مقالاتمقالات مختارة

حينما يخشى نظام القهر والاستبداد من الإعلام الحر!

حينما يخشى نظام القهر والاستبداد من الإعلام الحر!

بقلم د. جمال نصار

لا تخشى الأنظمة المستبدة على مر التاريخ إلا ممن يكشف حقيقتهم، ويفضحهم أمام الرأي العام. ولذلك إذا تتبعنا تعامل هذه الأنظمة مع الإعلام على مر العصور سنجد العجب العُجاب، وخصوصًا الأنظمة العسكرية.

والمثال البارز على ذلك نموذج إعلام جمال عبد الناصر الذي تباهى به السيسي في أحد لقاءاته، خلال تدشين محور تنمية قناة السويس، في 5 أغسطس/ آب 2014، بقوله “يا بخت عبد الناصر بإعلامه”، ويسعى بكل السبل لتطبيقه في منظومته، بل أستطيع أن أقول إنه فاقه في كثير من الأحيان.

فقد كرَّس عبد الناصر لما عُرف فيما بعد بـ “إعلام الأنظمة” ودشَّن توظيفًا جديدًا للإعلام على خريطة النظام السياسي ارتكز على قاعدة الرأي الأوحد، وعارض فكرة التنوع في التوجهات ووجهات النظر، ووحَّد الخطاب الإعلامي فالكل يتحدث في نفس الموضوعات بنفس الطريقة والأسلوب، خاصة عند الحديث في السياسة والاقتصاد، أما مساحة الاختلاف الوحيدة فكانت تترك في الفن والرياضة.

ولم يرحم عبد الناصر حتى الذين وقفوا معه، ودعموه قبل الثورة، من الصحفيين، فسجن إحسان عبد القدوس، وحاصر أحمد أبو الفتح، وصادر صحيفة المصري، واستولى عليها، ونال من حلمي سلام، وهو من الذين ناصروه ونشروا له منشورات الضباط الأحرار وتبنوا أفكاره. وعندما فشلت مشروعاته الصحفية الأولى منذ إصدار مجلة التحرير، ثم جريدة الجمهورية لم يجد أمامه إلا أن يؤمم الصحف في شهر مايو/أيار من عام 1960.

ماذا فعل السيسي بالإعلام المصري؟!

تحول الإعلام في عهد السيسي عن رسالته الحقيقة المتمثلة في نشر الوعي والثقافة بين الناس، والحفاظ على القيم والتقاليد والمبادئ السامية إلى أداة تروج لقرارات الحاكم المستبد، ووسيلة إلهاء يومية تشغل الناس عن قضاياهم اليومية، كتدني مستوى المعيشة، ومصادرة الحريات، وغيرها من الهموم التي يعيشها المواطن. في الوقت الذي ينهب الاستبداد ثروات البلاد ويبددها في مشاريع وهمية أو دعائية لا تخدم أحدًا، ويظل الإعلام يستعرضها على أنها منجزات وطنية عظيمة.

وأصبحت مهمة الإعلام قلب الحقائق، والسيطرة على أفكار البسطاء حتى يتقبل الناس الواقع الذي رسمه لهم المستبد، ويصور لهم أن طالب الحق فاجر، ويعتبر التدين إرهابًا، وبدلًا من أن تكون الصحافة، وحرية الكلمة هي السلطة الرابعة التي تمثل الرقابة الشعبية الحقيقية على تصرفات الحكومة، وخدمة للوطن تحولت الى أداة للمكايدات السياسة والدفع بها قسرًا لإثارة الصراعات، والمجادلات التي لا تخدم سوى الحاكم المستبد.

وقبل أن تبدأ خطة سيطرة الدولة على الإعلام الخاص، قرّرت الدوائر العسكرية إطلاق شبكة قنوات تتحدث باسمها، وتكون المعبّر الرئيس عن حال الدولة بدلاً من التلفزيون الرسمي الذي تصعب إعادته إلى الحياة بسرعة. فكان قرار إطلاق شبكة (dmc) التي لم تحقق نجاحًا يُذكر، على رغم تنفيذها برامج بتكلفة عالية، واستقطابها غالبية الكفاءات في المحطات الأخرى.

ومن ثم ّبدأت الأجهزة الأمنية خطة السيطرة التي أعدّها مدير مكتب السيسي آنذاك، اللواء عباس كامل (رئيس المخابرات العامة حاليًا)، وتمّ دمج الشبكة ضمن “مجموعة إعلام المصريين” التي صارت تمتلك إعلامًا موازيًا للإعلام الرسمي للدولة، وتدير شؤونها المالية وزيرةُ الاستثمار السابقة، داليا خورشيد زوجة محافظ البنك المركزي طارق عامر، ووصل الاحتكار إلى المحتوى التلفزيوني أيضًا، فلم يعد الأمر مقتصرًا على السياسة فقط، بل امتدّ إلى الدراما التي لم يعد يُسمح للمعارضين أو حتى رافضي التأييد بالعمل فيها.

في الوقت نفسه، فرض الأمن شروطاً قاسية على الوكالات الإعلانية المختلفة، ما جعل غالبيتها تابعة له أو من دون عمل يُذكر، بعدما مُنع رجال الأعمال من التعاقد معها. ومن جهة ثانية، صارت شركة “إعلام المصريين” تملك أكثر من 80% من المحطات الفضائية والإذاعات التي تخرج من مدينة الإنتاج، فباتت تتحكم في مصير العاملين وتقصي وتعيد من تشاء، علمًا بأن معاييرها في الاختيار قائمة على المحسوبية ومدى القرب من الأجهزة الأمنية.

وفي النهاية تحول إعلام السيسي ﻟﺸﺮﻋﻨﺔ ﺍلاﺳﺘﺒﺪﺍﺩ، وصوّر أن ﻓﺌﺎتًا من ﺍﻟﺸﻌﺐ المصري صاروا ﻋﺒﻴﺪًﺍ، ﻳﺴﺠﺪﻭﻥ ﻟﺼﻮﺭ ﺍﻟﺴﻴﺴﻲ، ﻭﻳﻘﺒﻠﻮﻧﻬﺎ، ﻭﻳﺮﻗﺼﻮﻥ ﻓﻲ ﻛﻞ ﺍﻟﻤﻨﺎﺳﺒﺎﺕ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﺪﻋﻮ ﻟﻬﺎ ﺍﻟﺴﻴﺴﻲ، ﻟﺪﺭﺟﺔ أنهم ﺟﻌلوا ﻣﻦ ﺍﻟﺴﻴﺴﻲ ﺭﺳﻮلًا ﻣﻦ ﻋﻨﺪ الله!

لماذا يخاف السيسي من الإعلام المصري المعارض في تركيا؟

على الرغم من سيطرة الأجهزة الأمنية والاستخباراتية المصرية الكاملة على الإعلام المصري، وكل مفرداته من دراما وغيرها، وإسكات أي صوت معارض بالداخل، وإغلاق ست قنوات فضائية، والمئات من مواقع الإنترنت، وملاحقة الإعلاميين والصحفيين والحقوقيين، واعتقال المئات منهم خلال السنوات الماضية إلا أن السيسي لا يزال يقلقه إعلام الخارج الكاشف لكل ممارساته، والفاضح لكل انتهاكاته، وخصوصًا أن الأيام القادمة ستشهد المليء الثاني لسد النهضة، بما يؤثر بالسلب على حصة مصر المائية، الذي سيؤدي بلا شك إلى أزمة كبيرة لمصر، وتعطيش المصريين، ومن ثمَّ يريد السيسي التغطية على مثل هذه الأحداث، وعدم كشف المتسبب في هذه الأزمة.

فهذه القنوات تشكّل هاجسًا وصداعًا دائمين للنظام المصري، بكشفها للحقائق أمام الرأي العام المصري، حتى أن السيسي عبّر في أحد لقاءاته، معبرًا عن انزعاجه من إعلام الخارج بأن الجميع هيتحاسب.

وحينما تواترت الأنباء عن التقارب المصري التركي في 18 مارس/آذار 2021، طلب المسؤولين في تركيا من قنوات المعارضة المصرية التي تعمل من داخل تركيا، بتخفيض سقف معارضتها للنظام المصري، وخصوصًا ما يتعلق بالسيسي، وانتهى الأمر أخيرًا بإيقاف بعض البرامج المؤثرة في 24 يونيو/ حزيران 2021، والتي لها نسبة مشاهدة عالية من المصريين داخل مصر وخارجها، منها: برنامج “مع زوبع” الذي يقدمه الدكتور حمزة زوبع، و”مصر النهاردة” الذي يقدمه الإعلامي محمد ناصر، على قناة مكملين، وبرنامج “مع معتز” الذي يقدمه الإعلامي معتز مطر، و”ابن البلد” الذي يقدمه الفنان هشام عبد الله على قناة الشرق الفضائية.

وكان الشُغل الشاغل للنظام المصري من أجل التقارب مع تركيا، هو إيقاف هذه البرامج كليًا، وظهر ذلك بوضوح من خلال تناول الإعلام المصري المعبِّر عن سياسة النظام، سواء من عمرو أديب إلى أحمد موسى إلى نشأت الديهي ومصطفى بكري، وغيرهم، لأنهم جميعًا ينطلقون من بوق واحد لا يختلف إلا في الشكل فقط.

وهذا ذكرني بالشروط التي وضعتها دول الحصار على قطر، وكان من ضمن هذه البنود (البند الثالث عشر) إيقاف قناة الجزيرة، وألحّوا في ذلك كثيرًا. وواقعة سامح شكري وزير الخارجية المصري مع ميكروفون الجزيرة خير مثال على ذلك.

فنظام السيسي يرتعد من بضع قنوات فضائية لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة، على الرغم من أن حجم إنفاقها ربما يكون أقل من حجم إنفاق قناة واحدة من تلك القنوات المؤيدة له، لأن الصدق يهزم المليارات التي يضخها تحالف أعداء الشعوب، ويهزم كل محاولات التشويه والنيل من أصحاب الرأي.

وتحول إعلام الخارج البديل الحقيقي لإعلام الداخل في إقناع ملايين المصريين، وأصبح بمثابة المرآة التي تعكس واقعه المرير، الأمر الذي من شأنه أن يزعج السيسي ونظامه أشد الإزعاج، ويولّد لديه شعورًا بالفشل في السيطرة على الشعب وإقناعه بأكاذيبه التي لا تنتهي، لأنه نظام هش، فأوضاع المصريين المتردية، اقتصاديًا وحقوقيًا وسياسيًا، تؤكد زيف ادعاءاته وكذبه فيما يتعلق بإنجازاته التي يتحدث عنها، ولو كانت ذات أثر، لما ذكرها في كل مناسبة، وأكّد على خطورة الإعلام المعارض في الخارج على الأمن القومي المصري.

أقول إن طبيعة المستبد أنه لا يرى إلا نفسه ولا يسمع إلا صوته، ولا يسمح لأي نوع من المعارضة التي تؤرق مضجعه، أو تخالفه الرأي، وكل ما يسعى إليه أن يسير الجميع خلفه كالقطيع، ويكون دورهم الأساس، هو التسبيح والتهليل للقائد وإنجازاته، حتى لو كانت وهمية.

والاستبداد يقلب الحقائق في الأذهان، فيسُوق الناس إلى اعتقاد أنّ طالب الحق فاجر، وتارك حقه مطيع، والمشتكي المتظلم مفسد، والنبيه المدقق ملحد، والخامل المسكين صالح، ويصبح كذلك النصح فضولًا، والغيرة عداوة، والشهامة عتّوًا، والحميّة حماقة، والرحمة مرضًا، كما يعتبر أن النفاق سياسة، والتحايل كياسة، والدناءة لطف، والنذالة دماثة.

ومن ثمَّ على الإعلاميين والصحفيين في الخارج الذين يحملون همّ الشعب المصري، ويدافعون عن حقوقه وقضاياه، وقدّموا التضحيات الكثيرة، من حرياتهم وأمنهم وأهلهم، ولُفقت لهم التهم الكثيرة؛ عليهم أن يبحثوا عن أجواء مناسبة، دون حسابات سياسية، لاستكمال رسالتهم التي أصبحت علامة فارقة على كشف استبداد السيسي وفساد نظامه أمام الشعب المصري.

وعلى الشعب المصري أن يعي ما يُدار له، ويخطط من أجل ابتزازه من جانب، ونهب مقدراته من جانب آخر، مع الحرص الدائم على تغييبه، وقلب الحقائق وتشويه المعارضين، وليكن كل فرد أداة إعلامية لتبيين الحقائق، وكشف الفساد، وفضح ممارسات النظام المستبد من خلال وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة.

وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون (الشعراء: 227)

(المصدر: رسالة بوست)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى