بقلم أ. محمد فتحي النادي
إن مسار الرسالات السماوية منذ أول نبي وهو يسير في حلقات متتابعة يشدّ بعضها بعضًا، ولا تنفصم عراها.
فقد تتفق البشرية على نبوة آدم([1]) ورسالة نوح([2]) -عليهما السلام، ولكنها تختلف في ختم هذا الأمر، ومن هو صاحب لقب: خاتم النبيين.
وقد ذكر القرآن الكريم أن شريعة الإسلام هي آخر الشرائع وأتمها وأكملها، وأن نبي الإسلام هو آخر الأنبياء.
قال -تعالى: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ [الأحزاب: 40].
وقال -صلى الله عليه وسلم: “إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتًا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة! قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين“([3]).
وفي هذا المعنى يقول المسيح موجهًا كلامه لبني إسرائيل: “أما قرأتم قط في الكتب الحجر الذي رفضه البناءون هو قد صار رأس الزاوية من قِبل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا * لذلك أقول لكم: إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره * ومن سقط على هذا الحجر يترضض ومن سقط هو عليه يسحقه”([4]).
وقد طعن الدجالون في عقيدة ختم النبوة، ونفوا وقعوها؛ لكي يتسنى لهم افتراء الكذب بادعاء النبوة، كما وضحنا ذلك في مقالتين سابقتين هما: (القاديانية والطعن في عقيدة ختم النبوة، والبهائية ديانة بدرجة منظمة غير حكومية).
وقد ذكر القرآن مسألة التبشير بالنبي محمد -صلى الله عليه وآله وسلم، وأن الرسالة المسيحية مكملة لليهودية ومصدقة لها، ومبشرة بالإسلام.
﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [الصف: 6].
فهل في مسيحية اليوم وأناجيلهم المعتمدة عقيدة ختم النبوة والوقوف بالنبوة عند المسيح -عليه السلام، أم أنها بشّرت بمن يأتي بعده بالشرائع والأحكام؟
وفي معرض الإجابة عن هذا التساؤل لن نقف على ما أورده برنابا في إنجيله؛ لطعن المسيحيين فيه، وعدم اعترافهم به، والذي أورد اسم النبي المصطفى صراحة.
جاء في إنجيل يوحنا أن المسيح نادى في قومه قائلاً: “إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي * وأنا أطلب من الآب فيعطيكم مُعزِيًا آخر ليمكث معكم إلى الأبد * روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم ويكون فيكم”([5]).
وقد ذكر القرآن أن أهل الكتاب كانوا يعرفون النبي المصطفى الخاتم كما يعرفون أبناءهم فقال -تعالى: ﴿الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 146].
وفي موضع آخر من إنجيل يوحنا يقول المسيح: “ومتى جاء المعزِّي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لي * وتشهدون أنتم أيضًا لأنكم معي من الابتداء * قد كلمتكم بهذا لكي لا تعثروا …. لكني أقول لكم الحق: إنه خير لكم أن أنطلق؛ لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي…. إن لي أمورًا كثيرة أيضًا لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن * وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق؛ لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور آتية”([6]).
فمن هو المعزي (روح الحق) المذكور في تلك الأناجيل على لسان المسيح -عليه السلام؟
المعزّي: اسم فاعل من الفعل عزّى، وفعله المضارع يعزّي، ومعناها كما ورد في قاموس الكتاب المقدس: المحامي أو المدافع أو الشفيع.
وفي الطبعات القديمة للأناجيل كانت ترد كلمة (الفارقليط) بدلاً من (المعزّي)، وقيل: إن كلمة (الفارقليط) مشتقة من إحدى كلمتين يونانيتين وهما: بيركليتوس وباراكليتوس.
والكلمة الأولى معناها: الذي يحمد أو محمد أو أحمد.
والثانية معناها: المعزي كما ورد في النص([7]).
وشرّاح الأناجيل يرفضون أن يكون المعزي أو الفارقليط المقصود بهما المصطفى -صلوات الله وتسليماته عليه، ويذهبون إلى أن المعزي المقصود ليس بشرًا، وإنما هو الروح القدس.
وإذا كان المقصود روحًا وليس بشرًا؛ فلماذا اشترط المسيح إتيانها برحيله؟!
وهل هذه الروح أفضل عندهم من المسيح حتى يقول: من الخير لكم أن أنطلق؛ لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي؟!
وهم يقولون: إن الروح القدس قد جاءت وحلّت في تلاميذ المسيح بعد عشرة أيام من رحيله، فهل كانت هذه مدة كافية حتى يتهيئوا للأمور التي كان يريد المسيح أن يخبرهم بها، ولكن منعه من قولها عدم قدرتهم على احتمالها قبل عشرة أيام؟!([8]).
وهذا من التحريف؛ إذ إن التحريف له أشكال ثلاثة:
1 – تحريف بالزيادة، يقول -تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 79].
2 – تحريف بالحذف والكتمان، يقول -تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ [آل عمران: 187].
3 – تحريف بسوء التأويل، يقول -تعالى: ﴿مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ [النساء: 46].
وهذا الذي ذهبوا إليه من تحريف الكلم عن مواضعه؛ إذ إن السياق يتحدث عن مبعوث إلهي يأتي بعد المسيح يتم الرسالة ويبلّغ كلمة الله، وهو حجر الزاوية، وتكون أمته وريثة لبني إسرائيل.
وقد نبّه المسيح قومه وحذر أتباعه من السير خلف مدعي النبوة، ودعاهم للتثبت، فقال: “احترزوا من الأنبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب الحملان، ولكنهم من داخل ذئاب خاطفة”([9]).
فالمسيح لم يدع أنه خاتم الأنبياء، بل بشّر بقدوم من يكمل المسيرة، ويشهد له، ورغم ذلك فإن اليهود لم تؤمن بنبي بعد موسى -عليه السلام، والمسيحيين لم يؤمنوا بنبي بعد المسيح عيسى -عليه السلام، ضاربين بتلك النصوص وأمثالها عُرض الحائط، معرضين عن آيات الله البينات، التي لم تطلها يد التحريف والتبديل.