بقلم : محمد آل رميح
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ..
وبعد :
يعمدُ أحدُهُم إلى ما خوَّلَهُ الله مِن نعمةِ البحثِ والنَّظَرِ والقِراءة؛ فيُحمم وجهَهُ بتَرْكِ العَدلِ وودع النّصَفَة، وينسى شُكرَ ما نحله الله من هذه النّعمة، وهذا من أمارات الغبن في العلم والبحث والتحصيل .
وبين يدي مصورة جمعت من كلام ابن تيمية في أحكام التكفير ونواقض الإسلام، أراد جامعها – ممّن تقرَّحت كفوفه يفركها حنَقاً على ابن تيمية – أراد أن يُلبس ابن تيمية رداءَ الغلو في الديانة، والشذوذ عن الأمّة .
لقد رأيت ناشر هذه المصورة، يعلكُ ذَمَّ ابن تيمية صباحَه ومساه، يبدي القول ويعيد في ذم أتباع ابن تيمية الذين دلسوا على الأمة وسكتوا عن أرائه في القتل والتكفير !
وليس بي في هذه التّوّه دفاع عنه -رحمه الله- فقد نشَرَ اللهُ له مِن جميلِ الذِّكر ولسانِ الصِّدقِ ما لن يضيرَهُ معه عزيف -الأستاذ كاتب المنشور وأمثاله-، لكنَّني أودُّ هنا أن أبيِّن حال خصوم الشَّيخ في عدمِ قيامهم بأمانة العلم والقلم .
رأيت في هذا المنشور أن كاتبه ينعى على أتباع ابن تيمية كيف يدلِّسون! ويغشّون الأمَّةَ بدفاعهم عن تكفير ابن تيمية ناقلًا من كُتُبِهِ تلك المواضع الَّتي جعل وَكْده إثبات الغلوّ عند ابن تيمية بها!
وسأعرض إلى هذه النُّقول الَّتي نقلها يشنِّعُ بها ويخفض القول فيها ويرفعه، وسيتبيَّن للقارِئِ الكريم موضع كاتب المنشور .. مِنَ التَّدليس ونسج الفِرى وإيهامِ القُرَّاء .
– لقد أنكَرَ الكاتب على شيخ الإسلام مسائِلَ هي محلُّ اتِّفاقٍ عند السَّلف وفقهاء الأمَّة أو هو قول أكثرهم، لكنه زخرَفَ القولَ فيها لِيُوهِمَ قرَّاءَهُ أنَّ هذه المسائل من مفردات ابن تيمية الَّتي شَذَّ بها !
– فإن كان الأستاذ كاتب المنشور يعلم أنَّ هذه المسائل ممَّا اجتمَعَ عليها أكثر العلماء؛ ثمَّ أخرجها مخرج الذَّمِّ لمن تقلَّدها فهذا خلع لزينة الإنصاف ولباسه، وحريٌّ بصاحبه أن يشتغل بالتَّزكية والتَّربية عن تتبُّعِ -ابن تيمية أو ابن عبد الوهَّاب- أو غيرهما من علماء الأمة .
والحقيق بالذَّمِّ مَن جَهِد طوْله أن يذمَّ مسلِمًا بما ليس فيه، وهذا ذنبٌ على حياله يوجب توبة.
وأمَّا إذا كان الأستاذ لا يعلَمُ أنَّ تلك المسائل الَّتي ذَمَّ بها خصومه – لا يعلَمُ – أنَّ كثيرًا منها مسائل وفاقيَّة بين السَّلف؛ فهذه آبدة علميَّة ! تصيح على صاحبها بالجهالة .
فإنّ مَن جَهِلَ هذه المسائل مِن علوم الإسلام ما له وللقلم والكتابة والبحث ؟
أفلا يتَّقي الله فيرجع ليتعلَّم قبل أن يتكلَّم ؟
– فمِنَ هذه المسائل الَّتي أراد أن يشنِّعَ بها على ابن تيمية:
تكفير مَن قال بخَلْقِ القرآن !
– ولستُ أدري هل جَهِلَ الأستاذ الكاتب كلام السَّلف في الجهميَّة القائلين بخَلْقِ القرآن ؟ !
أرأيتم حال خصوم ابن تيمية ؟
إن جامع المنشور يزعم تعظيمه لكلام السلف وعلماء الأمة، ويحيص حيصات النكير على من يزعم أنّهم يخالفون علماء الإسلام .
فهل سأحتاج أن أنقل من كلام السَّلف تغليظهم على من قال هذه القالة ؟
ماذا يريد الأستاذ .. حين يمضَغُ لعابَ التَّشنيع على خصومه بأمرٍ هو محلُّ إجماع السَّلف .
لقد نقل اللَّالكائيُّ عن مئين من السَّلف كلهم قد اجتمعَتْ كلمَتُهم على القول بتكفير مَن قال بخلق القرآن . (شرح أصول الاعتقاد ٢/٢٧٤).
– وضميمة ذلك مسألة التَّكفير بإنكار رؤية الله تعالى يوم القيامة، فجعلها الأستاذ .. مورد نكير على ابن تيمية، وتلك شكاة ظاهر عنه عارها، فهذه القضية من منصوصات أئمَّةِ السَّلف، ودونك كتب الآثار والسُّؤالات والسُّنَّة مشحونة بذكر ذلك .
أفيكفيه ما روى أبو داود في مسائله: ” عن أحمد فيمن كذب برؤية الله، فقال: هو كافر ” . ( مسائل أبي داود – م ١٧٠٠ )
بل جعل إمامُ الأئمَّةِ ابنُ خزيمة منكِرَها أسوأ حالا في الدّنيا -عند العلماء- مِنَ اليهود والنَّصارى والمجوس !
(التّوحيد لابن خزيمة ٥٨٥/٢)
وممَّا نقمه النَّاقمون على ابن تيمية -في مسائل التَّكفير- تكفيرُهُ لتارِكِ الصَّلاة !
فانظُر كيف احتملت القوم نبأة الخصومة حتَّى خاصموا في مثل هذه المسألة الَّتي اشتهر تكفير السَّلف بها، بل حكي عليه الإجماع القديم، ولو اقتصر الناقمون فجعلوا المسألة من مواطن الخلاف ثم ذكروا قول مَن خالف مِنَ السَّلف لكان أقلّ في اللَّومة والعذل، وأما أن يذموا من قال بقول أكثر السلف بل هو إجماع عند جمع منهم فتلك عثرة لا تقال .
وأمَّا هذه المسألة فقد جعلها التَّابعيُّ الجليل عبد الله بن شقيق إجماع الصَّحابة كما رواه التّرمذي عنه (٢٦٢٢) .
وقال أيّوب السّختيانيّ: ” ترك الصَّلاة كفر لا يختلف فيه ” . (تعظيم قدر الصّلاة ٢/٩٢٥)
وحكى الإجماع عليه إسحاق بن راهويه أيضا، كما نقله عنه محمّد بن نصر في كتابه الجليل تعظيم قدر الصّلاة . (٢ / ٢٢٩)
وليس يخفى الخلاف الحادث في مسألة تكفير تارك الصَّلاة، وأمَّا القول بقتل تاركها، فهو قولُ جمهور الفقهاء من المتقدمين والمتأخرين، ونصَّ عليه الشَّافعيُّ في الأم. (١/٢٩١) وهو مذهب المالكية . (القوانين لابن جزي ١٢ – مواهب الجليل ١/٥٢١) .
لكنهم قالوا: يُقتَلُ حَدًّا، بخلاف مذهب الحنابلة في المشهور عنهم أن قتله رِدَّة . (الكافي لابن قدامة ١/١٧٨).
وهذا قول جماعات من العلماء، كالنّخعيّ وابن المبارك والطّيالسيّ وابن أبي شيبة وزهير بن حرب ومحمّد بن نصر، بل ذَكَرَ بعضُ العلماءِ أنَّ القولَ بإكفار تارك الصَّلاة هو مذهب أصحاب مالك، كما نقل ابن أبي زيد القيروانيّ في (النّوادر والزّيادات):
” قال ابن حبيب : وأمّا تارك الصّلاة إذا أمره الإمام بها فقال : لا أصلّي فَلْيُقْتَلْ ولا يؤخَّر إلى ما بينه وبين آخر وقتها، وهو بتركها كافر؛ تركها جاحدا أو مفرطًا أو مضيّعًا أو متهاونًا “. (١٤/٥٣٧)
وكذا نقل المزنيُّ وجعله مذهب الشَّافعيِّ كما في مختصره، قال عن شيخه الشَّافعيِّ:
” قد جعل تارك الصَّلاة بلا عُذرٍ كتارِكِ الإيمان فله حُكمُهُ في قياس قوله؛ لأنَّه عنده مثله ولا ينتظر به ثلاثا ” .
