خطاب الثّعلب الماكر المكابر
بقلم د. محمد فتحي الشوك
أطلّ علينا الرّئيس الفرنسي “ايمانويل ماكرون” من خلال قناة الجزيرة ليخاطب الجمهور العربي و الإسلامي و قد تغيّرت نسبيّا نبرة صوته و تراجعت حدّته ليتضمّن بعض التّغيير الشّكلي في المواقف الّتي أعلن سابقا أنّه لن يتراجع عنها أبدا ، خطاب تبريري لا يرتقي الى مستوى المراجعة الجوهرية و النقد الذاتي و خال من أيّ اعتراف بالخطأ أو تحمّل للمسؤولية بل تنصّل منها.
فما الّذي دفع ماكرون لمثل هذه الخطوة الشكلية أو هذا التراجع النسبي التكتيكي؟
و ما الذي يجعله يعتذر صراحة عمّا صدرت منه من حماقات و إساءة مسّت قرابة الملياري إنسان و يقوم بخطوات عمليّة حتّى لا تتكرّر الأزمة؟
_بين الاستعمار و الاستحمار:
ممّا قاله الثعلب الماكر ماكرون:
” أتفهّم مشاعر المسلمين إزاء الرّسوم الكاريكاتورية” ليضيف:”اعتقد أنّ ردود الفعل كان مردّها أكاذيب و تحريف كلامي و لأنّ النّاس فهموا أنّني مؤيّد لهذه الرّسوم”
بعبارة أخرى يقول السيد ماكرون بأنّه يفهم و يتفهّم و له القدرة على الاستيعاب و الإدراك و له كلّ وظائف العقل الّتي يفتقدها قطيع من الغوغاء و السذّج و الحمقى ممّن لم يحسنوا فهم ما يقصده ،و انجرّوا وراء من تلاعب بهم كقصّر لا يملكون من أمرهم شيئا من السّهل خداعهم و توجيههم.
ماكرون يتصرّف بنفس مضمون الاستعلاء و العنجهية و الصّلف و الاستكبار و يعلنها صراحة أنّ الخطأ خطؤكم لأنّكم لا تفهمون!
و هو من فهم كلّ شيء و خبر كلّ شيء حتّى أنّه كعلماني ينتمي إلى اللّاأدرية قد فهم الإسلام أكثر من أهله و شخّص أزمته و انطلق كمجدّد تنويري في تصحيح أخطائه فيقول بحسرة الخبير العارف الملمّ بكلّ التفاصيل:” هناك أناس يحرّفون الإسلام و باسم الدّين يدافعون عنه”.
و يتمادى الثعلب في تذاكيه و استغبائه للجمهور و تناقضه مع ما وثّق من تصريحاته الّتي لم تمض عليها أيّام بقوله أنّ الرّسوم الكاركاتورية ليست مشروعا حكوميا و هي منبثقة من صحف حرّة و مستقلّة غير تابعة للحكومة ، و كأنّه لم يأمر بنشرها على واجهات المباني الحكومية أو لم يعلن بتعميمها في المناهج المدرسية باسم حرّية التعبير !
لم ينزل الثعلب من شجرة الغطرسة و الكبر ، ما فعله فقط هو حركة بهلوانية انتقل بها من غصن إلى آخر بعد ما هبّت بعض الرّياح الّتي أجبرته على إعادة التّموقع لينتقل من الصُّباح إلى الضّغاء بعد ألم مقاطعة شعبية لمنتجات بلده بدأت تؤتي أكلها و تبعات غير منتظرة لتصرّفاته الحمقاء و الرّعناء.
مع بداية أزمة الرّسومات المسيئة لسيّد الخلق الّتي كانت ضمن حزمة من الإساءات للمختلف في مجتمع يرفع شعار التنوّع و القبول بالآخر، كان موقف ماكرون و حكومته ينضح استكبارا فجّا و استعلاء وقحا حتّى أنّهم أصدروا أوامر لايقاف حملة مقاطعة المنتجات الفرنسية و كأنّهم مازالوا في الزّمن الكولونيالي الجميل ليكتشفوا انفصامهم و يغيّروا بعض أسلوبهم و يمرّوا الى الاستحمار.
