مقالاتمقالات مختارة

حين تتحوَّل الدنيا إلى إله يُعبد

بقلم بدر الدين البرغزي

إنَّ التعلق بالدنيا وعدم استحضار اليوم الآخر من أعظم ما يفسد قلب المرء ودينه؛ فقد تتحول الدنيا بهذا الحرص إلى إله معبود من دون الله. قال تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) [الجاثية: 23]؛ فيرتكب العبد كل المنكرات بسببها ولأجلها. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة؛ إنْ أُعطِي رضي، وإن لم يُعطَ لم يرضَ”. (1)

وفي هذا المقال سنحاول أن نعرض بعضًا من المفاهيم الخاطئة التي يقع فيها العديد من المسلمين، ومآلات هذه الأخطاء، وضررها على الفرد والأسرة والمجتمع.

تحريف المعطيات الشرعية

يظن كثير من الناس أن الغاية التي من أجلها خلقنا هي عمارة الأرض، بتعريفها المادي؛ فينقلب عندهم هرم الأولويات رأسًا على عقب، مما يجعلهم يؤولون آيات الله ووحيه، ويتمسكون فقط بالنصوص التي تؤدي إلى أهوائهم.

يقول الشيخ “إبراهيم السكران”: “وقد نبه القرآن إلى سر هذه المسألة وهي أن الاحتكام للنص ليس مجرد قاعدة معلنة، بل يجب أن يظهر في التطبيقات والفروع، كما يشير القرآن لذلك في قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتَ) [النساء: 60].

كما نبه القرآن إلى ظاهرة (العلاقة البراجماتية مع النص) وهم أولئك الذين يتمسكون بالنصوص إذا كانت تؤدي إلى أهوائهم، ويتملصون منها إذا عارضت أهواءهم، كما يقول تعالى: (وَإِذَا دُعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) [النور: 48-49]”. (2)

وهذا هو حال كل من تعلق بالماديات تعلُّقًا غير سليم، وجعلها مُقدَّمَةً على دينه؛ لا يجد سبيلًا في الرد على الأسئلة الموجهة إليه إلا بتأويل النصوص وجعلها حجةً له، وهي في واقع الأمر حجة عليه. وقد بين الله -عز وجلَّ- الغاية التي من أجلها خلق الجن والإنس. يقول تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات:56]. ويقول تعالى لنبيه: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ۖ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ۗ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ) [طه: 132].

“عن هشام بن عروة، قال: كان عروة إذا رأى ما عند السلاطين دخل داره، فقال: (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) ثم ينادي: الصلاة الصلاة، يرحمكم الله”. (3)

يقول تعالى واصفًا إياهم: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا* أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) [الكهف: 103-104-105].

ولو علموا مآل الكذب على الله لما فعلوا. يقول تعالى: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ ۚ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ) [الزمر:60].

ظاهرة الإيمان المشروط

الدنيا

مخيمات النازحين السوريين.

يعتقد العديد من الناس أن أداء بعض الفرائض فقط؛ كالصلاة والصوم كفيل لنجاتهم من عذاب الله، حتى اتخذ بعض منهم هذه الفرائض عادات لا عبادات. فعندما تناقشه عن حال الأمة، وواجب النهوض بها بتوفير شيء من المال لنشر العلم، والاهتمام بالإخوان، يدعي أنه يقوم بما فرضه الله عليه من صلاة!

يقول الشيخ “السكران”:

ولو كان الأنبياء وأتباعهم يتمتعون بالموارد المادية والميزانيات الضخمة؛ لَمَا تخلف عن مساجدهم فرد واحد. (4)

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: “مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِهِ؛ مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ”. (5) يقول تعالى: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم ۖ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ ۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ) [آل عمران:180].

قال “ابن جرير”: حدثنا ابن المثنى، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا داود، عن أبي قزعة، عن رجل، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ” ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه، فيسأله من فضل جعله الله عنده، فيبخل به عليه، إلا أخرج له من جهنم شجاع يتلمظ، حتى يطوقه “. (6)

فكيف يأمن العبد من عذاب الله، وتطبيقاته توحي بأنه يعبد معبودا آخر مع الله؟ وفي نص بديع يبين الحق سبحانه وتعالى ظاهرة الإيمان المشروط، فيقول: (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ). [البقرة:177]. ومن أصدق من الله قيلًا!

أثر الاستبداد المادي في تفكك الأسر/ المجتمع

الدنيا

تخطأ الكثير من العائلات المسلمة اليوم في إقدامها على تعليم أبنائها وتلقينهم علم الحاسبات، واللغات الأجنبية، وكل ما لذ وطاب من العلوم؛ على حساب تعليمهم “كتاب الله” و”سُنَّة رسوله” -صلى الله عليه وسلم-؛ فيرسّخون في ذهن الطفل منذ الصغر أن الغاية التي من أجلها خُلق هي عمارة الأرض، بمفهومها المادي.

فينشأ الطفل مُعرِضًا عن التنوير الحقيقي -الاستنارة بالعلوم الإلهية-، حتى يصل لفترة الإدراك فيجد نفسه محوطًا بشبهات الإلحاد والعلمانية… ويصبح في الأخير أسيرًا ومعتقلًا في سجون أهل الزيغ والضلال، قلبه خالٍ من تعظيم الله؛ بسبب الصورة المادية التي حرص الأهل منذ الصغر على ترسيخها.

وإذا ربّت العائلات المسلمة أطفالهم بميزان: أن الاستقامة على الدين هي التي تورث التمكين، لشاهدنا جيلًا غير هذا؛ همُّه عبادة الله وعمارة الأرض بالإيمان، بحيث يعتبرون أن تعلم العلوم وسيلة لا غاية؛ وسيلة للتقرب إلى الله، وتحقيق أسمى مراتب العبودية. يقول تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ). [الأعراف:96]. (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ). [الطلاق:2-3]. وكفى بالله وكيلا؛ بل ونعم الوكيل!

مآلات التعلق بالماديات

الدنيا

لا يخفى على كل ذي لبّ أن الحرص على الماديات والتعلق بها، واعتبارها غايات لا وسائل، هي من أعظم أسباب انتكاس دين المرء. وقد أكد هذا المعنى نبينا -صلى الله عليه وسلم-، حين قال: «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ، بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ» (7) فهل يا ترى سيبقى من دين المرء شيء؟!

ويؤدي هذا الحرص غير المرغوب فيه إلى نسيان العبد ربه وخالقه، وينسى أن هناك حسابًا وعقابًا لكل مفترٍ على الله. وهكذا سيكون جوابهم يوم يلقون ربهم: (مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ ۜ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ) [الحاقة: 28].

وقد لخص أسباب ضعف هذه الأمة من أوتي جوامع الكلم -صلى الله عليه وسلم- فقال: “يوشِك الأممُ أن تَدَاعَى عليكم كما تداعى الأكلةُ إلى قَصْعتها”. فقال قائل: ومِنْ قلةٍ نحن يومئذ؟ قال: “بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غُثَاءٌ كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابةَ منكم، وليقذفنّ الله في قلوبكم الوَهْنَ”، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوَهْن؟ قال: “حُبُّ الدنيا، وكراهيَةُ الموت”، وفي لفظ لأحمد “وكراهية القتال”. (8)

وقد بين “القرآن الكريم” أن التعلق بالماديات وبزينة الحياة الدنيا؛ يقود إلى التثاقل عن امتثال أوامر الله والجهاد لإعلاء كلمته، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) [التوبة: 38].

ويقول تعالى: (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) [آل عمران: 152].

يقول الشيخ “السكران”: “وقد صور ابن تيمية هذه المشاعر المادية في التعامل مع الحياة بقوله -رحمه الله-:

أهل الدنيا ومحبوها الذين لا يعتدون بفساد دينهم مع سلامة دنياهم. (9)

المصدر: موقع تبيان

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى