مقالات

حينما تكون الحرية في خدمة الاستبداد!

بقلم د. محمد عياش الكبيسي

الحرية حق للإنسان يولد بولادته (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا)، وليس المقصود بهذا الحق ذلك الذي يقابل الرق أو الاستعباد، بل هو فوق هذا، ذلك الذي يقابل الظلم والاستبداد والإكراه (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)، (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) وإذا كان هذا في الإيمان فما بالك بما دونه؟

والإنسانية اليوم تخوض حربا متنوعة في طبيعتها ومتعددة في أساليبها لاسترداد هذا الحق، لا فرق في هذا بين مواجهة محتل غاشم أو حاكم ظالم، إلا أن الرياح لا تجري دائما بما تشتهيه السفن، وقد لا يكون هذا بسبب بطش (النظام) وإنما لأسباب أخرى تعود إلى ثقافة المجتمع ووعيه بأدوات التحرر.

إن مرحلة الصراع من أجل الحرية لا ينبغي أن تطغى فيها قيم الحرية على قيم الصراع، فالصراع ينبغي أن يدار بمنظومة قيم مختلفة عن قيم الحرية، وتقمص قيم الحرية مبكرا هو قلب للأولويات واستعجال للثمرة قبل أوانها.

إن وحدة الصف والصبر والكتمان ودقة العمل قيم لا بد منها في مرحلة الصراع، فإذا طغت محلها قيم (الشفافية) و (حرية النشر والتعبير) و (الرأي والرأي الآخر) فإن الساحة ستكون مكشوفة تماما لأجهزة (النظام) ومن وراءه، ثم إنها ستكون أقرب إلى التفكيك والاختراق والفوضى التي لا تبقي ولا تذر.

قد لا نحتاج هنا أن نؤكد أننا لسنا بصدد تسويغ أو تبرير المبالغة في (السرية) وقدسية (السمع والطاعة) وتحريم مساءلة أو محاسبة (المسؤول)، وتحويل المؤسسات المختلفة إلى ما يشبه (الثكنات العسكرية)، فهذه كلها قد ثبت فشلها وأنها جاءت بالنتائج العكسية في أكثر التجارب المعاصرة.

إننا نتكلم عن هذه الفوضى التي يسميها الناس (حرية) والتي تواجهك على كل شاشة وفي كل صفحة، فكل من لديه معلومة فإنه يبادر بنشرها لتحقيق (السبق الصحافي) حتى أصبح الناس مثلا لا يحتاجون إلى جهد لمعرفة خارطة القوى السورية وأماكن تواجدها على الأرض وأسماء قادتها ونوعية السلاح الذي تستخدمه وشبكة العلاقات والتحالفات! هذا أصبح حديث المجالس العامة والخاصة.

مؤسف أيضا أن (الفصائل) نفسها قد تشارك في هذه الفوضى، لأغراض آنية وأنانية، فتراه من أجل كسب التأييد أو التعاطف يسهب في تقديم المعلومات عنه وعن منافسيه في الساحة، وقد فتح هذا السلوك المشين بابا من الاتهامات والاتهامات المضادة، والدفاع والدفاع المضاد، حتى أصبحت الساحة تعج بالمعلومات لمن يحتاجها ولمن لا يحتاجها.

إحدى الواجهات الكبيرة في حوار مسجل ومنشور له على النت يسأله سائل عن قيادي آخر فيبدأ بطرح كل ما توفر لديه من معلومات دون تحوط أو تحفظ! وقيادي ثالث يضطر للدفاع عن جماعته أمام جماعات أخرى بالأدلة الواضحة والمقنعة فتكون خير دليل للوصول إليه! فما الذي يريده العدو أكثر من هذا؟

كنت أعتب كثيرا على بعض الكفاءات الذين أثق كثيرا بعلمهم وحكمتهم أنهم تركوا الساحة وتخفوا عن الظهور، فيقولون: هل يرضيك أن ننجر إلى هذه الفوضى التي لا يحكمها عقل ولا دين ولا خلق؟

إن الحرية يا سادة مسؤولية أخلاقية قبل أن تكون حقا شخصيا أو مطلبا جماهيريا.

*المصدر : العرب القطرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى