خصائص الفكر الإسلامي
بقلم د. رشيد كهوس (*)
إن الإسلام هو الدين الذي ارتضاه الله تعالى للعالمين، وأخبر سبحانه أنه لا يقبل من أحدٍ سواه، وهو منهاج حياة الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، دين كامل لا نقصان فيه، وشامل شمولًا يستوعب الزمان كله والحياة كلها وكيان الإنسان كله، و جامع لكل القيم والأخلاق والتشريعات، وعالمي، أي ليس لأمة بعينها ولا لجماعة لوحدها؛ إنما للإنسانية كلها بمختلف أطيافها وألوانها وألسنتها وأصولها وقبائلها وأممها، ودين الأولى والآخرة.
لذلك خصّه الله بخصائص ومميزات وصفات انفرد بها عن غيره من الديانات والمناهج والملل والمعتقدات.
1-الربانية موردًا: من أبرز الخصائص الذي يتميز بها الفكر الإسلامي أنه رباني المصدر؛ لكون المفكر المسلم يُعمل تفكيره في الوحي (القرآن والسنة) والكون، منهما ينطلق، وفي ضوئهما ومن خلالهما يستنتج ويستنبط.
إذاً الفكر الإسلامي هو فكر رباني، أي ربانية وجهته وقصده ومصدره .
فكون الفكر الإسلامي يتخذ الربانية موردًا يميزه عن باقي التصورات الفلسفية -التي ضلت الطريق- والمعتقدات الوثنية التي ينشئها الفكر البشري وتصوراته الخيالية.
وهذه الربانية التي يتميز بها الفكر الإسلامي، هي عكس ما يتميز به اتجاه الفكر الحداثي واللائيكي الذي يعتمد على تصورات بعيدة عن الدين؛ بل رافضة للدين.
وهذا يبين لنا الفرق الشاسع والبون الواسع بين الفكر الإسلامي الذي يستند إلى مصادِر ربَّانيَّة وبين الفكر الحداثي اللائيكي والتغريبي الذي يفتقر إلى هذه المصدريَّة.
أضف إليه، أن المعرفة في الفكر الإسلامي تنفتح على عالمين؛ عالم الغيب وعالم الشهادة، على عكس الفكر الغربي اللائيكي الَّذي يقتصر على الجانب المادّي من عالم الشهادة فقط، وما هو محسوس وخاضع للتجربة، وصدق الله عزّ اسمه حيث يقول: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ [سورة الروم: الآية 7].
2- الشمولية والتكامل: سبق أن قلنا بأن الفكر الإسلامي يتخذ الربانية موردًا، فلا غرو إذن أن يكون متكاملًا وشاملًا لكل نواحي الحياة ومجالاتها الدينية والدنيوية، ولكل ميادين النشاط البشري، والقضايا الكبرى والصغرى في التجمع، ولا يستثني مجالًا من مجالات الحياة أو جانبًا من جوانبها، ويستوعب الإنسان كله بماضيه وحاضريه ومستقبله.
فما من ناحية من نواحي الحياة، ومجال من مجالاتهما؛ إلا وتناولها الفكر الإسلامي، وأوضح فيها الخير من الشر، والصحيح من الفاسد، والحق من الباطل، والصدق من الكذب، والطيب من الخبيث، والغث من السمين، في صورة شاملة وكاملة لنظام الحياة في الإسلام الذي يجب أن يقوم على الخير وتنميته، وتجنب الشر والعمل على استيصاله.
ثم إن هذا الشمول يتناول كل قضية من القضايا بكلياتها وجزئياتها بصورة كاملة جامعة، وبسعة ودقة وتفصيل، في ضوء الشريعة الإسلامية الغراء، ووفق منهاجها المستقيم، وضوابطها ومعاييرها.
3-الواقعية: الفكر الإسلامي واقعي؛ لكونه يتعامل مع حقائق موضوعية ذات وجود حقيقي، وأثر واقعي إيجابي، ومع الواقع المشهود، لا مع تصورات عقلية مجردة، ولا مع مثاليات خيالية لا مقابل لها في حياة الناس ولا وجود.
