مقالاتمقالات مختارة

حين يصبح القانون شريعة

بقلم عبدالله العودة – نوافذ

في مقال سابق تحدّثت عن الشريعة بوصفها قانوناً والمدارس الاستشراقية والأمريكية بالخصوص حول هذا الشأن.

بالمقابل، الدارسون للتشريع والقانون في الدولة الحديثة ومؤسساتها يلاحظون هذا الطابع المشترك مع الدين الذي يتطلّب الإيمان وعناصر أخرى كثيرة توجد عادةً في الأديان.. لذلك هنا يصبح القانون حتى المدني منه “شريعة” تريد أن تتشبه بالشرائع السماوية وتتخذ سماتها بطريقة لا تخطئها العين.

هذه الظاهرة هي التي تحدث عنها كارل شميت في كتابته حول “اللاهوت السياسي”/Political Theology وهو هنا يحيل لتلك الأدبيات المكتوبة منذ جان جاك روسو وغيره في أن الثقافة السياسية المرتبطة بالدولة الحديثة وبتشريعاتها تحوّلت لنفس الظاهرة الدينية التقليدية واتخذت نفس آلياتها وطريقتها.. لدرجة أن المشرّعين في الدولة الحديثة سواء كان مجلساً أو هيئة أو أفراداً لهم فوقية مطلقة في بعض الديمقراطيات، ولهم وحدهم حق النسخ والتبديل والتعديل بوصفهم الهيئة أو الجهة الوحيدة المخوّلة بالتشريع والمنوط بها حق تقدير القانون وحدوده بل وحدود كل الأديان التقليدية وشروطها التي تعمل ضمن نطاقه.

الكاتب الإيطالي (إيميلو جنتل) كتب كتابه المهم “السياسية كدين” ليتحدث عن التعامل مع القانون المدني والعالم المعاصر في الدولة المعاصرة بشكلها الحالي كدين وأنها أصبحت تقدم نفسها بنفس الطريقة التي كانت الأديان تقدم نفسها فيه في القرون الوسطى فبالتالي الطبيعة “الدينية” أو المتشبّهة بالدين لاتزال حاضرة ولكنها تأخذ أشكالاً جديدة تليق بآليات الدولة الحديثة وشكلها المعاصر ووسائل تشريعها.

الكاتب (جنتل) رصد عدة ظواهر في عملية التقنين في الدول الحديثة منذ جان جاك روسو ليقول بأن هناك “دين علماني” دين له مصادره التشريعية ولديه قيمه المطلقة ولديه حقوقه التي لاتقبل الجدل والنزاع والتي يُنظر إليها بوصفها مبادئ “متفق عليها”.

يقول جنتل:

“روسو طوّر هذه المقدمات في (العقد الاجتماعي: ١٧٦٢) لينتج مفهوم الدين المدني الجديد على أساس أنه الرابطة الروحية التي لاغنى عنها حافظةً للوحدة السياسية في دولة وطنية جديدة تأسست على السيادة الشعبية. خلف هذا المفهوم كانت هناك حاجة لمعالجة الانقسام الذي صنعته المسيحية”.

يكمل جنتل: “بالتالي، الديمقراطية احتاجت “صنعة مدنية خالصة للإيمان الذي ينبغي على الدولة أن تقرر القوانين له، ليس تحديداً كعقائد دينية ولكن كغرائز اجتماعية لايمكن للإنسان أن يكون مواطناً صالحاً أو تابعاً دونها. عقيدة الدين المدني كان لابد لها أن تكون “قليلة وبسيطة ومصوغة بدقة دون شرح أو تعليق”. روسو نفسه اقترح ماذا ينبغي أن تكون: “وجود لاهوت عزيز ذكي محسن يمتلك البصيرة والتدبير والحياة القادمة وإسعاد العادل ومعاقبة الشرّير وإسباغ الحرمة على العقد الاجتماعي والقوانين.”

ثم إن روسو نفسه لم ينكر أن الدولة الحديثة أتت بعقائد جديدة من هذا النوع تشبه العقائد التقليدية في طبيعتها وممارساتها بل إنه وصفها بأنها “عقائد إيجابية” للدين المدني بينما كانت “العقيدة السلبية” هي الاعتقادات التي تقود لعدم التسامح.

(جنتل) يوضح بلا مراء بأنه “بهذه الطريقة الدين المدني منح القدسية للديمقراطية. روسو نسب دوراً مقدساً بشكل مساوٍ لحكّام جمهوريته الذين كانوا مسؤولين عن تجديد وتعليم المواطنين بالتحديد لكي يحبوا دولتهم. الديمقراطية كان لديها الغرض الأعظم في التعليم الأخلاقي الذي قولب ضمائر المواطنين بحيث أن يكونوا بشكل كامل مكرّسين لخير وطن الآباء وللعبادة كلاهوت رُفع أمامهم”.

روسو كتب في (نظرات عن حكومة بولاندا: ١٧٧١) أن التربية “يجب أن تعطي الأرواح تكويناً وطنياً وتوجّه آراءهم وأذواقهم بهذه الطريقة بحيث أن يصبحوا وطنيين بالرغبة وبالعشق وبالضرورة”، فتأسيس دين مدني بالضرورة يفترض وجود دولة توجيهية ذات رعاية تشبه تماماً دور الدولة الدينية اللاهوتية القروسطية (المنتسبة للقرون الوسطى) غير أن طبيعة التوجيهات نفسها تختلف.

يقول روسو: “هذا الذي يجرؤ أن يتولّى صناعة مؤسسات شعب ينبغي أن يحس أنه مؤهل –إذا جاز التعبير- لتغيير الطبيعة الإنسانية ولتحويل كل فرد -الذي بمفرده كامل منعزل كلياً- إلى جزء من كلٍّ أعظم يستقبل منه حياته وكينونته؛ ولتحويل تأسيس الإنسان لغرض تقويته؛ ولاستبدال الوجود الجزئي والاخلاقي إلى طبيعة الوجود المستقل والجسدي الممنوحة لنا جميعاً”.

هكذا كان التشريع إذاً والقانون في الدولة الحديثة، نفس القانون في بعض الدول الحديثة التي ترفض أي دور للدين الذي يعتبر “تقليدي” بينما هذا القانون نفسه يتحوّل ليأخذ نفس الخصائص الدينية وليسبغ على نفسه ذات الهالة القدسية التي رفض الأديان لأجلها وليعطي لنفسه حق العصمة والقداسة واحتكار القانون في مؤسساته ووسائله.. وهذا بالضبط هو ما أعنيه حينما يتحوّل القانون ويصبح “شريعة” لكنها شريعة بديلة مموّهة ومتخفّية خلف تزويقات معاصرة وألفاظ مضللة وأشكال وأصباغ ومساحيق تخفي عنصريتها الحقيقية ضد الأديان وتخفي عمامتها وجبتها الدينية الخالصة بطرابيش وبدلات أنيقة مكويّة وجديدة وكرافتات ملوّنة، تلك العنصرية التي جعلتها تنتج ديناً علمانياً يعامل القانون بوصفه شريعة مطلقة.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى