مقالاتمقالات مختارة

حول برنامج الدحيح | بقلم الشيخ أحمد سالم

حول برنامج الدحيح | بقلم الشيخ أحمد سالم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

لثاني مرة أضطر للكتابة عن برنامج الدحيح، وهو ما يضايقني بشدة، أولَا أنني لا أبالي بـ 96% من هذا العالم، ومن ضمن ما لا أبالي به بالتأكيد مشاجرات الفيسبوك العقيمة، والتي عادة ما تكون بين طرفين أحدهما هو الشخص (أنا) والثاني هو جمهور ذلك البرنامج المحبوب الذي سيتحفز بالنيابة عنهم ويـ Get   offended  بدلًا منهم لسبب ما، فيا ألتراس الدحيح العريق أهلًا بكم في كل وقت وحين.

الحلقة الأخيرة لبرنامج الدحيح (يا محاسن الصدف)  في معظم أجزائها لا أجد معها أي مشكلة، فقط إلى اللحظة التي قرر معدو البرنامج أن ينقلوا فيها حججهم إلى الاحتجاج بأن الوجود ليس بهذه الغرابة، وأن لغز الإيجاد ليس بهذه المشكلة، وأننا يمكننا أن نفسر وجود الكون بالصدفة بشكل عادي.

وبرغم أنني لا يعنيني الموقف العقدي لأي من المسئولين عن البرنامج أنفسهم لا المعد ولا المقدم، ولم يبعثني الله لأفتش عن الناس وضمائرهم طالما لم يظهروا عقيدة واضحة، إلا أنه في كل الأحوال وبشكل واضح يتفق عليه الجميع وحتى لو لم يكن هذا مقصودًا، فما قد جاء في الحلقة المقصودة هو ترويج مباشر لحجج لا دينية واضحة، ولا يحتاج الأمر إلى كثير ذكاء عل كل حال حين يقال لك أن الصدفة قد تفسر وجود الكون وثوابته وضبطه الدقيق.

فما يعنيني هو كلامهم وليس ما يعتقدونه هم على المستوى الشخصي لأني أضع دائمًا احتمال أن يكون المعد مجرد شخص Highly secular يقرأ في كتب الـ Pop Science بنفسية الكنّاشة! وأن يكون المقدم للبرنامج غير مبالٍ بكل هذه الأمور ويقدم ما يُكتَب له فحسب. وفي كل الأحوال فما قد قيل كارثي وسيء إلى أبعد مدى. وهي ليست بأولى ولا آخر كوارث برنامج الدحيح.

يقول الدحيح أن الصدف لا تعني الغرابة دائمًا لأن هناك ثلاثة عوامل، الكثرة والتناسي والحساسية المفرطة للافتراضات. وهو ما لا أعترض عليه فيه، وكما قلت فمعظم ما قال في حلقته لا مشكلة فيه بطبيعة الحال.

المشكلة أنه يرى أن هذا ينطبق على الكون! الضبط الدقيق لمعايير الكون بحيث تتلاقى وتسمح بوجود حياة غير مثير للغرابة بالنسبة له ويمكن تفسيره بالصدفة العشوائية بسهولة تامة! وما أدلته؟!

خذ عندك هذه الأدلة الثلاثة العبقرية التي قدمها:

1- أن أحد تفسيرات نظرية الكم هي الأكوان المتعددة!

دعونا نتحدث قليلًا عن الأكوان المتعددة وفرضيتها والتي بالتأكيد لا يعيها جيدًا المتحمسون للغندور.

هي مجرد فرضية بدون أدنى أساس علمي لا تعتمد على الكم كما قال الغندور، لم يقدم عليها أي دليل علمي، ومع ذلك يتمسكون بها لأنها  على حد تعبير الفيلسوف (نيل مانسون): “الملاذ الأخير للملحد البائس”، تحاول وضع تفسير بديل لإحكام الكون وتوازنه وصنعه المتقن بأن (تفترض) ببساطة بدون أدنى دليل مادي على أن هناك مليارات مليارات الأكوان مثل كوننا وأننا (يا للحظ السعيد) قد تصادف وجودنا في الكون الصحيح. ويهتفون بعبقرية: يشبه الأمر احتمالية الفوز باليانصيب، من الصعب أن تتخيل احتمالية فوز شخص بعينه في هذا اليانصيب ولكن حتمًا لا بد أن (شخصًا ما) قد فاز به! وبالمناسبة هذا هو عين الهتاف العبقري الذي هُتِفَ به في الحلقة.

بالطبع المفاجأة الجميلة أننا نحن هذا الشخص ما.

لهذا السبب نجد الفيلسوف البريطاني (ريتشارد سونبرن) يقول: “من الجنون افتراض تريليونات الأكوان لتفسير خصائص كون واحد رغم أن افتراض كائن واحد (الله) من الممكن أن يؤدي المهمة بنجاح.

