حول كتاب طبائع الاستبداد للكواكبي
بقلم رانا طهبوب
الاستبداد هو أصل انحطاط الشعوب وتخلفها، وأعظم مظاهره هو استبداد الحكومات، ودواء الاستبداد السياسي هو الشورى الدستورية. هذا ما ذكره الكواكبي في مطلع كتابه وهذا ما عمل على توضيحه وتفصيله تفصيلاً مُتقَناً مُمَنهَجاً، يَتطرق الكتابُ إلى وصف حال الشعوب التي تعيش في كنفِ حاكمٍ مستبدٍ ظالمٍ يستغل جهل أفراد أمته ويتصرف في شؤونهم بمقتضى الهوى وليس الحكمة. يعاني عوام الشعب المظلوم من التواكل والجهل وفقدٍ للهمم وانشغال تامٍ بحياتهم البهيمية البدائية والتي تكون بعيدة كل البعد عن الحرية الفكرية والأخلاقية، ولكنك تجدهم حريصين كلَ الحِرصِ عليها لأنهم لا يعرفون غيرها ولم يذوقوا نعيم المجد بعد.
أكبر مصائب الأمة في نظر الكواكبي هو جهالة الشعب والجنود المنظمة. وهنا انتقادٌ لأساسٍ من أسسِ الحكومات الحديثة وهو التجنيد الاجباري، ويرى “إن مخترع هذه الجندية إذا كان هو الشيطان فقد انتقم من آدم في أولاده أعظم ما يمكنه أن ينتقم”. وللتجنيد هدف واحد لا غير وهو استبداد الحكومة بشبابها وزرع بذور الانقياد والإذلال وأعمال السخرة والطاعة العمياء دون محاسبة أو رقابة، وسلبها لأموال الشعب لصالح التجهيز العسكري الذي لا يطاق، وفي نهاية المطاف استبداد الأمم بعضها على بعض.
يُبدع الكواكبي في وصف الاستبداد بجميع أذرعه بدأً من الحاكم والأعيان ورجال الدين ووصف علاقة الاستبداد بالعلم والدين والأخلاق والمال والمجد |
والمُستبِد ليس إلا رأسَ الهرم الاستبدادي الذي يرتكز على قاعدةٍ واسعةٍ من الوزراء والأعوان ورجال الدين. ولا يستقر الحاكم المستبد على كرسي الحكم إلا بموافقة ورضا هذه الفئة، فهي كالعصابة التي تحمي الحاكم ما دام قائما على تحقيق مصالحهم الخاصة. يعيش الحاكم الظالم في كرب وخوف وارتياب على الدوام، فهو من جهة يخاف شعبه إذا ثارت ثائرتهم وانتفضوا ضد حكمه وسطوته عليهم، ويخاف أعوانه وبطانته إذا هم تبينوا عدمَ جدواهُ في الحكم وقرروا إزالته من منصبه. ويشير الكواكبي إلى ظاهرة قد تحصل في بعض الحكومات الاستبدادية، وهي أن يقوم وزراء الحاكم المستبد وأعوانه بانتقاده والمناداة بالإصلاح الاجتماعي وتحقيق مطالب الشعب. وعلى أفراد الأمة، في هذه الحال، ألا ينخدعوا وينجروا وراء تلك الشعارات الكاذبة الصادرة عن أشخاص انغمسوا في بحر الاستبداد والظلم وأكل حقوق الأمة. فهم لم يهبوا ضد الحاكم إلا سعياً وراءَ مصالحهم وتهديداً للحاكم ليشاركهم في أموال الرعية وثروات البلاد.
الدين بالنسبة للمستبد هو الوسيلة الأعظم لفرض سطوته وحكمه على شعب جاهلٍ بائسٍ خائف يفتقر لأبسط درجات العلم والمنطق. يبدأ الحاكم بتجنيد رجال دين وكهنة وقسوس يرهبون العوام من مصائب الله وعقابه ويوهمونهم بأن خلاصهم لا يكون إلا بتبجيل الحاكم وطاعته وعدم الخروج عن أمره. ولا يتوقفون عند هذا فحسب، بل يُضفون صفات الجبروت والعظمة والألوهية على حاكمهم فيختلط على الناس صفات ربهم بصفات قاهرهم ومستبدهم، ولذلك يقتنعون بانعدام حقهم في الانتقاد والمعارضة. ويبقى الشعب على هذه الحال من التخبط والفوضى إلى أن يترقى في العلوم والمعارف وخاصة العلوم الحياتية والسياسية والأخلاقية. لتدرك الأمة حجم المخاطر والظلم والعدوان وسلب الحقوق الذي يحيط بها وتَعلم حقيقة النظام الفاسد بكل فروعه ووزاراته وتقرر مجابهته عن علمٍ وبصيرة.
