بقلم د. مصطفى مسلم
لما كان ترتيب الآيات في السورة توقيفيًّا مُوحًى به، كما هو إجماع الأمة على ذلك، فإن السورة وعلى الرغم من تباعد الفترات الزمنية التي نزلت فيها الآيات الكريمة أحياناً، وعلى الرغم من اختلاف الموضوعات التي تناولتها الآيات وضمتها السورة، يحيط بها سور واحد وتصبغ بصبغة واحدة من حيث الأسلوب، وتهدف إلى هدفٍ واحدٍ لإثبات حقيقة في المعتقد، أو تقويم سلوك للإنسان حاد عن الجادة، أو لفت نظر إلى سنّة إلهية بثها في الكون الفسيح، أو إبراز حقيقة كونية جعلها علامة على توحيد خالقها وعلمه المحيط.
فلا بد أن تتشابه الملامح الظاهرة والخفية في السورة الواحدة، يقول سيد قطب رحمه الله: “… إن لكل سورة من سوره – القرآن – شخصية مميزة، شخصية لها روح يعيش معها القلب كما لو كان يعيش مع روح حي مميز الملامح والسمات والأنفاس، ولها موضوع رئيسي أو عدة موضوعات رئيسية مشدودة إلى محور خاص، ولها جو خاص يظلل موضوعاتها كلها، ويجعل سياقها بتناول هذه الموضوعات من جوانب معينة، تحقق التناسق بينها وفق هذا الجو ولها إيقاع خاص إذا تغير في ثنايا السياق فإنما يتغير لمناسبة موضوعية خاصة، وهذا طابع عام في سور القرآن جميعاً ولا يشذ عن هذه القاعدة طوال السور…”[1].
والتفسير الموضوعي للسورة الواحدة يتركز البحث فيه على إبراز هذه الشخصية المتميزة للسورة من خلال ثلاثة جوانب:
الأول: التعرف على محور السورة وإبرازه.
الثاني: المناسبات في السورة ودورها في إبراز شخصيتها وأغراضها.
الثالث: مقاطع السورة التي تمثل قوام السورة ومتنها، بالإضافة إلى الافتتاحية والخاتمة التي تمثل ملخص السورة وأهدافها.
لنتناول كل جانب من هذه الجوانب بالتفصيل، لأنها في صميم منهج التفسير الموضوعي.
خطوات البحث في تفسير سورة تفسيراً موضوعياً:
الخطوة الأولى: التعريف بالسورة:
قبل الإقدام على أي خطوة في تفسير السورة لا بد من التعرف على السورة وما يحيط بها وذلك من خلال مقدمة أو تمهيد أو عنوان (بين يدي السورة):
- ويتعرض فيه إلى اسم السورة أو أسمائها وهل فيها ما هو مسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إلى أحد من الصحابة، أو أن الاسم اشتهرت به السورة وسجل في المصاحف وتناقله المسلمون.
والوقوف على الاسم المسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم له أهمية خاصة – كما نرى – لعلاقته الوثيقة بمحور السورة.
كما يذكر هذا الباب التمهيدي المرحلة الزمنية التي أنزلت فيها السورة:
فإن كانت السورة من العهد المكي نحاول أن نتعرف على المرحلة التي نزلت فيها: أهي المرحلة الأولى أم الثانية أم الثالثة وذلك من خلال الروايات التي تذكر الوقائع التي سبقت نزولها وكانت سبباً لها، فإن لم تسعفنا الروايات لمعرفة المرحلة رجعنا إلى خصائص السور المكية فإن السور المكية التي نزلت في أول البعثة النبوية تختلف من حيث الأسلوب والموضوعات عن السور المكية التي نزلت في المرحلة الثانية والثالثة.
وكذلك السور التي نزلت في المرحلة الثانية تختلف موضوعاتها وأسلوب عرض القضايا فيها عن أسلوب المرحلة الثالثة. فبإمكان الباحث أن يدرك المرحلة الزمنية للسورة من استعراض الموضوعات ومن خلال دراسة الأسلوب للسورة.
أما إذا كانت السورة مدنية فكذلك نحاول تحديد المرحلة التي نزلت فيها السورة من خلال روايات أسباب النزول، أو من خلال الموضوعات أو القضايا المثارة في السورة.
ولمعرفة المرحلة الزمنية وتحديدها أثر كبير في التعرف على محور السورة وعلى الموضوعات التي تشكل روافد المحور في السورة.
- ويتعرض الباحث في التمهيد أيضاً لمزايا السورة وفضائلها إن وجدت، فإن بعض الروايات تلفت الانتباه إلى نقاط مضيئة أو إلى مراكز ثقل فيها أو إلى لون من ألوان الربط بين آياتها.
أما ذكر عدد آيات السورة واختلاف القرَّاء والعادّين فيها فلا مانع منه، وإن كان دون أهمية النقاط السابقة. ولكن من باب الإحاطة بما يتعلق بالسورة.
الخطوة الثانية: التعرف على محور السورة:
من أساسيات التفسير الموضوعي للسورة التعرف على محور السورة. ويمكن تحديد المحور من خلال الأمور التالية:
الأول: اسم السورة:
فالاسم التوقيفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن الصحابة رضوان الله عليهم ينبئ عن معنى ذا دلالة في السورة، فأول ما يعمل فيه الباحث عقله هو البحث عن الصلة بين اسم السورة وأهم الموضوعات فيها.
يقول البقاعي: “قال شيخنا الإمام المحقق أبو الفضل… الأمر الكلي المفيد لعرفان مناسبات الآيات في جميع القرآن هو أنك تنظر الغرض الذي سيقت له السورة، وتنظر ما يحتاج إليه ذلك الغرض من المقدمات، وتنظر إلى مراتب تلك المقدمات في القرب والبعد من المطلوب، وتنظر عند انجرار الكلام في المقدمات إلى ما يستتبعه من استشراف نفس السامع إلى الأحكام واللوازم التابعة له التي تقتضي البلاغة شفاء الغليل بدفع عناء الاستشراف إلى الوقوف عليها. فهذا هو الأمر الكلي المهيمن على حكم الربط بين جميع أجزاء القرآن، وإذا فعلته تبين لك إن شاء الله وجه النظم مفصلاً بين كل آية وآية في كل سورة، والله الهادي.
وقد ظهر لي باستعمالي لهذه القاعدة بعد وصولي إلى سورة سبأ في السنة العاشرة من ابتدائي في عملي هذا الكتاب، أن اسم كل سورة مترجم عن مقصودها…”.
ثم يطبق البقاعي هذه القاعدة على أسماء سورة الفاتحة فيقول:
“فالفاتحة اسمها: أم الكتاب، والأساس، والمثاني، والكنز، والشافية، والكافية، والوافية، والواقية، والرقية، والحمد، والشكر، والدعاء، والصلاة.
فمدار هذه الأسماء كما ترى على أمر خفي كاف لكل مراد وهو: المراقبة التي سأقول إنها مقصودها، فكل شيء لا يفتتح بها لا اعتداد به.
وهي أم كل خير، وأساس كل معروف، ولا يعتد بها إلا إذا ثنيت فكانت دائمة التكرار، وهي كنز لكل شيء، شافية لكل داء، كافية لكل همٍّ، وافية بكل مرام، واقية من كل سوء، رقية لكل مسلم، وهي إثبات للحمد الذي هو الإحاطة بصفات الكمال، وللشكر الذي هو تعظيم المنعم، وهي عين الدعاء فإنه التوجه إلى المدعو، وأعظم مجامعها الصلاة. إذا تقرر ذلك فالغرض الذي سيقت له الفاتحة هو إثبات استحقاق الله لجميع المحامد وصفات الكمال… ومدار ذلك كله مراقبة العباد لربهم…”[2].
وقد يدق دلالة اسم السورة على محورها ويحتاج إلى إطالة نظر وإعمال فكر، وتتبع الأقوال والسوانح عند المفسرين.
وباستخدام القاعدة التي ذكرها الإمام البقاعي يمكننا الربط بين أسماء مجموعة من السور ومحاورها فمثلاً:
أولاً: سورة البقرة:
سميت باسم حادثة بقرة بني إسرائيل. ولقد ذكر أكثر من عشر خوارق في هذه السورة من ضمنها أكثر من خمس خوارق فيها إحياء الموتى ولم تسمّ السورة بواحدة من تلك، وإنما سميت بحادثة البقرة في بني إسرائيل!!.
وبإمعان النظر في أحداث القصة ودلالاتها نجد أن أبرز صفات بني إسرائيل ذكرت فيها وهي إجمالاً:
1– موقفهم من قضية الغيب والإيمان به ومن ضمن ذلك الغيب: الوحي المنزل من الله على نبيه موسى عليه السلام، حيث لم يؤمنوا به إيمان المتيقن فعندما أمرهم موسى قائلاً: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ﴾ [البقرة: 67]. قالوا ذلك وهم يعتقدون نبوته، وقد لجؤوا إليه للحكم بينهم في قضية القتيل.
وعندما يقول لهم موسى عليه السلام: “إن الله يأمركم” فمعنى ذلك أن الله أوحى إليه بذلك. فهل آمنوا واستسلموا؟!.
2– موقفهم من الأنبياء: إن حادثة البقرة تدل على أن قول النبي لا يحمل عندهم على الجد والالتزام إن خالف أهواءهم، فعندما أمرهم موسى أن يذبحوا بقرة ظنوا أنه يستهزئ بهم، علماً أن موسى عليه السلام في موقف القضاء والحكم، وهو في ذلك يبلغ رسالة ربه، فظنوا به ما ظنوا لعدم إداركهم ما يليق بالأنبياء من الكمالات، وما يعصمون منه من النقائص في الصفات والأخلاق. ﴿ قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [البقرة: 67]. كيف يظنون به ذلك والسفاهة والجهل من الأمور التي لا تليق بعامة العقلاء فما بالك بالأنبياء والمرسلين.
3– موقفهم من الالتزام بالشرائع والأحكام: من طبيعة بني إسرائيل التردد في الالتزام بأحكام الشريعة، والتحايل للتفلت من تكاليفها.
فبد أن بيّن لهم موسى عليه السلام أن الموقف جدّ لا هزل فيه، وأنه أمر من الله، لم ينفذوا وإنما قالوا: ﴿ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ ﴾[البقرة: 68].
فلو أخذوا أدنى بقرة وذبحوها لأجزأتهم كما يقول ابن عباس[3] رضي الله عنهما.
ولكن النفوس التي جبلت على المراوغة والمماطلة لا تلتزم من أول مرة ﴿ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ﴾ [البقرة: 69].
وللمرة الثالثة لم ينفّذوا وراجعوا ﴿ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [البقرة: 70 – 71].
4– وخلال هذه المحاورة والمراجعة يبدو سوء خلقهم وجلافتهم مع موسى عليه السلام فيقولون له: (ادع لنا ربك) فكأن الله جل جلاله هو رب موسى وليس بربهم. وفي ذلك من الوقاحة وسوء الأدب ما فيه.
وعندما وجدوا أن لا مناص من ذبح البقرة (قالوا الآن جئت بالحق) فهل ما كان قبل (الآن) غير الحق وحاشا أن يخبرهم نبيهم موسى عليه السلام بغير الحق.
فأبرز صفات بني إسرائيل ظهرت في هذه الحادثة.
وإذا علمنا أن الحديث عن بني إسرائيل ومواقفهم من أنبيائهم وتعنتهم في تطبيق الشرائع وترددهم في الالتزام بها، حيث اضطروا إليها اضطراراً تحت الوعيد بإنزال الجبل عليهم، قد استغرق هذا الحديث عنهم أكثر من ثمانين آية. مما كشف سوءاتهم وأبرز دخائل نفوسهم للناس كل ذلك ليبين للعالم أنهم بهذه الصفات فقدوا مقومات القوامة على دين الله وشرائعه.
وبما أن دين الله وشرائعه يحتاج إلى أمة أمينة تلتزم بهدايات دين الله وتطبقه، في واقع حياتها وتحمله إلى الناس دعوة عالمية تضحي في سبيله بكل ما تملك، فلا بد من أمة أمينة تملك مقومات القوامة، فجاءت آيات سورة البقرة بعد ذلك لتشير إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم ورسولها الذي كان دعوة أبيه إبراهيم ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 129].
﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143].
وتتوالى آيات التشريع لبناء هذه الأمة بناء ربانياً لتقوم بدور القوامة على دين الله بعد أن سلبت من بني إسرائيل.
لذلك نستطيع أن نقول: إن محور سورة البقرة (القوامة على دين الله).
وهذا المحور ذو شقين: سلبت القوامة من أمة وهو الشق الأول وأسندت القوامة إلى أمة وهو الشق الثاني.
فاسم (البقرة) يشير إلى أسباب سلب القوامة من بني إسرائيل لتسند إلى غيرهم.
ثانياً: سورة آل عمران:
وآل عمران: اسم عائلة عريقة من عوائل بني إسرائيل، ومن نسلها مريم عليها السلام وابنها عيسى عليه السلام.
فأحداث هذه الأسرة وتكوينها وما جرى لها ابتداء من نذر امرأة عمران وكفالة زكريا عليه السلام بمريم وبشارته بيحيى، ثم بشارة الملائكة لمريم عليها السلام بالمسيح عيسى ابن مريم من غير أب. كل ذلك يفند معتقدات النصارى المحرفة عن المسيح وأمه. وتظهر العقيدة الصحيحة في الله وتنزيهه عن الصاحبة والولد. وقد جاءت أكثر من ثمانين آية من أول السورة إلى قرب منتصفها لتصحيح العقائد والرد على انحرافات النصرانية وشبهاتها، ثم تأتي آيات الجهاد في سبيل الله من خلال ذكر غزوة أحُد وأحداثها وعظاتها وعبرها الهائلة، لذا نستطيع أن نقول إن محور سورة آل عمران هو:
(الدفاع عن العقيدة باللسان والسنان) أو(تصحيح العقيدة والدفاع عنها) كان الدفاع عنها باللسان من خلال إزالة الشبهات والرد على النصارى، وكان الدفاع عنها بالسنان من خلال الدروس التربوية لغزوة أُحد.
ثالثاً: سورة النساء:
سورة النساء من السور التي ثبت اسمها توقيفاً، ولو بحثنا عن العلاقة بين هذا الاسم وبين محور السورة لم نحتج إلى جهد كبير، فإن النساء رمز لطبقة في المجتمع الإسلامي تحتاج إلى رعاية وعناية خاصة، فالمرأة تحتاج إلى من يرعى شؤونها في كل مراحل حياتها سواء كانت بنتاً أو أختاً أو زوجة أو أماً.
فمحور سورة النساء يدور حول (رعاية حقوق الضعفاء – المرأة واليتيم – في المجتمع الإسلامي).
لذا نجد أن افتتاحية السورة تحدثت عن حقوق اليتيم ﴿ وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ﴾ [النساء: 2].
وتحدثت عن الإقساط في حق اليتيمات في الصداق والنفقة.
وعن العدل بين الزوجات وعن إعطاء المرأة حقها في الإرث ﴿ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ﴾ [النساء: 7].
وتحدثت بعض مقاطع السورة عن المحرمات من النساء، وعن حل مشاكل الزوجية والرفق بالمرأة في حال نشوزها… إلى أن تختم السورة بآية الكلالة وهي أضعف أنواع الوارثين.
فاسم السورة رمز لرعاية حقوق الضعفاء في المجتمع، ومحور السورة يدور حول ذلك.
رابعاً: سورة المائدة:
وتسمية سورة المائدة بمائدة بني إسرائيل التي كانت معجزة لعيسى عليه السلام ﴿ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ ﴾ [المائدة: 114].
وبما أن المائدة تحتوي على المطعومات والمشروبات المنوعة، فلم يرد في سورة من سور القرآن المطعومات والمشروبات ما أحل منها وما حرم كما جاء في هذه السورة.
﴿ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ﴾ [المائدة: 1].
﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ﴾ [المائدة: 3].
﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ ﴾ [المائدة: 4].
﴿ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ ﴾ [المائدة: 5].
﴿ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ ﴾ [المائدة: 27].
﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ﴾ [المائدة: 42].
﴿ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ﴾ [المائدة: 66].
﴿ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ﴾ [المائدة: 75].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ﴾ [المائدة: 87].
﴿ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا ﴾ [المائدة: 88].
﴿ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ﴾ [المائدة: 89].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ ﴾ [المائدة: 90].
﴿ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا ﴾ [المائدة: 93].
﴿ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ ﴾ [المائدة: 94].
﴿ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ ﴾ [المائدة: 96].
﴿ قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ ﴾ [المائدة: 100].
﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ ﴾ [المائدة: 103].
ثم تختم السورة بقصة مائدة بني إسرائيل.
فهل توجد سورة في القرآن جمعت بين الحلال والحرام من المطعومات والمشروبات كسورة المائدة؟
وإذا أضفنا إلى المطعومات والمشروبات الحسية المطعومات والمشروبات الروحية من العقائد والأخلاق والقصص اكتملت المائدة من أطايب الغذاء المادي والروحي.
فلا حرج أن نقول إذن: إن محور سورة المائدة المطعومات والمشروبات المادية والمعنوية.
وهكذا لو ذهبنا نستقصي الإشارات بين عناوين السور ومحاورها لوجدنا ضالتنا في ذلك؛ لذا نقول: إن الخطوة الأولى للتعرف على محور السورة هو الانطلاق من عنوانها قبل الالتفات إلى أي شيء آخر.
الثاني: ويمكن التعرف على محور السورة من خلال معرفة المرحلة الزمنية للسورة، أي مكيتها أو مدنيتها[4]:
نزل القرآن الكريم في مكة المكرمة لمدة ثلاثة عشر عاماً يرسّخ عقيدة الإسلام، ويبني الشخصية الإسلامية المتميزة بقوتها وفاعليتها ومنهجها الفريد في الحياة من خلال تزكية النفس وتطهيرها من عقابيل الشرك وموروثات الوثنية.
وكان عدة الهدم والبناء في كل ذلك القرآن الكريم بتلاوته آناء الليل وأطراف النهار وتدبر معانيه، والتفيؤ في ظلاله، ومعايشة هداياته، ومقارعة أعدائه به ﴿ فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ﴾ [الفرقان: 52].
—————————————–
[1] في ظلال القرآن: 1 /28، ط2، دار الشروق، 1395هـ.
[2] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: 1 /17 – 21 باختصار، ط الهند.
[3] انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 1 /198.
[4] المصطلح الراجح عند علماء التفسير أن المكي ما نزل من القرآن قبل الهجرة والمدني ما نزل بعد الهجرة.
المصدر: شبكة الألوكة.