مقالاتمقالات مختارة

حينما تتبرقع الباطنية بشعارات التجديد (3-3)

حينما تتبرقع الباطنية بشعارات التجديد (3-3)

بقلم د. محمد عياش الكبيسي

أقول للشباب الذين تستهويهم مثل هذه التحليلات اللغوية الجذرية، انظروا مثلاً إلى كلمة «سياسة»، والتي هي جزء من لغتكم وثقافتكم، ماذا يكون معناها لو رجعنا إلى جذرها «س ا س»؟ وكذاك كلمة «اقتصاد» أو «إدارة» أو «فلك» أو «ثقافة»، جرّبوا لتكتشفوا أنكم بعد هذا لن تفهموا كتاباً واحداً من كتب العلم، حتى كلمة «عقل»، أصلها الجذري الحبس والمنع، ومنه الاعتقال والمعتقلات، وإنما سُمّي العقل عقلاً، لأنه يحبس صاحبه ويمنعه من الوقوع في الخطأ والضرر، لكن هناك فرقاً كبيراً بين أن أعرّف العقل بمعناه المعروف، وبين أن أعرّفه بالحبس والمنع.

وفق هذه المنهجية المغلوطة، حاول أحد المعاصرين منهم، أن ينفي عربية القرآن، رغم وجود النص القرآني الصريح: «إنا أنزلناه قرآناً عربياً»، لأن الجذر «ع ر ب» معناه الوضوح، وعليه فيكون معنى الآية عنده، قرآناً واضحاً أو بيّناً، وعليه فيمكن أن تفهم من كلمة «التركي» أنه الذي يترك الأمور، لأن الجذر «ت ر ك» يفيد معنى الترك وليس القومية المعروفة، وهكذا الكردي أو الفارسي أو الهندي.. إلخ، بينما حاول آخر أن يلغي قوامة الرجل على زوجته، لأن الرجال في الجذر العربي لا تعني الذكور! كما أن النساء لا تعني الإناث!

إننا إذاً أمام نهج فوضوي يعبث بمسلّمات اللغة، كما يعبث بمسلّمات الدين، وهو في الحقيقة نهج متخلّف غاية التخلّف وبكل المقاييس رغم تبرقعه بشعارات التجديد، لأنه من المعلوم في كل لغات العالم، أن التفاهم إنما يكون بمعاني المفردات التي استقرت في اللغة، وليس بالجذر الذي بُنيت منه الكلمة، لأن المعنى الجذري هو معنى بدائي، وهو أشبه بالمادة الأولية التي تقبل التشكل بصيغ مختلفة، فانظر مثلاً إلى الجذر «خ م ر» كيف تشكلت منه كلمة «الخمرة» المسكرة، وتشكلت منه كلمة «الخمار» الساتر لرأس المرأة، والعربي يعرف الفرق بين المعنيين لأن هذه هي لغته، بخلاف هؤلاء الراجعين إلى الوراء في مراحل ما قبل بناء المفردة اللغوية.

ولكي لا يُظن أننا ندعو لإهمال الجذر اللغوي، نؤكّد أن الجذر هو المادة الأولية للمفردات العربية، ومن ثم فهي لا تنفك عنه، لكن المعنى إنما يؤخذ من المصطلحات العلمية المستقرة في كل علم، ثم من الاستعمال اللغوي المتداول في الخطاب العربي.
أما علاقة هذا النهج بالتجديد والتنوير فهي علاقة دعائية تسويقية لا غير، ذاك لأن التجديد أو التنوير لا يكون بالبراءة من الماضي، وشتم الآباء والأجداد، ورمي مشاكلنا المعاصرة عليهم، فهذا ليس من الإنصاف، وليس من النهج المقبول علمياً وأخلاقياً.

إن التجديد الذي تتطلع شعوبنا ومجتمعاتنا إليه، إنما هو التجديد في أنظمتنا السياسية ومشاريعنا الاقتصادية والإنتاجية ومناهجنا التربوية والتعليمية، التجديد الذي ينمّي وعي مجتمعاتنا بمسؤولياتها وبحقوقها وواجباتها وبالتحديات التي تواجهها، التجديد الذي يرمّم الانقطاع الحضاري مع تاريخنا وتراثنا، ويردم في الوقت نفسه الهوّة الحضارية بيننا وبين شعوب العالم المتقدم، أما استغلال هذا التطلع نفسه لإشاعة الفوضى والفرقة والتشكيك، وتعزيز حالة الإحباط وفقدان الثقة بالنفس، فإنما هو خيانة لهذه الأمة ولتطلعاتها، وإبعاد لها عن طريق خلاصها ونهضتها.

(المصدر: صحيفة العرب الالكترونية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى