مقالاتمقالات مختارة

حول اختلاف الإسلاميين في إنزال الأحكام على الواقع

بقلم وائل البتيري

لو أن بين أيدينا نصاً شرعياً قطعياً في ثبوته، قطعياً في دلالته؛ فإن من المعلوم بالضرورة أن كلمة المسلمين ستتفق على الحكم الذي يقرره هذا النص، ولا عُذر حينئذ لمن يرى خلافه، بل إنه بذلك يخرج عن الإسلام لا محالة.

بيد أن اتفاق المسلمين على حكم ما؛ لا يلزم منه اتفاقهم على إنزال هذا الحكم على الواقعة المعيّنة، فالخمر مثلاً حرامٌ لا يختلف في ذلك مسلمان، ولكننا حينما نريد أن نُطلق هذا الحكم على شراب ما؛ فإننا حينئذ سنختلف هل هذا الشراب يمكن أن يُسمى خمراً؟ وهل هو مُسكرٌ فعلاً أم لا؟

ويحضرني هنا مجلس علم اختلف الحاضرون فيه حول “هل يجوز استخدام عطر الكولونيا أم لا؟”، فقال أحدهم: إذا كانت نسبة الكحول فيه ضئيلة جداً فلا ضير في ذلك. فاختلفوا؛ هل نسبة الكحول في الكولونيا ضئيلة أم ليست كذلك؟ فقال قائل: نسبة الكحول في الكولونيا كبيرة إلى درجة أنك لو شربت زجاجة منها لأسكرتك. فاختلفوا في ذلك أيضاً؛ إذ لم يجرب أحدهم شربه! فاتفقوا على أن يجرّب أحدهم ذلك ليقفوا على حقيقة الأمر!
إذن؛ لا بد من دراسة واعية للواقعة التي نريد أن نسقط الحكم عليها، لنرى هل تحققت علة الحكم فيها أم لا، وهذا ما يُسمى عند الأصوليين “تحقيق المناط”.

لا بد من دراسة واعية للواقعة التي نريد أن نسقط الحكم عليها، لنرى هل تحققت علة الحكم فيها أم لا، وهذا ما يُسمى عند الأصوليين “تحقيق المناط”

وهنا؛ ما أكثر ما يقع الخلاف، وتتعدد الأقوال وتتناقض، ولتوضيح ذلك نضرب مثالاً قوله تعالى في العُذر المبيح للفطر في شهر رمضان: {وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}..

فمن هو المريض؟

هنا يكون الخلاف في معنى النص نفسه – وهذا ما تطرقنا إليه في مقالة سابقة – فالنص أطلق كلمة (مريضاً) ولم يقيدها بوصف آخر كأن يقول: (مريضاً يخشى على نفسه من التلف)، أو (مريضاً لا يقدر على الصيام بحال).

وهذا الإطلاق جعل التابعي الكبير ابن سيرين رحمه الله يقول: “متى حصل الإنسان في حال يستحق بها اسم المرض صح الفطر، قياساً على المسافر لعلة السفر، وإن لم تدعُ إلى الفطر ضرورة”..

حتى إن طريف بن تمام العطاردي دخل على ابن سيرين مرة في رمضان وهو يأكل، فلما فرغ قال: إنه وجعت أصبعي هذه!

ولا غرابة في ذلك؛ بل إن الإمام الجهبذ القرطبي – رحمه الله – حينما ساق هذه الرواية عن ابن سيرين في تفسيره، سارداً بعض أقوال أهل العلم في معنى (مريضاً)؛ قال: “قول ابن سيرين أعدل شيء في هذا الباب إن شاء الله تعالى”!

ثم روى عن الإمام البخاري رحمه الله قوله: “اعتللت بنيسابور علة خفيفة، وذلك في شهر رمضان، فعادني إسحاق بن راهويه ونفر من أصحابه، فقال لي: أفطرت يا أبا عبدالله؟
فقلت: نعم.
فقال: خشيت أن تضعف عن قبول الرخصة.
قلت: حدثنا عبدان عن ابن المبارك، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: من أي المرض أفطر؟ قال: من أي مرض كان، كما قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً}”.

لنُرجِّحْ مثلاً أن المقصود من المرض هنا؛ المرض الذي يخشى معه المرء إنْ صام أن يتلف.

لو جاءنا شخص وقال: إنني مريض وأريد أن أفطر، فهل يجوز لي ذلك؟ حينئذ لن نستطيع أن نجيبه على سؤاله إذا لم نكن أطباء حاذقين، وإلا فسنحيله إلى الطبيب ليفحص حالته بتجرد، ويقول لنا: (يغلب على ظني أنه إنْ صام سيتلف)، في تلك اللحظة نستطيع أن نقول له: أفطرْ!
لكن؛ ماذا لو قال لنا الطبيب: إن الصيام سيشق عليه ويُرهقه، لكن حياته لن تتعرض للخطر؟ هل سنقول له: صُمْ إذ لا يحل لك الفطر. بالتأكيد الجواب: نعم (وتذكّرْ أننا نضرب مثالاً على القول بأن المرض المقصود بالآية هو الذي يعرّض المريض للتلف).

هنا؛ أتذكر صديقاً لي أصابه صداعٌ في رأسه، فراجع طبيباً قال له بعدما شخّص حالته: (أشك أنك تعاني من مرض السرطان، ولا تؤاخذني على صراحتي!).

خرج صاحبنا من عيادة الطبيب شارد الفكر، تلصَقُ في مخيلته صورة أحبابه وهم يحملونه على الأكتاف ويُودعونه قبراً بالكاد يتسع له.

لكنه لم ييأس.. ذهب إلى طبيب آخر؛ فقال له بعد فحصه: معك التهاب في الجيوب الأنفية.. فانفرجت أساريره.

بيد أنه طمع في الأفضل، فذهب إلى طبيب ثالث ليخبره أنه يعاني من حالة إرهاق سببت له صداعاً في الرأس، وأن حلّه أن يهدئ أعصابه ويأخذ مسكناً للألم، وينتهي كل شيء. وهذا ما حصل بالفعل.

المغزى مما سبق؛ هو أن تشخيص المرض يختلف من طبيب إلى آخر، فقد يرجّح طبيب أن هذا المريض إنْ صام فإنه سيفارق الحياة، في الوقت الذي يؤكد فيه طبيب آخر أن الصيام لن يهدد حياته بالخطر. وعلى هذا؛ فإن الاختلاف في إدراك الواقع الذي نريد أن ننزل عليه الحكم الشرعي يختلف من عالم إلى آخر، ومن خبير بهذا الواقع إلى من سواه.

إن الاختلاف في إدراك الواقع الذي نريد أن ننزل عليه الحكم الشرعي يختلف من عالم إلى آخر، ومن خبير بهذا الواقع إلى من سواه

وما يُقال في قوله تعالى: {مريضاً}؛ يقال في قوله سبحانه: {أو على سفر}… ولا نطيل!

لننتقل إلى مثال مما جال في خاطر كثير من الدعاة مؤخراً، وهو تحكيم الشريعة في البلاد التي تحررت من ربقة حكامها فيما سُمي بـ”الربيع العربي”.

من البداهة القول بأن الاستطاعة مناط التكليف، والاستطاعة مرتبطة بالقوة والقدرة على القيام بالفعل – فمن لا يقوى على الصلاة قائماً؛ صلّى جالساً – والقوة المباشرة كانت وما زالت بيد الجيش؛ الذي يمكن في أي لحظة أن يميل على الإسلاميين ميلة واحدة.. وبالفعل هذا ما حصل.. ناهيك عن القوة الاقتصادية التي يتحكم فيها أعداؤنا الخارجيون من خلال ما يسمى بـ”صندوق النقد الدولي”.

وعليه؛ فهل كان يستطيع الإسلاميون إذا وصلوا إلى الحكم؛ أن يحكموا بالشريعة؟ الجواب بنعم أو لا فيه مجازفة، فوصول الإسلاميين إلى الحكم (ظاهراً) لا يعني بالضرورة حيازتهم للقوة المادية التي تمكّنهم من حماية مشروعهم والحفاظ عليه، وتطبيق الشريعة منوط بالاستطاعة، وقد تكون الاستطاعة متوفرة في تطبيق بعض أحكام الشريعة دون غيرها، إلى أن يأذن الله تعالى بالدخول في السلم كافة.

وصول الإسلاميين إلى الحكم (ظاهراً) لا يعني بالضرورة حيازتهم للقوة المادية التي تمكّنهم من حماية مشروعهم والحفاظ عليه

هذه الاستطاعة أمر تقديري، فقد يقدّر أحد العلماء أن الاستطاعة متحققة، وقد يرى آخر أنها غير متوفرة، وبالتالي يقع الاختلاف بين العلماء في هذه المسألة، ليصل إلى الحركات الإسلامية التي تدخل حينها في صراع على قضية نسبية؛ الخلاف فيها طبيعة بشرية، وسنة كونية، ومسألة بدهية.

وعليه؛ فلا يُسوَّغ لأحد الفريقين أن يقول إن تقديري للاستطاعة هو الصواب الذي لا مرية فيه، والحق الذي لا شك يعتريه، فضلاً عن أن يقول: أجزم أن قولي هو الموافق للكتاب والسنة! وإنما غاية ما يمكن أن يقوله حينئذ: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب.

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى