بقلم فضيلة د. عبد الآخر حماد الغنيمي
من بين ما قرأنا أو استمعنا إليه في التعليق على قرار ترامب الأخير بشأن الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة اليهود في فلسطين ،مقولة مفادها أنَّ علينا حين نتكلم عن قضية القدس أن نبتعد عن وصف القدس بأنها مدينة إسلامية ،وذلك بدعوى أن القدس فيها مسيحيون وبها مقدسات مسيحية ، ولذا فإن الصحيح في نظر أصحاب تلك الدعوى أن نكتفي بالتركيز على أن القدس عربية ، كما يجنح أصحاب تلك الدعوى إلى وجوب التفرقة بين اليهودية كديانة وبين الصهيونية كحركة سياسية عنصرية ، وأن اليهود ليسوا جميعاً صهاينة ،فهناك من اليهود من لا يوافق على قيام دولة إسرائيل ،و منهم من ينتقد بعض تصرفات قادة إسرائيل ولا يرضى عنها .
وقد اعتدنا أن نسمع هذا الكلام من قبلُ من بعض دعاة العلمانية الذين لديهم مشكلة أصلاً مع الإسلام وكل ما يمت إليه بصلة ، لكن الجديد أننا صرنا نسمع هذا الكلام من بعض الدعاة الإسلاميين ومن يسميهم البعض بالمفكرين الإسلاميين ، الذين يحاولون تسويق ذلك الرأي على أنه يمثل الإسلام الوسطي المعتدل البعيد عن الغلو والتطرف .
ولاشك أن تلك النظرة تحمل فيما تحمل تغافلاً شديداً عن الحقائق التاريخية والواقعية التي ما كان ينبغي أن تغيب عن شخص ينتسب للدعوة الإسلامية .
ذلك أن قيام دولة إسرائيل إنما هو في أصله مبني على ما يرونه هم حقائق دينية توراتية بحسب ما صرح به آباؤها المؤسسون وقادتها حتى الآن .
أقول ذلك رغم علمي أن من فكروا في إقامة وطن قومي لليهود في العصر الحديث وعلى رأسهم هيرتزل- الذي ترأس المؤتمر الصهيوني الأول في بازل بسويسرا عام 1897- لم يكونوا من اليهود المتدينين ، فقد كانت العقيدة اليهودية حتى القرن التاسع عشر كما يذكر الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله في ( موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية ) تُحرَّم عليهم العودة إلى ما يسمونه (أرض الميعاد) قبل قدوم مسيحهم المنتظر ، ولذا لم يستطع هيرتزل أن يعقد مؤتمره الصهيوني الأول في مدينة ميونيخ الألمانية كما كان مقرراً له ،وذلك نظراً للمعارضة الشديدة لذلك المؤتمر التي أبداها التجمع اليهودي والحاخامية اليهودية في ميونيخ ،فاضطر إلى عقده في بازل بسويسرا .
لكن هيرتزل استطاع بعد ذلك -وبمعونة الصهاينة البروتستانت كما سيأتي – أن يُسوِّق مشروعه الصهيوني باللجوء إلى بعض أساطير العهد القديم وتفسيرها بأنها تعطي لليهود حقا تاريخياً في أرض فلسطين ،وشيئاً فشيئاً تحولت عقيدة الأكثرين من اليهود إلى حتمية إقامة دولة اليهود في فلسطين وصاروا ينظرون إلى ذلك على أنه واجب ديني لا بد من الانصياع له .
يذكر روجيه جارودي في كتابه المسمى بالأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية – والذي بسببه حاكمته فرنسا – أن الأيديولوجية الصهيونية تقوم على موضوعية بسيطة جداً ،وهي ما جاء في سفر التكوين من أن الرب قد عقد مع إبرام ( إبراهيم ) عهداً قائلاً له : ( لِنَسْلِك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات ) ، وقد صار القادة الصهاينة -حتى لو كانوا ملحدين – يعلنون استناداً إلى ذلك الوعد المزعوم أن فلسطين أرض أعطاها الله لهم .
فها هي جولدا مائير تقول بحسب مانقله جارودي في كتابه المشار إليه : ( إن هذا البلد موجود كإتمام أو إنجاز لوعد وعده الله نفسه ،ومن المضحك أن نطلب منه حسابات أو شروحاً لشرعية هذا الوعد) ، وأما موشي ديان فيقول : ( إذا كنا نملك التوراة وكنا نعتبر أنفسناكشعب التوراة ،فإنه يجب أيضاً أن نملك الأرض التوراتية : أرض القضاة والشيوخ والقدس والجليل وأريحا وأمكنة أخرى أيضاً ).
وها هو إسحاق رابين يكتب في مذكراته : ( لقد كنت أحلم دوماً بأن أكون شريكاً ليس فقط في تحقيق قيام إسرائيل ،وإنما في العودة للقدس ،وإعادة أرض حائط المبكى للسيطرة اليهودية ،والآن عندما تحقق هذا الحلم تعجبت كيف أصبح هذا ملك يدي ؟ وشعرت بأنني لن أصل إلى هذا السمو طول حياتي ). وحين قام الصهيوني المتطرف باروخ جولدشتاين بقتل المسلمين وهم يصلون في الخليل يوم 25 فبراير 19994 كان يعتبر ذلك -كما يذكر جارودي – نوعاً من الصلاة في قبر البطاركة اليهود ، وحين قام يجئال عمير في 4/ 11 1995 باغتيال إسحاق رابين قال : إنه فعل ذلك بأمر من الله ،وإنه سيقتل هو وجماعة محاربي إسرائيل -التي ينتمي إليها – كلَّ من يَرُد للعرب الأرض الموعودة في (اليهودية والسامرة) أي الضفة الغربية.
ومن قبل هؤلاء جميعاً قال بن جوريون قولته المشهورة التي كان يرددها من بعده مناحم بيجن : ( لا قيمة لإسرائيل بدون القدس ، ولا قيمة للقدس بدون الهيكل ) .
ومهما قيل لنا من أن هناك يهوداً يعادون الصهيونية فإن ذلك لا يغير شيئاً من حقيقة أن قيام دولة إسرائيل واستمرارها مبني على تلك العقيدة الدينية الباطلة التي أشرنا إليها .
كما أننا لا يمكننا استبعاد البعد الأصولي المسيحي في هذه المسألة ،وهو الخاص بالأصوليين البروتستانت ،ممن اصطلح على تسميتهم بالصهيونيين المسيحيين ، الذين يعتقدون بحتمية وقوع معركة (هرمجدون) في وادي مجيدو بفلسطين ،وأنه ببداية هذه المعركة فإن المسيح سيرفع المسيحيين المخلصين إلى السحاب ،حتى لا يضاروا من تلك الحرب ،فإذا انتهت الحرب المدمرة عاد بهم إلى مقر مملكته بالقدس ليقتل ثلثي اليهود ،ويدخل الثلث الباقي في المسيحية ،ولكن لا بد قبل موقعة (هرمجدون ) من تجمع اليهود في فلسطين وإقامة دولتهم الكبرى بها ،وبناء الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى ،ولعل هذا ما يفسر نشأة الصهيونية المسيحية – أو ما يفضل الدكتور عبد الوهاب المسيري تسميته بالصهيونية ذات الديباجة المسيحية- قبل الصهيونية اليهودية ، فقد كانت العقيدة اليهودية كما أسلفنا تحرم العودة إلى فلسطين قبل قدوم مسيحهم الموعود ،لكن الصهاينة البروتستانت هم الذين دفعوا ببعض الشخصيات اليهودية من أجل العمل لإقامة دولة لليهود في فلسطين ،بهدف الإسراع في عودة المسيح حسب اعتقادهم ، ولذا فإن المؤتمر الصهيوني الأول الذي عقد في عام 1897،وهو المؤتمر الذي تأسست به الحركة الصهيونية اليهودية ،لم يشارك فيه أحد من حاخامات اليهود ،بينما خطب فيه القس البروتستانتي وليام هشلر ،مطالباً اليهود بالاستجابة لدعوة الرب -بزعمه- للعودة إلى وطنهم في الأرض المقدسة .
وقد صار معروفاً الآن أن ما يُقدر بتسعين مليوناً أو أكثر في أمريكا يعتقدون بتلك العقيدة الصهيونية المسيحية ، وأن كثيراً من الساسة الغربيين وبخاصة من الأمريكان يعتقدون بتلك العقيدة في وجوب مساعدة اليهود من أجل التعجيل بهرمجدون ومن ثم عودة المسيح ، منهم ريجان وبوش الأب وبوش الابن والرئيس الحالي ترامب وغيرهم ، وفي ظل هذا ينبغي فهم قرار ترامب الأخير .
ولا يُخفي قادة ( إسرائيل ) امتنانهم لأولئك الصهاينة المسيحيين واعترافهم بجميلهم ، حتى قال نتينياهو عندما كان مندوباً لإسرائيل في الأمم المتحدة : ( لقد كان هناك شوق قديم في تقاليدنا اليهودية للعودة إلى أرض إسرائيل ، وهذا الحلم الذي ظل يراودنا منذ 2000 سنة تفجر من خلال المسيحيين الصهيونيين).[ عن كتاب حمى سنة 2000 لعبد العزيز مصطفى كامل ]
إن على من يتحدثون اليوم عن عروبة القدس أن يدركوا أن عروبتها لا تعني بحال خلع رداء الإسلام عنها فهي عربية وإسلامية معاً ،وإن عليهم أن يتذكروا أن عمر بن الخطاب حينما فتح القدس سنة 15هـ إنما فتحها لتكون جزءاً عزيزاً من أمة الإسلام تلي في مكانتها وقداستها مكة والمدينة ، وكذلك حينما حُررت من الاحتلال الصليبي سنة 583هـ إنما حررها قائد مسلم لم يكن عربياً بل كان كردياً وهو صلاح الدين الأيوبي .
وعلى من يذكروننا بأن في القدس مقدساتٍ مسيحية أن يعلموا أنه تحت ظل الحكم الإسلامي في مدينة القدس لم يُمنع النصارى من ممارسة ما يعتقدونه من العبادات ، حتى إن صلاح الدين حين حرر القدس من الصليبيين عزم على هدم كنيسة القمامة -المسماة الآن بكنيسة القيامة – ولكن قيل له كما يذكر الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية ( 12/ 348) : ( قد فتح هذه البلدة قبلك أمير الؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وترك هذه الكنيسة بأيديهم ولك في ذلك أسوة حسنة ، فأعرض عنها وتركها على حالها اقتداءً بعمر رضي الله عنه ) .
وإن القدس إنما ضاعت في العصر الحديث يوم دخلنا الحرب في سنة 1967 م ونحن بعيدون عن شرع الله ،ولم يفكر قادتنا يومها في أن يكون قتالهم لليهود جهاداً في سبيل الله ، ولنتذكر أنه حينما وقعت القدس تحت الاحتلال الصليبي فإن المسلمين في ذلك الزمان قد فهموا حقيقة المعركة وأنها معركة دينية بين الإسلام وأولئك الذين جاؤوا متسربلين برداء المسيح والمسيح منهم براء ، فجاهدوا باسم الإسلام فنصرهم الله .
وكذلك يجب أن يكون حالنا اليوم مع هؤلاء الصهاينة : ها هم أمامنا يتكلمون بمنطق ديني توراتي تلمودي ،فلا يمكننا مواجهتهم إلا بمنطق إيماني قرآني . ورحم الله الشيخ محمد الغزالي إذ يقول في شأن أناس من بني جلدتنا ينتمون إلى العلمانية ويريدون استبعاد الإسلام من المواجهة مع اليهود بل يستبعدون كل أثارة للإسلام في ميدان التربية أو الثقافة ، يقول : ( ويستحيل وصفُ أحد من هؤلاء بأنه إنسان سوي رشيد؛ لأنه لو كان ذا نزعة قومية مجردة لعلم أن بني إسرائيل تسلَّحوا بعقيدةٍ مهاجمة، وسياسة جعلت الدين يغتصب الأرض والعِرْض، فكيف يقبل الدين مهاجِماً وترتضى سياسته وتحترم سطوته ؟ ويرفض الدين مدافعاً ويعتبر إشراكه في التربية والتقوية سياسة رجعية مرفوضة ؟ ) .[ مائة سؤال عن الإسلام ج1 ،ص: 108]
(المصدر: رابطة علماء المسلمين)