مقالاتمقالات مختارة

خطبة الوداع ومبادئ حقوق الإنسان العالمية

خطبة الوداع ومبادئ حقوق الإنسان العالمية

بقلم د. تيسير التميمي

الحلقة الأولى: أدى رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم حجة الوداع في السنة العاشرة من الهجرة ومعه عشرات الألوف من أصحابه وربما كان عددهم أكثر من مائة وعشرين ألفاً ، فخطب فيهم خطبة الوداع التي نستذكرها كل عام ، فاشتملت على أبرز قواعد الإسلام وأسسه ومبادئه ، وقد تعددت روايات هذه الخطبة ومواطنها في كتب الحديث النبوي الشريف : فمنها ما ورد في صحيح البخاري وصحيح مسلم ، ومنها ما ورد في كتب السنن كسنن الترمذي وسنن أبي داود ، ومنها ما ورد في كتب المسانيد وغيرها ، والجمع بين هذه الروايات المتعددة كما أفاد المحققون من علماء الحديث بأنها ثلاث خطبٍ وليست خطبة واحدة : فكانت الأولى في اليوم التاسع من ذي الحجة على صعيد عرفات ، وكانت الثانية في يوم النحر العاشر من ذي الحجّة بمنى ، وكانت الثالثة في اليوم الحادي عشر من ذي الحجة وهو أول أيام التشريق بمنى أيضاً ،

     وقد تكررت كثير من التوجيهات النبوية في الخطب الثلاثة مما جعلها متشابهة فيما بينها لدرجة الظن بأنها خطبة واحدة ، وتكرار هذه المضامين والأمر بتبليغ توجيهاته ووصاياه صلى الله عليه وسلم لمن لم يحضرها من الناس دلالةً كبيرة على أهميتها وعظمة العناية بها.

     وهذه الخطبة مجموعة في النصوص التالية على اختلاف يسير في ترتيب العبارات والمفردات وتشكيلها:

{الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أوصيكم عباد الله بتقوى الله وأحثكم على طاعته وأستفتح بالذي هو خير ،

     أما بعد أيها الناس اسمعوا مني أبين لكم فإني لا أدري لعلى لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا،

     أيّهَا النّاس اسْمَعُوا منّي أُبّينْ لَكُمْ، فَإنّيَ لاَ أَدْرِي، لعَليّ لاَ أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامي هَذَا، في مَوْقِفي هذا،

     أيها الناس أتدرون أي يوم هذا ؟ قلنا اللَّه ورسوله أعلم ، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، قال أليس يوم النحر ؟ قُلنا بلى ، قال أي شهر هذا ؟ قُلنا اللَّه ورسوله أعلم ، فَسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، فَقال أليس ذُو الحجة ؟ قلنا بلى ، قال أي بلد هذا ؟ قلنا اللّه ورسوله أعلم ، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، قال أليست بالبلدة الحرام ؟ قلنا بلى ، قال فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم ، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بلغت ، فمن كانت عنده أَمانةٌ فليؤدِها إلى من ائتمنه عليها ، وإن ربا الجاهلية موضوع ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون وقضى الله أنه لا ربا ، وإن أول ربا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب ، وإن كل دم كان في الجاهلية موضوع وإن أول دمائكم أضع دم عامر ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية ، وإن مآثر الجاهلية موضوعة غير السدانة والسقاية ، والعمد قَوَدٌ ، وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر وفيه مائة بعير فمن ازداد فهو من الجاهلية،

     أيها الناس فإن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا ولكنه رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم فاحذروه على دينكم،

     أيها الناس إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليواطئوا عدة ما حرم اللَّه فَيحلوا ما حرم اللَّهُ ، إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض وإِن عدة الشهور عند اللَّه اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متوالية ورجب مضر، الذي بين جمادى وشعبان،

     أيها الناس إن لنسائكم عليكم حقاً ولكم عليهن حق : لكم أن لا يوطِئْنَ فرشهم غيركم ، ولا يدخلن أحداً تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم ولا يأتين بفاحشة ، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تعضلوهن وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضرباً غير مبرح ، فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، واستوصوا بالنساء خيراً فإنهن عندكم عَوَانٍ لا يملكن لأنفسهن شيئاً ، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهن خيراً،

 أيها الناس إنما المؤمنون إخوة ، ولا يحل لامرئٍ مالُ أخيه إلا عن طيب نفس منه ، ألا هل بلغت اللهم فاشهد ، فلا تَرْجِعُنَّ بعدى كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعده أبداً: كتاب الله وسنتي ، ألا هل بلغت ؟ اللهم فاشهد،

    أيها الناس إن ربَّكم واحدٌ وإن أباكم واحد ، كلكم لآدمَ وآدمُ من تراب ، أكرمكم عند الله أتقاكم ، ليس لعربي فضل على عَجمي إلا بالتقوى ، ألا هل بلغت ؟ اللهم فاشهد ،

     أيها الناس إنَّ الله قد قسم لكلِّ وارثٍ نصيبَه من الميراث ، ولا تَجوز لوارثٍ وصيَّةٌ ، ولا تَجوز وصيَّة في أكثر من الثُّلثِ ، والولد للفراش وللعاهر الحجر ، من ادَّعى لغير أبيه أو تَولَّى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يَقبلُ الله منه صرفًا ولا عدلاً ، والسلام عليكم}.

     وورد أنه صلى الله عليه وسلم سأل الناس بعد الانتهاء من الخطبة فقال { وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون ؟ قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت ، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس : اللهم اشهد اللهم اشهد ثلاث مرات ، فليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع … } رواه البخاري.

     وقال أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع { اتقوا الله ربكم وصلوا خمسكم وصوموا شهركم وأدوا زكاة أموالكم وأطيعُوا ذا أمركم تدخلوا جنةَ ربكم } رواه الترمذي.

     لقد كانت هذه الخطبة الجامعة موعظة مودع ، فكلماتها وعباراتها أحزنت قلوب الصحابة وأبكت عيون بعضهم لأنها إيذان برحيل الحبيب صلى الله عليه وسلم وقرب أجله وفراقه لأحبته ، وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه يبكي لما سمع قوله تعالى { … الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً …} المائدة 3 ، وقد نزلت هذه الآية في منى في حجة الوداع ، ﻓﻘﺎﻟﻮﺍ ﻟﻪ : ﻣﺎ ﻳﺒﻜﻴﻚ ﻳﺎ ﺃﺑا ﺑﻜﺮ؟ إﻧﻬﺎ ﺁﻳﺔ ﻣﺜﻞ ﻛﻞ ﺁﻳﻪ ﻧﺰﻟﺖ ﻋﻠﻲ ﺍﻟﺮﺳﻮﻝ صلى الله عليه وسلم فقال: ﻫﺬﺍ ﻧﻌﻲ ﺭﺳﻮﻝ ﺍﻟله صلى الله عليه وسلم ، وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يبكي لما سمعها ويقول : والله ما بعد الكمال إلا النقصان ، وبالفعل توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أقل من ثلاثة أشهر.

     تعتبر هذه الخطبة دستوراً عظيماً للأمة ولدولة الإسلام ، فقد اشتملت على جوامع الكلم وأصول الأحكام في السياسة والاقتصاد والأسرة والأخلاق والعلاقات العامة والنظام الاجتماعي ، وزخرت بالقيم الحضارية الرفيعة :

* فالقيمة التاريخية أن هذه الخطبة أرست أبرز حقوق الإنسان قبل أكثر من أربعة عشر قرناً من صياغة واعتماد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في سنة 1948م.

* والقيمة التشريعية للخطبة أنها بينت المصادر الأصلية للتشريع الإسلامي وهي القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة، وفصلت أصول الحلال والحرام في المعاملات والعبادات والعقائد.

* وركزت الخطبة على القيم الإنسانية حيث إنها أرست قواعد المساواة بين الناس جميعاً على اختلاف أجناسهم وأعراقهم وألوانهم وأديانهم في الحقوق والكرامة والحرية.

* ولا ننسى القيم القيادية التي علمنا إياها رسولنا صلى الله عليه وسلم ، فقد جسد فيها شخصية القائد القدوة بالفعل لا بالقول فقط ، فقد بدأ أولاً بنفسه وبأسرته وبحاشيته في التزام أحكام الشرع قبل إلزام رعيته بها ، فأول دماء الثأر الجاهلية التي أبطلها هو دم ابن عمومته ابنِ ربيعةَ بنِ الحارث بنِ عبد المطلب الذي كان مُسْتَرْضَعاً في بني لَيْثِ فقتلته هذيل ، وأول ربا في الجاهلية وضعه هو ربا عمه العباس بو عبد المطلب ، وهكذا يكون الحاكم عنواناً للعدل.

* وأما القيمة الاقتصادية في الخطبة فقد نصت على تحريم الربا وهو من أخطر عوامل فساد العلاقات الاقتصادية والاجتماعية بين الناس ، وحرمت كل صور غصب المال وأخذه بغير طيب نفس من صاحبه،

     إن مقررات حقوق الإنسان في الإسلام سواء التي وردت في خطبة الوداع وفي غيرها من النصوص هي إلزامية لأنها من أحكام الشريعة ومبادئها وفرائضها ، فهي تكليفات وليست مجرد توجيهات أدبية أو إرشادات إعلامية أو شعارات كلامية، وهي متصلة بمقاصد الشريعة الإسلامية ، وقبل هذه الخطبة فأهم وأولى وثائق حقوق الإنسان في الإسلام هو القرآن الكريم، فهو الأسبق زمانياً وموضوعياً في تقريرها وتقرير مبادئها وفي استيعاب جميع أنواعها ماديًا ومعنوياً ، ومن هنا امتازت هذه الحقوق بمرجعيتها الربانية الثابتة وبمشروعيتها وشرعيتها.

المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى