بقلم حامد العطار – إسلام أون لاين.
سورة الفاتحة تحرض على الإرهاب! سورة الفاتحة تحرض على قتل النصارى!
هذه أحدث الافتراءات المضحكة المبكية التي ثارت مؤخرا ، والتي اعتبرت أن تدريس سورة الفاتحة تدريس للإرهاب ذاته، حيث إن السورة تُعلِّم المسلم أن يدعو ربه أن يهديه صراط الذين أنعم الله عليهم، وأن يجنبه صراط المغضوب عليهم وصراط الضالين، وجاء تفسير المغضوب عليهم باليهود، والضالين بالنصارى.
وكأن أصحاب هذه الفرية كانوا ينتظرون من القرآن أن يعتبر النصارى والمسلمين سواء في الهداية، وأن النصرانية طريق إلى الجنة!
أو لعلهم كانوا ينتظرون أن يدعو القرآنُ المسلمين إلى اعتناق النصرانية التي حرَّفها أتباعها!
تصور مجاف للعقل
وهذا تصور مجاف للعقل في أبْدَه معلوماته؛ فإنه مما يذكره علماء المنطق أنه ثمة معارف ضرورية لا تحتاج إلى أدلة تثبتها؛ لأن الله خلق العقل محيطا بها، فهي من البدهيات العقلية، والمعارف الضرورية، من هذه البدهيات (استحالة اجتماع الضدين) مثل الحركة والسكون، فهما أمران بينهما تضاد، يمنع اجتماعهما في الشيء الواحد، فلا يمكن أن يكون الشيء ساكنا ومتحركا في الوقت ذاته، بل لا بد أن يكون على هيئة واحدة منهما، إما ساكنا وإما متحركا، ولسنا نجد أحدا من البشر يطلب دليلا على إثبات هذه البداهة إلا إذا كان مجنونا أو سوفسطائيا!
وهكذا فإن كل صاحب دين، بل كل صاحب مبدأ : يؤمن بأنه على الحق، وأن من عداه على الباطل.
فمن آمن بالمادية كفر بالألوهية، ومن آمن بالألوهية كفر بالمادية، ومن آمن بالرأسمالية، كفر بالشيوعية، ومن آمن بالشيوعية كفر بالرأسمالية. ومن آمن بالديمقراطية كفر بالدكتاتورية، والعكس بالعكس. ولا يتصور عقلا أن نجد إنسانا يؤمن بالألوهية والإلحاد معا، أو إنسانا يؤمن بالرأسمالية والشيوعية معا،، أو يؤمن بالاستبداد والديمقراطية معا، أو يؤمن بالمسيحية والإسلام معا، فالمسيحية تقول : إن محمد بن عبد الله كاذب في دعواه للنبوة، والإسلام مبني على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فكيف يمكن لشخص أن يؤمن بكذب محمد بن عبد الله وصدقه في شأن الرسالة. والألوهية تسلم بأن للكون إلها، والإلحاد ينفي أن يكون للكون إله، فكيف يمكن لشخص أن يؤمن بوجود الإله وبإنكاره في آن واحد!
ومن هنا نجد المسيحي يؤمن حسب عقيدته بأن المسلمين كفار بعقيدته المسيحية بما فيها من التثليث وغيره. ونجد أن المسلم يعتقد أن المسيحيين كفار بوحدانية الإله، وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، هذا أمر شديد البداهة لا يحتاج إلى دليل كما أسلفنا.
القرآن يصف النصارى بالكفر
ولذلك فإننا لا ننتظر من ديننا أن يصف النصارى بعد أن حرَّفوا دينهم بأنهم ضالون فحسب، بل إنه يصفهم بأنهم كفار، فنجد في القرآن {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } [المائدة: 17] كما نجد : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} [المائدة: 73].
وإن كان كفرهم ليس إلحادا؛ لأنهم يؤمنون بمبدأ وجود الله، وإن كان إيمانهم به مشوها؛ لذلك عاملهم الإسلام على أن كفرهم كفر خاص، وقرر لهم من المعاملة ما ليس للكفار الملاحدة ونحوهم، فأباح الأكل من طعام، والزواج من نسائهم، قال الله تعالى : “{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5].
تكفير النصارى لا يقتضي قتالهم
بيد أن تكفير النصارى لا يقتضي قتالهم أو قتلهم؛ لأن الإسلام ليس دينا اسئصاليا ولا حالما، فالله عز وجل خلق الناس، وأعطاهم حرية القبول والرفض لهداياته التي أرسل بها رسله، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 118، 119] ثم يتحمل من رفض الهداية نتاج فعله، { فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ } [الزمر: 41] فالله لو شاء لأعطى كل نفس هداها، ولطبع الناس كلهم على الإيمان كالملائكة، ولكنه اختار أن يعطيهم حرية الاختيار، ثم عليهم أن يواجهوا تبعة هذه الحرية ، فمن آمن فله الجنة، ومن كفر فله النار.
أسس التسامح مع الكافر
والمسلم من هنا يعلم أن الكفر واقع بمشيئة الله وقدره، فلا يطمع أن يؤمن الناس جميعا؛ لأن الله لم يشأ ذلك، فللنار أهلها، كما أن للجنة أهلها {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [هود: 119].
كما أن من عقيدة المسلم أنه يؤمن أنه ليس مكلفًا أن يحاسب الكافرين على كفرهم، أو يعاقب الضالين على ضلالهم، فهذا ليس إليه، وليس موعده هذه الدنيا، إنما حسابهم إلى الله في يوم الحساب، وجزاؤهم متروك إليه في يوم الدين. قال تعالى:{وإن جادلوك فقل: الله أعلم بما تعملون. الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون}الحج:68، 69 .
وقال يخاطب رسوله في شأن أهل الكتاب:{فلذلك فادع، واستقم كما أمرت، ولا تتبع أهواءهم، وقل: آمنت بما أنزل الله من كتاب، وأمرتُ لأعدل بينكم، الله ربنا وربكم، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، لا حجة بيننا وبينكم، الله يجمع بيننا وإليه المصير}الشورى:15
الحساب على الكفر في الآخرة لا الدنيا
ويعدد أصحاب الديانات المختلفة من كتابيين ووثنيين، ليبين لنا أن الله هو الذي يفصل بينهم يوم القيامة: “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ” (الحج:17).
وهذه الفكرة أو العقيدة، من شأنها أن تخفف من النظرة السوداوية للآخرين، مهما يكن اعتقاد المتديّن، ونظرته إلى نفسه، ونظرته إلى غيره، فكل متدين يؤمن أنه هو المهتدي، وغيره هو الضال، وهو المبصر، وغيره هو الأعمى، ولكن حساب ذلك إلى الله، يوم تبلى السرائر، وتنكشف الحقائق: “يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ “(النور:25).
وقد قال عيسى عليه السلام لربه يوم القيامة:{إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم}المائدة:118
وبهذا يستريح ضمير المسلم، ولا يجد في نفسه أي أثر للصراع بين اعتقاده بكفر الكافر، وبين مطالبته ببره والإقساط إليه، وإقراره على ما يراه من دين واعتقاد.
القرآن يوجب القسط مع الكافر
كما أن المسلم يجد في القرأن أنه يوجب القسط، ويدعو إلى مكارم الأخلاق، ولو مع المشركين، ويكره الظلم ويعاقب الظالمين، ولو كان الظلم من مسلم لكافر. قال تعالى:{ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا، هو أقرب للتقوى}المائدة:8.
وقال صلى الله عليه وسلم:”دعوة المظلوم -وإن كان كافرًا- ليس دونها حجاب”.
كما يجد المسلم أن القرآن لا يجعل كفر الكافر مانعا من البر به، قال تعالى:{لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين}الممتحنة:8
بل يجد المسلم أن القرآن يدعو إلى الحوار مع الآخر بالحسنى؛وذلك في قوله تعالى: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (النحل:125)، فالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة – غالبا- مع الموافقين، والجدال بالتي هي أحسن – غالبا – مع المخالفين. فالمسلمون مأمورون من ربهم أن يجادلوا مخالفهم، بالطريقة التي هي أحسن الطرق، أمثلها وأقرب إلى القبول من المخالف.