_كيف سيتراجع “ماكرون” حقيقة؟
اختار ماكرون لخطابه التبريري قناةالجزيرة دون غيرها لتمريره و قد تجاهل قنوات أخرى مثل فرنسا 24 و سكاي نيوز و العربية و هي الّتي كانت تبيّض مواقفه و تبرّرها في نطاق الحرب المعلنة على الإسلام السياسي و هي في حقيقتها حرب على الإسلام الحيّ القادر على الحياة و الانتشار.
ظهوره على شاشة القناة الأكثر انتشارا و مهنيّة سبّب الكثير من الألم لبعض مرضى الإيديولوجا و جرحى ثورات الرّبيع العربي و هم من يسعون لإخراس صوتها الى حدّ تعبير بعضهم عن الامتعاض موجّهين النّقد اللّاذع لها بفتحها المجال لمن سمح بإهانة رسول الله في حين أنّهم ابتلعوا ألسنتهم حينما حصلت تلك الإهانة و أخرجوا تبريرات لها و واجهوها بحملة لمقاطعة المنتجات التركية!
ما كان ماكرون أن يتراجع نسبيّا و شكليا لولا الحملة الشعبية لمقاطعة المنتجات الفرنسية و الهبّة غير المتوقّعة لمن انتفضوا نصرة للمبعوث رحمة للعالمين، ردّة فعل بفعل سلمي متحضّر أثبت جدواه و أثمر بالرّغم من حملات التثبيط و التشكيك لأجل تأبيد واقع الهزيمة و بثّ اليأس في النّفوس و سلبها إرادة الفعل السّاعي لأيّ تغيير.
تجاوزت الجماهير المستضعفة و المطحونة حكّامها الوظيفيين العاجزين المنبطحين ليبادروا و يمارسوا شكلا راقيا للمقاومة و ليكتشفوا أنّه بإمكانهم التّأثير و التّغيير ، و ما يرعب الطّغاة العرب أن تنضج حالة الوعي الظرفيّة هذه و تتحوّل إلى مطالبة بالحرّية و الكرامة و المواطنة و المشاركة في الشّأن العام.
اضطرّ ماكرون لبعض التّراجع التكتيكي الّذي لا يرتقي الى الاعتراف بجرمه و لم يقدّم اعتذارا صريحا ، فمن يعتذر يقرّ الذّنب على نفسه كما قال ذات مرّة الرّئيس قيس سعيد بعد أن قبّل كتف “ماكرون” حين تعالت أصوات تطالب فرنسا بالاعتذار عن ماضيها الاحتلالي الحافل بالجرائم ، و قد أجبر الماكر على تلطيف خطابه السّابق المشحون بالحقد و الكراهية ، خطوة لا تكفي لإنهاء حالة الاحتقان لدى من استهدفوا بالإهانة و عوملوا بتمييز واحتقار و لا بدّ لحملة مقاطعة المنتجات الفرنسية أن تستمرّ و تزداد زخما حتّى تحقّق أهدافها بالكامل:
_ ألا تستحقّ اهانة ملياري مسلم اعتذارا صريحا مباشرا ؟
_ احترام خصوصيات الآخرين و عدم المسّ بمقدّساتهم و اصدار قانون يجرّم التعرّض للرّموز الدّينية مثل الّذي يحرّم الخوض في الهولوكوست.
_ الكفّ عن الخطاب العنصري التّحريضي ضدّ المسلمين داخل فرنسا و خارجها و ملاحقتهم و التضييق عليهم لأجل معتقداتهم.
و قد يتساءل البعض كيف لهذه المطالب أن تتحقّق؟
استمرّوا في الضّغط و في المقاطعة و سترون من أعلنها بتحدّ منذ أسبوع أنّه لن يتراجع، كيف يتراجع حقيقة. هو الآن في مرحلة ” أنا فهمتكم”!