العِلم هو عدوُ المستبدِ الأول، وبالعلمِ تنهض الامة من خوفها واستسلامها، وبالعلمِ تبدأ بالسعي وراء منافعها وحقوقها الشرعية فإما أن تزيل الحاكم الظالم ونظامه أو أن تجبره على الرضوخ لرغباتها فيصبح رئيساً خادماً لها ولمصالحها كما في جميع دول العالم المتحضرة. وبهذا يتحول من خائن خائف على حياته ومنصبه إلى رئيسٍ محترمٍ جديرٍ بحكمه. والأصل أن المستبدَ يمقت أهل العلم والشرفاء لأنهم يذكرونه بضعفه وجهله، فهو يحاول أن يقصيهم ويودعهم في السجون والمنافي أو أن يتلاعب بهم ليسبحوا بحمده. ولكن الشرفاء منهم يأبون الخضوع لإرادته ويفضلون السجن على العيش أذلاء لنظام ظالم مستبد.
وُجِدت الحكومات لخدمة الشعوب وهو الأمر الذي لا خلاف عليه، ووُجِدَ الاستبداد لتشويش الحقائق وقلب الموازين. ففي الدولة المستبدة يعيش الشعب لخدمة حاكمهم وسلطانهم ويُجلَدُ من يخرج عن طوعه أو من يحاول المناداة بحقه وحريته، ويُعتَبَر في ذلك “طالبُ الحق فاجر، وتاركه مطيع”. والشعب الذي عاش أمداً طويلاً تحت وطأة الاستبداد يمسي غيرَ قادرٍ على التمييز بين الحق والباطل وبين الحرية والأسر، ويبقى منبهراً مأخوذاً بمعالم التعظيم والتفخيم التي يصورها له الحاكم، فيحيى ويفنى وهو أسيرُ قفص الاستعباد، فهو لا يملك القوة ولا العلم ليتفكر في حاله ويقارنها بحال الشعوب المحترمة فيغفل عن المناداة بحقوقه والسعي وراء حريته.
والمطالعُ لكتاب الكواكبي يتعجب من دقة وصفه لكل تفاصيل النظام الاستبدادي بكل فروعه وفصوله وكأنه لم يسطر هذه السطور منذ قرن من الزمان وكأنه يعيش في وقتنا الحاضر ويشهد على كل ويلات الشعوب العربية بما تعانيه من حكومات دكتاتوريةٍ مستبدةٍ تنهش لحوم البشر وتهتك عرضهم وتنهب أموالهم وحقوقهم. وهذا ما يُثبَتُ أن الظلم واستعباد البشر بعضهم لبعض لا يزال يفتك بالأمم رغم اختلاف الأزمان وتطور الحضارات. والقارئُ للكتاب أيضاً قد يتعجب من عدم تخلص شعوبنا العربية من حكامهم المستبدين رغم ثورتهم وهباتهم ضد الظلم، ولكنَ الفصل الأخيرَ من الكتاب يقدم الإجابة الكافية والشرح المفصل لهذا التساؤل. التخلص من الاستبداد مبني على ثلاثة قواعد يجب أن تتحقق جميعها معاً لينجح الشعب في ثورته. القاعدة الأولى هي أن “الأمة التي لا يشعر كلها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية”. القاعدة الثانية هي “أن الاستبداد لا يقاوم بالشدة إنما باللين والتدرج”. والثالثة هي أنه “يجب قبل مقامة الاستبداد تهيئة ماذا يُستبدَل به الاستبداد”. ويقدم الكاتب لكل قاعدة شرحاً مفصلاً لها. ولأن ثورة الأمة تبدأ من الأفراد المثقفين المتعلمين الواعين لحقوقهم وحرياتهم، يبين الكواكبي صفات القائد القادر على النهوض بأمته.
طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد كتابٌ يطول الشرح عنه ووصفُ جمالِ لغتهِ الأدبية البسيطة والجذابة التي تُسَهل على القارئ الفهم. يُبدع الكواكبي في وصف الاستبداد بجميع أذرعه بدأً من الحاكم والأعيان ورجال الدين ووصف علاقة الاستبداد بالعلم والدين والأخلاق والمال والمجد ووصف حال الأمة المنتهكةِ حقوقها ووصف كيفية الخلاص من هذه اللعنة الأبدية.
(المصدر: مدونات الجزيرة)