فكر يربط العلم بالعمل، ويجمع بين الأصالة والمعاصرة، ويعيش واقع الناس، فهو متجدد بحسب الوقائع والأحداث.
فواقعية الفكر الإسلامي تنفي عنه الخيال، وتجعله مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالواقع وما يدور فيه، فهو لا ينفصل عنه تمامًا، فهو لا يسبح في بحار الخيال، ولا يحلِّق في أجواء المثالية المُجنَّحة، فيفرض إنسانًا لا وجود له في الواقع، كما صنع الفارابي في مدينته الفاضلة وأفلاطون في جمهوريته الخيالية، وكما تخيَّلت الشيوعية المادية الغافلة عن الله والدار الآخرة في أذهانها عن المجتمع الذي تنعدم فيه الفوارق والطبقية وتزول الملكية، ولا يحتاج إلى دولة ولا قضاء ولا شُرطة ولا سجون!.
4- الوسطية والتوازن: الوسطية تعني الخيريّة، فلا إفراط ولا تفريط، والوسطية في كل شيء «من أهم ما تميز به الإسلام عن غيره من الشرائع السابقة والقوانين الوضعية، ويقصد بها الاستقامة وعدم الحيدان»(1)، كما يقصد بها التعادل بين طرفين متقابلين أو متضادين، أو التوسط بينهما؛ بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر ويحيف عليه، ولا يأخذ أحدهما الحق أكثر من الآخر ولا ينفرد بالتأثير ويطرد الطرف المقابل، فالشجاعة وسط بين التهوّر والجبن. وذم الله البخل؛ لكنه ذم كذلك الإسراف، وجعل الإنفاق في سبيل الله هو المطلوب شرعًا. قال الحق جلّ وعلا: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ [سورة الفرقان:67].
وفي قوله عزّ اسمه: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ، أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾ [سورة الرحمن:7-9]، نلمح إشارة قوية إلى الوسطية، فلا وكس ولا شطط، ولا إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا تقصير، في الفكر الإسلامي.
وكل نهج خالف خصيصة الوسطية برئ منه دين الله، وجاءت شريعة الإسلام بالحنفية السمحة، والوسطية والاعتدال، وبالقول الفصل الذي يعلو ولا يعلى عليه.
لكن الفكر الإسلامي الرباني المصدر سلك طريقًا وسطًا من غير تفريط ولا إفراط؛ فلا هو ضيق الخناق على الناس حتى تمله نفوسهم وتنفر منه قلوبهم، ولا هو أرخى لهم العنان في السهولة حتى تغرق النفوس في أوحال شهواتها وبراثين ملذاتها، وتبلغ منتهى هواها ومآربها.
وهكذا فالفكر الإسلامي يتميز بالاعتدال والتوسط دون إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا تقصير، وصدق الله -جلّ وعلا- القائل في كتابه الحكيم: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [سورة البقرة: من الآية143].
كما يتميز الفكر الإسلامي بالتوازن بين العقل والقلب، والمادة والروح، والدنيا والآخرة، ومصالح الفرد ومصالح الجماعة، وإعطاء القضايا المركزيّة والأساسية اهتمامًا أكبر، وللقضايا الهامشيّة اهتمامًا أقلّ، بحيث يتناسب ذلك مع بعدها… توازن يمنع الفكر من الاندفاع هنا وهناك، والغلو هنا وهناك…
تلك إذن، هي وسطية الفكر الإسلامي وتوازنه لا يكلّف الناس شططًا، ولا يرهقهم عسرًا، ولا يجعل عليهم حرجًا، بل يرشدهم إلى سواء السبيل، ويراعي فطرة الإنسان وقدراته العقلية، على نقيض المدارس المثاليّة التي تكلّف الإنسان ما لا يطيق، وعلى نقيض المدارس الماديّة العبثيّة التي لا تراعي خَلق الإنسان وخصائصه وفطرته.