( مختصر المزني ٥٣ ) .
ومع هذا فلا شكَّ أنَّ جَمْعًا مِن أهل الحديث والسُّنَّة قد قالوا بعدم كُفر تاركِ الصَّلاة، ولهذا قال محمّد بن نصر المروزيّ بعد نقله لقول أكثر أهل الحديث القائلين بإكفار تارك الصَّلاة :
” وقد خالَفَتْهُم جماعةٌ أخرى من أصحاب الحديث فأبَوا أن يكفروا تارك الصّلاة، إلّا أن يتركَها جحودًا أو إباءً واستكبارًا واستنكافًا ومعاندةً فحينئذٍ يكفر” (٢ / ٩٣٦).
فهذا بعض حال هذه المسألة، فأيُّ محلّ أراد الناقمون على ابن تيمية أن ينزلوا إذ فوّقوا نصال لائمتِهِم على مَن قال بقول جماهير السَّلَف -بل هو إجماع عند بعض العلماء-، وكيف يؤتَمَنُ على القلم مَن هذا صنيعُه، وذلك شأنه .
ومَن رأى هذا أيقَنَ أنَّ كثيرًا مِن خصومِ شيخِ الإسلامِ ابن تيمية لا يلوح في نقدهم للإنصاف لائحة، ولا للعدل رائحة، ولذا فإنَّكَ إن أكملت تلك المسائل الَّتي أثاروا بها الشَّنائع على شيخ الإسلام؛ رأيتها مِن جنس ما سبق، كاستحلال المحرَّمات، فمِمَّا نقلوه واستكبروه مِن كلامه رحمه الله: حكمه فيمن استحل أكل الحيَّات والعقارب، وأنه يستتاب من ذلك وإلا قتل، وهي مثال من مُسلّمة شرعيَّة ليس يخلو منها كتابٌ فقهيّ !
فإنَّ الفقهاء مجمعون على إكفار مَن استحلَّ محرَّمًا أو حرَّم حلالًا قطعِيًّا، وانظر في ذلك على نحو مختصر :
– كلام الطّبريّ في استحلال الفروج المحرّمة في (تهذيب الآثار ٥٧١ / ١) .
– ومن كُتُبِ الحنفيَّة انظر (البحر الرّائق – إكفار من اعتقد الحرام حلالا ١٧/٥) .
– ومن كُتُبِ المالكيَّة انظر (منح الجليل – في تكفير المستحلّ للمحرّم المعلوم من الدِّين كالخمر والزِّنا، أو أنكر حلّ البيع وأكل الثمار – ٩ / ٢١٠) .
– وفي كُتُبِ السَّادة الشَّافعيَّة انظر (تحفة المحتاج – في استحلال ما تحريمه ضروريّ – ٣ / ٦) .
ومنه ما ذكره النّووي في (المنهاج – في تكفير من استحلَّ ترك القيام في الفريضة لغير عذر – ٦ / ١٤) .
– وفي ( المغني لابن قدامة فيمن استحلَّ الخمر، قال أحمد: يكفر – ٩ / ١٢ ) .
فما بالُ الأستاذِ جعل كُلَّ هذه التَّقريرات من كتُبِ علماءِ الإسلامِ دَبْر أُذُنَيه، ثمَّ راحَ ينعى على ابن تيمية موافقته لعلماء الأمَّة !
أما والله لقد شان نفسه مَن بلغَت به الخصومَةُ هذا المبلغ.
– ولربَّما قال قائل: فقد يكون الأستاذ الكاتب وأمثاله .. أخطأوا فظنُّوا أنَّ هذه الأقوال ممَّا انفرد بها ابن تيمية، وسقط عنهم أنَّ هذه المسائل ممَّا اتَّفَقَت عليها الأمَّة أو كادت ..
قلت: وأنا فربَّما يقع في نفسي مِن هذا شيءٌ؛ لولا أنِّي رأيتُهُم ينسبون له ما لم يقله مِن أصله !
كنقلهم عنه في مسألة المجاز في القرآن، فإنَّ مَن له أدنى اطِّلاع على كلام ابن تيمية في هذه المسألة يعلم أنَّه يحكي خلاف علماء الإسلام في المسألة خاصَّةً عند المتأخِّرين، وأمَّا النَّقل الَّذي نقلوه وزخرفوا أنَّه في مسألة إثبات المجاز في القرآن، فليس كما زخرفوا وموهوا، ولكنّ شيخ الإسلام كان يلزم من قال : بأنّ العموم إذا خصّص ولو بالاستثناء فهو مجاز، وأنّ قول: لا إله إلا الله مِنَ المجاز، فانظر دُلسة مَن جعَلَ الكلام في مسألة المجاز في القرآن، انظر ذلك في المجموع (٤٥٦/٢٠).
ومثله نقله في مسألة التَّوسُّل، فإنَّ النّاقم ذكر طرفها ثمَّ قطمر !
ولم يذكر الصُّورة الَّتي قال فيها ابن تيمية: “مَن أنكرها يُستتاب ” ..
وربَّما حمَلَهُ على ذلك عِلمُهُ أنَّ مسألة التَّوسُّل بالنَّبيِّ ﷺ هي المسألة الَّتي استطال بها الأشاعرة والصُّوفيَّة على ابن تيمية فكفَّروه، ويكأنَّ الأستاذ لم يرد أن ينبِّهَ المتابعَ له إلى حقيقةٍ يعرفها القارِئُ للحوادث الَّتي وقعَت لابن تيمية مِن خصومه، فإنَّ خصومَ شيخ الإسلام هم من ركب الصَّعب والذّلول لاستباحة دمه وتكفيره، كما قال ابن فضل الله العمري: “اجتمع عليه عصبُ الفقهاء والقضاة بمصر والشّام وحشدوا عليه خيلهم ورجلهم، فقطع الجميع وألزمهم الحجج الواضحات أيّ إلزام، فلمّا أفلسوا أخذوه بالجاه والحكّام” . (المسالك ٦٩٨/٥).
ولـمّا دالَت على خصومِهِ الدَّولةُ وأراد الأمير أن يأخذَهُم لحنقِهِ عليهم قال له ابن تيمية: “هؤلاء لو ذهبوا لم تجد مثلهم في دولتك، أمّا أنا فهُم في حلٍّ مِن حقّي ومِن جهتي وسكنت ما عنده عليهم “
قال ابن عبد الهادي : فكان القاضي -زين الدّين ابن مخلوف قاضي المالكيّة- يقول بعد ذلك: ما رأينا أتقى من ابن تيمية، لم نبق ممكنًا في السَّعي فيه، ولمّا قدر علينا عفا عنّا” (العقود الدّرية ٢٩٨).
– وأمّا هذه المسألة فليست تشكل على أحد، فإنّ ابن تيمية تحدَّث عن أنواع التَّوسُّل الَّتي أجمَعَ عليها المسلمون، وهو التَّوسُّل بالإيمان بالنَّبيِّ ﷺ وبدعاءِ النَّبيِّ ﷺ وشفاعَتِه، ثمَّ قال: “فمَن أنكَرَها فهو كافِر”. (المجموع ١ / ١٥٣).
أفيُنكِرُ الناقمون.. هذا الأمرَ مِن دينِ الله ؟
فإن كانوا ممَّن ينكِرُ ذلك فَلْيُبْدوا لنا قولَهم ولْيُشهِروا لنا رأيَهم، وسيبدرهم أصحابهم – المتصوّفة والأشاعرة – بالنَّكير والتَّكفير، وإن كانوا لا ينكِرُون ذلك وهم فيه موافقون لعامَّةِ المسلمين، فلماذا أداروا كلمات الغيظ والغلظة على ابن تيمية بذلك ؟
– لست أكتم القارئ أنّي أطفت بحساب ناشر المصورة .. فعجِبتُ كيف أدرَكَهُ ذلك البغي على ابن تيمية ! فقد رأيته مناصرًا لقضايا المسلمين، تنطف كلماتُهُ بالعزَّة الإيمانيَّة والتَّكرُّه للطُّغاة وأعوانهم، فكيف – لمن يحمل مثل هذه النَّفس العزيزة بين جنبيه – أن لا تستدعيَ سيرةُ شيخ الإسلام منه تفكُّرًا وتأمُّلا !
وقد كان العهد بأصحاب هذه النُّفوس ممَّن تتبغَّضُ للظَّالمين وأذانبهم؛ أنَّها أكثر النَّاس مَيلًا لتفهُّمِ كلامِ ابن تيمية واختياراتِه وتقريراتِه لِـمَا يجدون في كلامه -رحمه الله- من الإباء الإيمانيّ مع طهرة النّقاء الأثريّ ..
والحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.