ما هو كم الإيمان الذي تحتاجه كي تؤمن بدون أدنى دليل علمي بوجود مليارات مليارات الأكوان (الخربانة) في مكان ما في العالم وأنك موجود لحسن حظن في الكون المظبوط منها؟

وهل هذا (الإيمان الغيبي) منك أكبر أم أقل من إيماني أنا بوجود الله عز وجل؟!

كتب (ستيفن برام) في رسالة إلى أحد التطوريين: “سيدي، أنا مدهوش من قدرتك على الإيمان بالتطور. فهو يتخطى إيماني بالخلق بكثير! إيماني يحتاج كيفية واحدة، وهي حب الإله. بينما إيمانك فيتطلب ثلاثة: أن شيئًا أتى من لا شيء، وأن الصخور تستطيع أن تنتج أشياء حية، وأن الطفرات الجينية يمكن أن تحول دودة شريطية إلى آينشتاين. أنت تربح! لا شك أن إيمانك يتخطى إيماني بكثير”. وكتب (نورمان جيسلر) و(فرانك توريك) كتابًا عنوانه: (لا أملك المقدار الكافي من الإيمان لكي أكون ملحدًا) I don’t have enough faith to be an atheist.

ولكن hey دعك من كل هذا الهراء، علي كواحد من جمهور برنامج الدحيح أن أؤمن بوجود الأكوان المتعددة وبقدرتها على تفسير قدرات الصدفة في ضبط الكون لمجرد أن المقدم قد قال multiverse بثقة وكتبها على الشاشة بخط عريض!

 

2- الدليل الثاني الذي قدمه هو افتراض  أن ثوابت الكون لو تغيرت لتلاقت من جديد مع بعضها البعض، ودليله هو أن هناك رجل يدعى فريد آدامز قد قاله ، فقط! ويتجاهل بشكل طبيعي تمامًا ومتوقع كل من قالوا العكس تمامًا ممن هم أوثق فيزيائيًا من آدامز (تأتي شواهد بعض من قال ذلك بعد قليل) ثم يدعون بعدها أنهم (بتوع) العلم، واحنا (بتوع الضلمة).

 

3- الدليل الثالث الذي قدمه الدحيح على أن الصدفة قد تفسر كوننا بشكل عادي هو المبدأ الإنساني Human principle  ولكنه لم يسمه كذلك ولكن لجأ لشرحه مباشرة لأنه قد لا يفهمه الكثيرون بالفعل. وهو – على حد تعبيره أن (الكون مميز عشان احنا موجودين فيه) بمعنى آخر، وكما ينص المبدأ الإنساني، لما يتساءل الإنسان في دهشة عارمة عن الكون الذي تلاقت ثوابته الكونية لتسمح بوجود حياة، فلا معنى لاندهاشه لأن لو لم يكن الكون قد حدثت فيه كل العوامل التي تجعله كذلك لما ظهر فيه كائن ذكي بالشكل الكافي يتساءل عن ذلك.

 

 بمعنى ثالث: أنت محظوظ في وجودك في الكون المضبوط، لأنك لو لم تكن محظوظًا لما عرفت بذلك أبدًا، بمعنى رابع كما ذكر الغندور، أنت الذي فرت باليانصيب، فلا معنى من الدهشة أنك فزت، لأنك لو لم تكن قد فزت لما علمت أبدًا!

ولا أدري إن كان معدو البرنامج يعون ذلك أم لا، ولكن الحجة لا ترد على أي شيء بخصوص المشكلة التي نحن بصددها، لأننا لا نتساءل هنا عن إن كنا محظوظين أم لا، نحن نتساءل عن إن كان حظنا السعيد هذا يتطلب تخطيطًا مسبقًا أم يمكن تفسيره بالصدفة، واختيار برنامج الدحيح أنه يمكن تفسيره بالصدفة. حسنًا دعنا نثرثر!

خذ عشر قطع من النقود المعدنية والصق على كل واحدة منها رقمًا من 1 إلى 10، الآن لديك عشر قطع من النقود كل منها يحمل رقمًا مختلفًا ويتساوون تمامًا في ملمسهم مما يعني أنك لا تستطيع التفرقة بينهم بلمسة يدك. حسنًا، ضعهم في جيبك واخلطهم جيدًا.

المطلوب أن تخرج لي العملة التي تحمل رقم (1). ما احتمال أن تنجح في فعل ذلك؟ لو كنت تصغي لمدرس الإحصاء في الثانوية العامة لعلمت أن هذا الاحتمال هو 1/10. أي من ضمن كل عشر محاولات (يُتوقع) لك أن تحظى بنتيجة واحدة صحيحة مقابل تسع محاولات فاشلة.

ستحاول، وبعد عدة محاولات تزيد أو تقل عن العشرة ستحصل على عملتك. الآن المطلوب منك أن تعيدها إلى جيبك وتكرر التجربة، ولكن هذه المرة فإني سأطلب منك أن تنزع من جيبك عملتين، بحيث الأولى تحمل رقم (1) والتالية لها مباشرة تحمل الرقم (2). ما احتمال فعل ذلك؟

في الواقع احتمال ذلك أبعد مما تتخيل، فإن مع كل عشر محاولات للحصول على القطعة الأولى ستكون هذه محاولة واحدة فقط للحصول على التالية لها، ولأننا نحتاج إلى عشر محاولات في العملة الثانية فهذا يعني أننا نحتاج –إحصائيًا– إلى مئة محاولة للحصول على العملتين بالترتيب المذكور.

هذه قاعدة في الرياضيّات والإحصاء، تعني أن التتالي المرغوب فيه لاستخراج الكائن المرغوب فيه يزيد من (أسّ) الرقم وليس قيمته، أي في حالة عملتين متتاليتين تحتاج إلى عدد من المحاولات يساوي: 10 أس 2.

وبعد ما يقرب من مئة محاولة أعد العملتين مكانهما. الآن المطلوب منك أن تخرج لي العملة التي تحمل رقم (1) ثم العملة التي تحمل الرقم (2) ثم العملة التي تحمل الرقم (3) .. إلخ إلى أن تكون العملة العاشرة التي تخرجها تحمل الرقم (10).

هذا يعني ببساطة، أن عدد المحاولات اللازمة لكي (يتوقع) منك أن تفعل هذا بشكل صحيح هو 10 أس 10، ولكي تدرك فداحة هذا الرقم، فهو يعني ببساطة أنك لو أحضرت كل رجل وكل امرأة وكل طفل من كل دولة من كل قارة في العالم لكي يقوم بالمحاولة فإنه على الأرجع لن يتمكن ولا واحد منهم للوصول إلى التتابع الصحيح! وأن عليك أن تقوم بتسعة مليارات وتسعمئة وتسعة وتسعين مليونًا وتسعمئة وتسعة وتسعين ألفًا وتسعمئة وتسع وتسعين محاولة فاشلة، حتى تحصل على فرصة محاولة ناجحة وحيدة!

الفكرة أنه كي تتلاقى العوامل الفيزيائية للسماح بأن يكون كوننا بهذا الاتساق فإنه لا يكفي مصادفة سعيدة بعيدة واحدة، ولكن لا بد من حدوث المصادفة التالية لها بنفس القيمة المظبوطة تمامًا، ثم التالية، ثم التالية، ثم التالية، وهكذا إلى ما لا يحصى من المعطيات وكل هذا يزيد من الأس المباشر للاحتمالية المتوقعة.

لذلك يبدي أستاذ الفيزياء النظرية (ليونارد سوسكايند) تعجبه من أن معطياتنا عن الثوابت الكونية تقف كلها على حافة سكين وكلها مستقلة عن بعضها البعض، وفي الوقت نفسه تتلاقى لتسمح فقط بإحداث الحياة، وتغير أي معطى من هذه المعطيات التي نشأت مستقلة لم يكن يسمح لها بالتلاقي فضلًا عن إمكانية إيجاد حياة أو حتى منظومة كونية!

طبعًا برنامج الدحيح افترض لأجل ذلك مثال إيميلات توقعات البورصة، ولكن كي أفترض ذلك أحتاج إلى دليل لوجود كل هذه الرسائل التي خاب فيها التوقع، وهو ما لم يوجد ولن يوجد أبدًا.

كما يقول ابن تيمية فكل حق يمكن أن يورد عليه حجج سوفسطائية، ولا أجد أية حجة أكثر سوفسطائية من المبدأ الإنساني ذلك!

ليس هذا هو المكان المناسب على كل حال لذكر الأمثلة والشواهد على أن الكون المضبوط يناكف بشكل مباشر خيار الصدفة وينغص على من يقبلون بها حتى بين الملحدين. فالواقع أن هذه حقيقة مسلّم بها بين علماء الفيزياء والفضاء وبغض النظر عن موقفهم الديني.

فكما يقول عالم الفيزياء الفلكية البريطاني (مارتن ريز): “أينما ينظر الفيزيائيّون يروا أمثلة على المعايرة الدقيقة”. ويقول عالم الفيزياء الملحد الشهير (ستيفن هوكنج): “الحقيقة الملحوظة أن قيم هذه الأرقام تبدو وكأنها مضبوطة بشكل جيد للغاية حتى تسمح بإمكانية صنع الحياة“!

ويقول (فريد هويل) الملحد: “التفسير العقلي السليم للحقائق يقترح أن هناك ذكاءً خارقًا يسخر من الفيزياء! وأن الأمر لا يستحق أن نتكلم حتى عن احتمالية وجود قوى طبيعية عمياء في الكون! الأرقام التي يحسبها المرء من الحقائق الموجودة تبدو لي ساحقة للغاية لدرجة أن تجعل هذا الاستنتاج مُنزّهًا عن مجرد السؤال“!

لذلك تخلى فريد هويل عن فكرة الصدفة تمامًا وتبنى رأيًا أكثر غرابة أن الكائنات الفضائية المتطورة هي التي خلقت، فقط كي لا يقول: الله!

يعود مصطلح (المعايرة الدقيقة للكون) الذي استخدمه مقدم برنامج الدحيح Fine Tuning of the universe إلى (براندون كارتر) الذي كتب في 1974: (مصادفة الأرقام الكبيرة والمبدأ الإنساني في علم الكونيات)، تبعه الكثير من العلماء وخصوصًا الفيزيائيين منهم إلى التعجب من هذه الحقيقة، منهم (برنارد كار) و(مارتن ريز) في 1979، ثم (جون بارو) و(فرانك يلر) في 1986.

كتب (مارتن ريز) كتاب (فقط، ستة أرقام). و(بول ديفيز) كتاب (لغز جولديلوكس)، و(جيرالد شرويدر) كتاب (علم الإله)، و(روندي هولدر) كتاب (إنفجار عظيم، إله عظيم)، و(أليستر مكقارث) كتاب (كون مُعايّر بدقة)، و(نيل مانسون) كتاب (الله والتصميم).

كل هؤلاء كانوا يشيرون إلى الحقيقة الغريبة التي تجاهلناها: الكون بكل ما يحويه من فضاء شاسع وغازات متناثرة وأغلفة واقية وأجسامنا الحية التي تمثل عوالم متعددة في حد ذاتها، كل هذا مضبوط تمامًا على مقاساتنا! كما يقول العالم الفيزيائي (ديفيد دويتش): “لو ادّعى أي أحد أنه غير مندهش بالمواصفات الخاصة التي يملكها الكون، فهو يدفن رأسه في الرمال! هذه المواصفات الخاصة مُدهِشة وغير مُحتَمَلة!”

هذه الدهشة العارمة التي تصيب هؤلاء – الملحدين منهم قبل المؤمنين بوجود الله – كانت وستظل أبدًا الغصّة الأمرّ في حلوق كل من ينكر وجود مُدبِّر حكيم لهذا الكون! مثل الملحد الشهير (كريستوفر هيتشنز) الذي صرح في أحد المناظرات أن من دون شك، فحجة الضبط الدقيق هي أقوى حجة قدمها الطرف المقابل.  والملحد الأشهر (ريتشارد دوكنز) الذي صرّح في اجتماع للـ (الفرسان الأربعة للإلحاد الجديد) أن السؤال الصعب الوحيد الذي واجهه من قبل المؤمنين، هو كيفية إيجاد تفسير  للضبط الدقيق للكون Fine Tuning of the Universe! غير أن دوكنز دعا إخوانه بعد ذلك في كتاب (وهم الإله) ألا يفقدوا (الأمل) في حل هذا اللغز يومًا! فبالتالي وفي نظر الملحدين، يجب عليك أن تكف عن الإيمان، لكن إياك أن تكف عن (الحلم)!

لذلك فريتشارد دوكنز نفسه لم يدع لحظة واحدة أنه واثق من أن (محاسن الصدف) هي التي ضبطت الكون، بل يضع دائمًا احتمال وجود شيء مثير هو ما خرج بكوننا من العدم للوجود، فقط هو كالعادة لا يحب أن يسميه الله!

هذه المعضلة الضخمة يتم التعامل معها بهذه السطحية السخيفة! نأكل بعض الخيار ونقدم مقدمة تدعي أنها كوميدية، ونذكر قصة عن حادثة طريفة تعرض لها أنتوني هوبكنز في مكان ما، لنخرج باستنتاج: كل ما كانوا يتحدثون به، كل ما كانوا يتحاجون به، كل هذا مجرد لعب عيال سنهدمه في حلقة مكونة من 16 دقيقة، ونقول لهم انظروا للمصادر، والنشيط فيهم الذي سينظر للمصادر سيجد أنه كتاب وحيد!

ثم يطير بعض أحبابه بأنهم صاروا رواد الثقافة والمعرفة لمجرد أنهم شاهدوا هذه الحلقات المباركة!

هل حقًا صنعت السوشيال ميديا كل هذا السخف المعرفي الواهم؟!

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

(المصدر: موقع مداد)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى