مقالاتمقالات مختارة

حين دافعت مجلة الأزهر عن ابن تيمية .. نموذج للإنصاف في زمن مضى

بقلم د. عبد الآخر حماد الغنيمي (عضو رابطة علماء المسلمين)

أرسل إلي صديق منذ أشهر بمقطع فيديو مأخوذ من أحد برامج ما يسمى بالتوك شو وفيه يبدو عميد إحدي الكليات الأزهرية وهو يصرخ -في مداخلة هاتفية-معلناً براءة الأزهر من ابن تيمية وابن القيم ، وقد جاءت تلك البراءة لمجرد أن أحد ضيوف تلك الحلقة وهو المدعو أحمد عبده ماهر قد اتهم الأزهر بأنه يروج لفكر ابن تيمية .
وهذا الشخص –أي أحمد ماهر- معروف بعدائه للتراث الإسلامي كله وتشكيكه في صحيح البخاري وغيره من كتب السنة ، وبدلاً من أن ينتفض هذا العميد دفاعاً عن ثوابت الدين التي يريد ذلك المتحدث أن يهدمها نراه يهتم أكثر ما يهتم بإثبات براءة الأزهر من ابن تيمية وابن القيم وأن كتبهما لا تدرس في الأزهر ، وكأن كتب ابن تيمية وابن القيم وباء أو طاعون يلزم الفرار منه ،ومثل موقف هذا العميد مواقف عدة لبعض من يظهرون في الفضائيات من الأزهريين وقد رأينا بعضهم يردد افتراءات لا أساس لها من الصحة حول عقيدة ابن تيمية ومواقفه من الصحابة وغيرهم .
تذكرت تلك المواقف وأنا أقلب مؤخراً في أعداد قديمة من مجلة الأزهر تعود إلى ثمانينات القرن الهجري الماضي (ستينات القرن الميلادي المنصرم) فلفت نظري مقال بعدد رجب 1380هـ الموافق ديسمبر 1960م بعنوان : في ذكرى ابن تيمية، وهو بقلم الشيخ محمد نجيب المطيعي رحمه الله.
ولهذا المقال قصة ،خلاصتها أن المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب كان قد قرر إقامة مهرجان أو أسبوع ثقافي يخصص للاحتفاء بالإمام ابن تيمية ، لكن ذلك القرار لم يرُق لبعض الكتاب والأدباء فكتب الأستاذ طاهر الطناحي رئيس تحرير مجلة الهلال في ذلك الوقت في عدد ديسمبر 1960 من الهلال مقالاً افتتاحياً يستنكر فيه قرار المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب ، وكان مما ذكره الأستاذ الطناحي في مقاله أن ابن تيمية لا يستحق مثل هذا الاحتفاء وأن هناك من هو أولى منه بذلك ، وهو في سبيل إثباته لما يقول يكرر بعض التهم القديمة التي كان خصوم الإمام ابن تيمية يرمونه بها ، كاتهامه بالتجسيم استناداً إلى ما ذكره ابن بطوطة في رحلته من أنه رأى ابن تيمية يخطب على المنبر ثم ينزل من على المنبر ويقول إن الله ينزل إلى السماء الدنيا كنزولي هذا ، كما ذكر رئيس تحرير مجلة الهلال أن ابن تيمية كان يطعن في الصحابة ، وأنه كان ينتسب لمذهب الإمام أحمد لكنه كان يتحلل من ذلك المذهب ، وأنه كان يعتبر زواج المحلل ممنوعاً شرعاً ،وأنه يوقع الطلاق بلفظ الثلاث طلقة واحدة ،وأنه قد حبس وسجن أكثر من مرة .
ومن هنا انبرى الشيخ المطيعي رحمه الله للدفاع عن ابن تيمية وتفنيد التهم التي ألصقتها به مجلة الهلال ، فكتب المقال المشار إليه ،وفيه بيَّن الشيخ كذب ما نسبه ابن بطوطة إلى ابن تيمية في مسألة النزول ،وأن ابن تيمية ما قال في صفات الله تعالى إلا بما قاله السلف رضوان الله عليهم وهو أن نثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال بلا تشبيه ولا تعطيل ، وكذا بيَّن كذب من افترى على ابن تيمية أنه كان ينتقص من قدر الصحابة رضوان الله عليهم ، وأن مخالفة ابن تيمية لبعض آراء إمامه أحمد بن حنبل لا ضير فيها بل هي من أثر اتباعه رحمه الله للدليل وإن خالف قول إمامه ، كما ذكر الشيخ المطيعي أن قول ابن تيمية بتحريم زواج المحلل ليس شيئاً تفرد به بل هو الحق الذي قال به عامة أهل العلم لموافقته الأحاديث الصحيحة الناهية عن التحليل كقوله صلى الله عليه وسلم : ( لعن الله المحلل والمحلل له ) ، وأما كونه قد قال بأن الطلاق بلفظ الثلاث يقع طلقة واحدة فإنه هو المفهوم من نصوص القرآن والسنة ،وهو القول المأخوذ به في قانون الأحوال الشخصية عندنا اليوم ويكاد الإجماع ينعقد على ذلك الآن، وأما كونه قد سجن واضطهد فذلك لا يعيبه في شيء بل إن مفخرةً له أن يسجن لمواقفه وآرائه المخالفة لما كان عليه كثير من حكام عصره من الضلالة والجهالة ،فقد كان ابن تيمية ثائراً بمعنى الكلمة وكان جريئاً لا يخشى لومة لائم . هذا باختصار شديد أهم ما ذكره المطيعي رحمه الله في دفاعه عن الإمام ابن تيمية .
ولست أريد أن أقف كثيراً عند تفاصيل هذا الدفاع ولكن أريد أن أخرج من خلال هذا الموضوع بمجموعة من الملاحظات أجملها فيما يلي :
1-أنه يلاحظ سعة أفق المسؤولين عن الأزهر ومجلته في ذلك الوقت ، فقد تجاوزت المجلة في تلك الحقبة ما كان يذكر في بعض الكتب التي كانت تدرس في الأزهر من اتهام ابن تيمية رحمه الله بالبدعة والضلالة ، فعرفت قيمته وأنه -مهما اختُلف معه في بعض آرائه -واحد من علماء المسلمين الذين يعتد بعلمهم وفضلهم ،فإضافة إلى هذا الذي ذكرناه من دفاع الشيخ المطيعي عن ابن تيمية فإنك تجد أعداد مجلة الأزهر في الفترة المشار إليها لا تخلو من الإشارة إلى ابن تيمية أو النقل عنه ، ففي عدد ربيع الآخر 1389هـ- يونيو 1969م نشرت مجلة الأزهر فتوى للجنة الفتوى بالأزهر حول حكم نقل الدم من شخص لآخر ،وكان مما تعرضت له لجنة الفتوى مدى الحاجة لنقل الدم وأن الذي يقرر ذلك هو الطبيب الثقة ورجحت اللجنة أنه لا يشترط أن يكون الطبيب مسلماً ،واعتمدت فيما اعتمدت عليه على نقلين لابن القيم وابن تيمية ، بل وصفت اللجنة ابن تيمية وابن القيم بشيخي الإسلام .
2-بل لقد اتسعت صفحات مجلة الأزهر في ذلك الوقت لبعض من كانوا ذوي خلفية إخوانية برغم ما هو معروف من موقف الدولة من الإخوان في ذلك الوقت ، كالشيخ مصطفي الحديدي الطير رحمه الله الذي ظل لسنوات عدة يكتب في مجلة الأزهر ،بل كان عضواً بمجمع البحوث الإسلامية برغم أنه كان في فترة من فترات حياته قبل ذلك منتمياً لجماعة الإخوان ، ولك أن تقارن ذلك التسامح بما شهدناه منذ حوالي ثلاث سنوات حين قامت قيامة العلمانيين ولم تقعد حين وزعت مجلة الأزهر مع أحد أعدادها كتاباً للشيخ الطير عنوانه : (عطاء الرحمن من شريعة القرآن) ، حتى اعتبر بعضهم ذلك جريمة ارتكبها القائمون على مجلة الأزهر ،ورغم اعتراف أولئك العلمانيين بأن الكتاب ليس فيه ما يخدم فكر الإخوان، إلا أنهم يرون أن الإخوان يستفيدون من مجرد وجود اسم ينتمى لهم كواجهة، هذا مع العلم أنه لا أحد الآن يذكر أن الشيخ الطير كان من الإخوان ،بل إن أكثر من وقع بأيديهم هذا الكتاب لا يعرفون من هو مؤلفه ، فضلاً عن أن يعرفوا خلفيته الإخوانية .
3-وأكثر من ذلك وجدت في بعض أعداد مجلة الأزهر في تلك الفترة تسامحاً في النقل والاستفادة حتى من بعض من كانوا في خصومة مع النظام آنذاك ففي عدد رمضان 1381هـ فبراير 1962م مقال للدكتور محمد رجب البيومي رحمه الله عن عروبة مصر يشيد فيه ببعض من تعلم منهم العروبة فيذكر منهم: الزيات وعبد الوهاب عزام والرافعي والعقاد وطه حسين ومحمود شاكر وسيد قطب … ، ومعلوم أن سيد قطب كان في ذلك الوقت مسجوناً بتهمة الانتماء لجماعة الإخوان .وفي عدد رجب سنة 1981هـ-ديسمبر 1961م وفي باب التعريف بالكتب تناولت مجلة الأزهر بالنقد والتحليل كتاب : (هل نحن مسلمون ) للأستاذ محمد قطب ،واصفة الكتاب بأنه دراسة جيدة لتصحيح مفاهيم الإسلام.وفي مقال بعنوان : ( بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية ) للدكتور محمد محمد أبو شهبة بعدد محرم 1383هـ- يونيو 1963م بيَّن رحمه الله عظمة التشريع الإسلامي وسبقه لكل ما وصلت إليه القوانين البشرية المعاصرة ، ثم استشهد على قوله هذا بكلام مطول عزاه لكتاب : ( التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي ) للمستشار عبد القادر عودة رحمه الله ، وقد استهل هذا النقل بقوله : ( وإليك كلام رجل عالم بالشريعة والقانون ) ثم نقل الكلام المشار إليه .
4-أن الملاحظ أن القائمين على شأن الأزهر في ذلك الوقت كانوا لا يمانعون في الاستفادة من علم غير الأزهريين وخبرتهم ،بما ينفع الإسلام والمسلمين ،ولك أن تعلم أن الشيخ محب الدين الخطيب رحمه الله قد تولى رئاسة تحرير مجلة الأزهر حوالي ست سنوات ( من سنة 1952م حتى 1958م ) ، ومحب الدين الخطيب لم يكن أزهرياً ، بل هو رائد من رواد الدعوة السلفية بالشام ومصر ، وهو صاحب المكتبة السلفية ومطبعتها بالمنيل والتي كانت تطبع كتب ابن تيمية وابن القيم وتلاميذهما .
بل إن الشيخ المطيعي صاحب المقال المشار إليه في الدفاع عن ابن تيمية لم يكن من خريجي الأزهر ،ولم يدرس فيه ولا حتى في المدارس العامة ، ومع ذلك كانت مجلة الأزهر تنشر له ، وكان بعد ذلك بسنوات يتولى الإجابة على استفتاءات المستمعين في برنامج : بريد الإسلام بإذاعة القرآن الكريم.
وكذا كان الحال في وزارة الأوقاف ففي عدد ربيع الآخر 1380هـ من مجلة الهدي النبوي التي كانت تصدرها جماعة أنصار السنة المحمدية نُشر خبر مفاده أن الوزير أحمد عبد الله طعيمة وزير الأوقاف في ذلك الوقت قد اختار العالم السلفي الشيخ ناصر الدين الألباني لعضوية لجنة الحديث بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية ،وقد احتفت المجلة المذكورة بهذا الاختيار الذي صادف أهله –كما قالت- وذلك لما كان للشيخ الألباني رحمه الله من جهد معروف في خدمة السنة المطهرة والقيام عليها ، وفي تفاصيل الخبر المشار إليه أن جماعة أنصار السنة –وهي التي كانت تمثل التيار السلفي آنذاك– قد أقامت حفل تكريم للشيخ الألباني بهذه المناسبة حضره لفيف من مقدري الشيخ وعارفي فضله من شيوخ الأزهر وغيرهم ، وكان من الحاضرين الشيخ محمد الغزالي رحمه الله الذي كان وقتها مديراً للمساجد بوزارة الأوقاف ،وقد ألقى كلمة ترحيبية بالشيخ الألباني في ذلك الحفل .
أما الآن فإنا نسمع من بعض أساتذة الأزهر من يقول إن أي شخص لم يتخرج في الأزهر لا يحق له أن يتكلم في الدين مهما بلغ علمه وتحصيله ، بل أكثر من ذلك تصدر قوائم رسمية تحدد أسماء معينة من علماء الأزهر هم الذين يسمح لهم دون غيرهم بالفتوى والحديث في أجهزة الإعلام ، وهذا يعني استبعاد الآلاف من علماء الأزهر ممن هم مؤهلون علمياً من الإفتاء والظهور في أجهزة الإعلام فهل رأيتم قراراً أغرب من هذا ؟.
5-وأخيراً فمن المهم أن نعرف أن أسبوع ابن تيمية قد أقيم بالفعل في الأسبوع الأول من شهر أبريل 1961م الموافق 12- 16 شوال 1380هـ بمدينة دمشق بالإقليم الشمالي كما كانت سوريا تسمى أيام دولة الوحدة ، وقد قُدِّمت فيه عدة بحوث ودراسات تتعلق بابن تيمية وجهاده واجتهاده ، جمعت بعد ذلك في كتاب بعنوان : أسبوع الفقه الإسلامي ومهرجان الإمام ابن تيمية دمشق ، فلم يُلق المسؤولون بمجلس الفنون والآداب بالاً للاعتراضات التي أثارتها مجلة الهلال وغيرها حول هذا الموضوع .
فهل نطمع اليوم أن يقام أسبوع ثقافي –لا أقول لابن تيمية – ولكن لأبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو البخاري أو مسلم ؟ وكيف يمكن أن نطمع في ذلك في ظل الإرهاب الفكري الذي يمارسه أدعياء الثقافة في مصر الذين باتوا يشككون في كل شيء من ثوابت ديننا ، حتى طالب المدعو إسلام البحيري بحرق كتب التراث وبخاصة كتب الفقه الذي يقول عنه : “الفقه هو اللعنة “، بل لم يسلم من هجومه هو وأمثاله الأزهر نفسه وعلماؤه ومناهجه .
ثم نرى بعض رجال المؤسسات الدينية الرسمية في بلادنا -بدلاً من أن يتصدوا لمثل هذا الاعتداءات السافرة على الإسلام وثوابته – إذا بهم يصرفون كل جهدهم في محاربة كل من خالفهم في قول أو عارضهم في رأي ، ويكفي أن نشير إلى ما تفرضه وزارة الأوقاف على أئمة المساجد من ضرورة الالتزام بموضوع الخطبة الموحدة الذي تحدده لهم الوزارة ، حتى لو كان المضوع غير مناسب لواقع من يخاطبهم الإمام ، مع تهديد كل خطيب لا يلتزم بموضوع الخطبة بالاستبعاد من الخطابة ،فإنا لله وإنا إليه راجعون.

(المصدر: صفحة د. عبد الآخر حماد على الفيسبوك)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى