كنت قبل الزواج مثاليا لدرجة أني لو وجدت واحدا من أبناء العلماء والدعاة يمارس مكروها أشعر بالتقزز وأنصرف في نفسي إلى اتهام الآباء بالقصور أو التقصير في تربية أولادهم، معتقدا بأني سأجعل من أولادي أناسا مثاليين، حتى أنني سميت الذكور الأربعة كلهم على وزن فاعل: طارق، فارس، خالد، مازن، من باب التفاؤل بأنهم سيكونون فاعلين ومتميزين في صناعة الحياة، وكأنني الوحيد من سيتحكم بتربيتهم!
وحينما كبرت ودخلت غمار تربية الأولاد بقدر ما تأكدت من أن تربية الأولاد من أنبل الأعمال وأشرف الغايات، فقد اكتشفت أنها من أعقد الأمور وأصعب المهام، وأنها تصيب المرء بالمرارة وبسببها يتجرع المرء العلقم ويتعرض لأمراض عديدة، ومن ثم فإنها تحتاج إلى مصابرة في جبهة التوجيه والتعليم وتقتضي مرابطة في ثغور التربية والتقويم.
وتتضح خطورة هذه المهمة حتى من التشبيهات التي تطلق على الأبناء، في الحِكم والأمثال، فهذا لستوبيوس يقول: “الأبناء أعمدة البيت”، ومن الطبيعي أن الأعمدة الضعيفة لا تستطيع تحمل الطوابق المتعددة ولا تتحمّل الزلازل والأعاصير التي هي سنة لازبة في مسيرة الحياة!
وذهب المثل الألماني إلى القول بأن “الولد مصباح البيت المعتم”؛ مما يقتضي تنويره وإعطائه القدرة على الاشتعال والاضطرام، والمحافظة على الزاد الذي يكفل له التوهج ويمنعه من الانطفاء مهما كانت الظروف!
وما أجمل ما قال الشاعر العربي القديم حطان بن المعلى:
وإنما أولادنا بيننا
(أكبادنا) تمشي على الأرض!
ولا شك بأن (الأكباد) تحتاج للعناية الفائقة بها حتى تقوم بوظائفها على الوجه الأمثل، وتتطلب المحافظة عليها من فيروسات التغريب والفساد التي تنخر العقول والقلوب وتفسد الأنفس والأذواق!
وقد أثبت لي تتابع السنوات واضطراد التجارب مدى صعوبة تربية الأبناء في عصرنا، حيث يبني المرء في بيئة مترعة بعوامل الخراب، ويتزاحم فيها دعاة الهدم وأجناد الإفساد، مما جعل المسافة في عصرنا تزداد اتساعاً بين التنظير والتطبيق، لدرجة اقتربت فيها مما حدث للفيلسوف والمربي الفرنسي جان جاك روسو الذي جسد معضلة التباعد بين المثال والواقع بقوله: “قبل الزواج كان عندي خمس نظريات في التربية وليس عندي أي ولد، والآن عندي خمسة أولاد وليس عندي أي نظرية في التربية”!
وبالطبع فإننا لا نقصد من هذه المقالة زرع اليأس في النفوس والقول بأن الأمور خرجت عن سيطرة الآباء والأمهات تماما، أو التهوين من الأخذ بالأسباب فإن لكل مجتهد نصيبا، وإنما أردنا التأكيد على أن التربية أمر خطير وأنها بحاجة إلى اكتساب معارف متنوعة واستثمار مخرجات العلوم الجديدة، مع الاستفادة الجادة من خبرات الشخصيات والمؤسسات الناجحة في هذا المضمار.