5- الإيجابية والوضوح: الفكر الإسلامي إيجابي وناصع الوضوح، واضح في وسائله ومناهجه، واضح في أهدافه وغاياته، يستقي وضوحه من المصادر التي يستمد من نورها (الكتاب والسنة)، فكتاب الله تعالى واضح لا يعتريه الغموض، وكذلك سنّة سيدنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- جلية واضحة لاحبة.
هذا الوضوح الذي يتميز به الفكر الإسلامي، يقابله غموض في الفلسفات والأفكار والمعتقدات والأيدلوجيات الحديثة.
هذا الفكر الإسلامي الواضح المشرق يعمل بكل وضوح على تحقيق منهاج الله في الحياة البشرية، وإقامة حياة الناس على هذا المنهاج اللاحب، حتى يدركوا أن وجودهم في الأرض ليس عبثًا، وإنما هو قدر مقدور له مقصد وغاية، وأن استخلافهم في الأرض يقتضي منهم العمل بإيجابية يزرعون في دنياهم ما يحصدونه في آخرتهم.
6- موافقة الفطرة: انسجام هذا الفكر مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها؛ لأنّ الذي خلق هو الذي أنزل، وأيّ خروج على مبادئ الإسلام يعني التناقض مع الفطرة، كما هو شأن الفكر اللائكي -المطموس فطريًا- الذي يدعو إلى فصل الدين عن الدولة، وإلى السفور والفجور، وإلى حصر الدين بين جدر المساجد، وإلى الاهتمام بالدنيا دون الآخرة…
أما في فكرنا الإسلامي فصلاح دنيا المرء يؤدّي إلى صلاح آخرته، وصلاح آخرته مشروط بصلاح دنياه. وهذا يعني أنّ الإيمان بالآخرة يؤدّي إلى صلاح الدنيا، وهذه هي الرؤية الشاملة الصحيحة، تنظر إلى الأمور بعينين لا بعين واحدة.
وخلاصة القول: انطلاقًا من الخصائص السابقة؛ فإن الفكر الإسلامي فكر نسبي بصفة عامَّة؛ لأنَّه صادر عن الإنسان ووعيه، ومتلبسه بالمكان والزمان، وفكر الإنسان نسبي وإن وصل إلى درجة عالية من الدقة، فالحقّ المطلق هو ما يختصّ به الله – جلّ وعلا-. أمَّا علوم الإنسان فهي حقائق نسبيَّة في تنوّعها وتعدُّدها، فالحقّ واحد مطلق متجاوز للإنسان والتَّاريخ يختصّ به الله تعالى، والحقائق متعدِّدة متنوِّعة نسبيَّة، وهي تجلّيات للحقّ المطْلق، لكونها تتَّخذ من الله تعالى المبدأ والغاية.
وخلاصة المرام في تحقيق المقام: لا مفر إذن، إن رمنا سبيل الرشاد من إرساء دعائم فكرنا على مكين الكتاب والسنة، والنظر إلى الأمور بمنظار القرآن، وعوينات السنة الشاهدة والسيرة النبوية العطرة. وإلا تفرعت بنا السبل فنَتِيه بين مفاهيم العصر وتقليد الأعمى، وتكريس أخطاء الماضي.
إن القرآن الكريم رسالة خالدة لا تبلى، والسيرة العطرة مثال سام لا ترقى إليه المهانة، فمن منبع نورهما نقتبس، وبهديهما نهتدي، لنعالج مآسي الأمة من الأعالي، من إزاء القرآن والسنة، لا من أسافل التقليد والخنوع البليد.
—————
(1) الحيدان: مصدر قولك: حاد عن الطريقِ حَيَداناً وحَيْداً وحَيْدةً وحِياداً وحُيودا ومَحيدا وحَيْدودةً : إذا مال عنه.
(*) أستاذ ورئيس مجموعة البحث في السنن الإلهية بكلية أصول الدين بـ«تطوان» جامعة القرويين، المغرب.
(المصدر: مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند)