بقلم حمدي شفيق
هناك خرافة شاعت في كتابات حديثة لبعض المعاصرين عما يُسَمّونه بنظرية”المُستبد العادل”! وهذا المصطلح غريب تماماً عن المبادئ التي جاء بها الكتاب والسُنّة.كما أنني لم أعثر له على أي أثر فى كتابات علماء السلف رضوان الله عليهم أجمعين، فهو “بدعة سياسية” بجدارة! وينسب هذا الاصطلاح إلى جمال الدين الأفغاني، باعتباره أول من رأى أن العالم الإسلامي يحتاج إلى وجود “مستبد عادل” لتحقيق النهضة!! وهناك من يرى أن تلميذه الشيخ محمد عبده هو أول من نادى بها.
ويعود ظهور فكرة المستبد العادل إلى الشيخ (محمد عبده) الذي أرسل إلى مجلة “الجامعة العثمانية” عام 1899م مقالاً بعنوان “إنما ينهض بالشرق مستبد عادل”، وقد أراد بها الرد على الداعين إلى إصلاح الشرق من خلال الأخذ بالحياة النيابية والدستورية مسايرة للغرب، فيما اعتقد هو أن الأخذ بالنظام النيابي دون تهيئة الناس لتقبّله قد يؤدي إلى انتكاسة خطيرة، مُفَضّلاً البدء بمشروع تربوي للارتقاء بالأمة إلى مستوى ممارسة الحياة النيابية.
وحدد (عبده) مهام المستبد العادل الأولى في توحيد الصف وإرساء قواعد الديمقراطية، حيث وضع جدول أعمال تدريجيّاً ، يبدأ بتشكيل المجالس البلدية، ثم يليها في المرحلة الثانية مجالس الإدارة، وبانتهاء تلك المرحلة، تكون الأوضاع مناسبة لتشكيل المجالس النيابية التي هي أعلى مراحل المشاركة الشعبية في الشؤون العامة.
وقد تأثر (عبده) كما يرى البعض، بالظروف التاريخية في تلك الفترة التي شهدت انهيار الخلافة العثمانية، دون أن ينكر أثر محمد عبده في ترسيخ نموذج المستبد العادل في العقل الجمعي العربي، حتى أصبح النموذج الذي تحتذيه الحركات القومية العربية في النصف الثاني من القرن العشرين.
ومن النظرة الأولى يتضح لنا التناقض الصارخ في المصطلح ذاته، لأنه يستحيل أن يكون الحاكم عادلاً ومستبداً في ذات الوقت.
فلتحقيق العدالة يجب على الحاكم الأخذ بالشورى قولا وفعلاً، بينما الاستبداد يعني انفراده بالسلطة واتخاذ القرار وحده، مما يؤدي حتماً إلى انعدام العدل، أي الظلم المُحَقّق. والشورى وجوبية بأمر الله وتطبيق الرسول، صلى الله عليه وسلم، لها -دائماً- ثم تطبيقات الخلفاء الراشدين من بعده.
وبالتالي فالحاكم المسلم لا يكون مستبداً أبداً. وقد ذكر الله تعالى موقف ملكة سبأ العاقلة العادلة التي قالت لقومها: (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ) سورة النمل:32 . وفي المقابل ذمّ التنزيل الحكيم استبداد الطاغية فرعون: (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ) سورة غافر: من الآية29. وذمّ كذلك قومه الذين استسلموا للاستبداد: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ) سورة الزخرف:54..
وأغلب الظن أن هذه الفكرة المشبوهة والدخيلة على الفكر السياسي الإسلامي، مأخوذة من أفكار السياسي الغربي المُتخبّط “ميكيافيللي” الذي كان يقول إن: “الغاية تبرر الوسيلة”! فقد زعم ميكيافيللي أنه ينبغى إعطاء الحاكم كافة السلطات التي تمكّنه من السيطرة على الدولة و إدارة شؤونها ولو أدى به ذلك إلى الاستبداد! ويبرر ذلك بأن النظام مع الاستبداد أفضل من الديمقراطية مع الفوضى. ويرى بعض العلماء المعاصرين أن هذا الرأي كان له ما يبرّره في الفترة التي كتب فيها ميكيافيللى هذا الرأي فقد: “كانت أوروبا مُمزّقة فى ظل العهد الإقطاعي، وكان الأمراء هم المتصرّفون الرئيسيّون في كل شيء، ومع بداية تكوين الدولة المعاصرة، كان لابد من تركيز السلطة حتى يمكن إقامة الدولة على أساس سليم.”
وهكذا صار من المستقر عليه في تلك الفترة -منذ بداية القرن السادس عشر حتى اندلاع الثورة الفرنسية- أن رئيس الدولة هو السيد المطلق الذي يملك كل السلطات الداخلية والخارجية على السواء. وكانت إرادة الدولة تختلط بإرادة الملك الذي كان -وحده- يجسّدها ويعلنها، ومن ثم لم يكن هناك فصل بين إرادة الدولة وإرادة الحاكم “.
وقد كان من الطبيعي في ظل تلك المُسوّغات- للاستبداد أن يبلغ الشَطَطُ بالحاكم حدّا جعله يقول علناً -بلا حرج ولا استحياء- كما قال لويس الرابع عشر ملك فرنسا: “أنا الدولة والدولة أنا”! ولا يمكننا قبول هذا الكلام الذي هو أساس “صناعة الفراعين”. ثم أن تكوين الدولة يحتاج إلى الشورى قبل كل شيء. وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم بصدد تأسيس دولة جديدة –للمرّة الأولى في المنطقة العربية- وفي ظل ظروف بالغة الحرج والصعوبة، وسط تكالب أعداء بالغي الضراوة والحقد -من داخل المدينة وخارجها- ورغم هذا لم يستبد، بحجة ضرورة ذلك في مرحلة تكوين الدولة.
وقد رأينا النتائج الكارثية للاستبداد في أوروبا ذاتها -مثل فظائع هتلر وموسوليني- ولو أننا سلّمنا بجواز وجود مُستبد عادل مزعوم، فسوف تحدث عندنا كوارث مماثلة، إن لم تكن أشد وأفظع.. ولماذا نذهب بعيداً؟ ألم تقع كوارث عندنا -بالفعل- بسبب “المُستبد العادل المزعوم”؟!
لقد حاول أذناب “جمال عبد الناصر” فى مصر، و” صدّام حسين” في العراق، و”حافظ الأسد” فى سوريا استنساخ هذه البدعة “المُستبد العادل” لتبرير طغيان “الزعيم” وانفراده بسلطات مطلقة. فهل حَقّق أي منهم العدالة في بلده؟! نترك للقارئ العزيز الجواب على هذا السؤال، وتقييم النتائج -بل المصائب- التي سبّبها ترويج هذه الأكذوبة الكبرى في بلاد العرب!.
المصدر: موقع الأمة.