حوار مع د. زينب عبد العزيز أستاذة التاريخ والحضارة الفرنسية بجامعة القاهرة: فرنسا تتزعم فرض الكاثوليكية رغم زعمها فصل الدين عن الدولة
أجرى الحوار علا سليمان
هي د. زينب عبدالعزيز، أستاذة الحضارة الفرنسية بجامعة القاهرة، من مواليد الإسكندرية بمصر، في 19 يناير 1935م، وصاحبة أحدث ترجمة بالفرنسية لمعاني القرآن، وواحدة من أبرز الناشطات في مواجهة العمل «التنصيري» وفضح مخططاته، لدرجة أنها تعرضت للتهديد بالقتل ثلاث مرات بسبب «فضحها لحملات التنصير ومخططاته»، كما صرحت هي.
كذلك، فإن د. زينب صاحبة إنتاج غزير فيما يتعلق بهذا الملف الشائك (ملف الاستعمار القديم والحديث ومحاولات طمس الهوية العربية والإسلامية لصالح الهوية الغربية المسيحية)؛ ولذلك تجد عناوين كتبها تؤكد ذلك مثل: «حرب صليبية بكل المقاييس»، «المساومة الكبرى.. من مخطوطات قمران إلى مجمع الفاتيكان الثاني».. وغيرهما مما لا يتسع المقام لذكره.
اختارت «المجتمع» الذهاب إليها بوصفها من أهم المختصين في هذا الملف بكل روافده، لنسألها عن زيارة الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون» الأخيرة للبنان، وكيف تراها في سياق الأطماع الاستعمارية الغربية، ولنسألها عن توابع هذه الزيارة وما يمكن أن ترتبط به من جهد «فرنكفوني» دؤوب لإحياء هذه الهوية، وعلاقة ذلك كله بالجهد التنصيري من خلال طبيعة الدور الفرنسي وعلاقته بالفاتيكان ومخططاته.. أسئلة كثيرة طرحتها «المجتمع» على أستاذة التاريخ والحضارة الفرنسية د. زينب عبدالعزيز من خلال الحوار التالي:
بداية، لو أردنا تصوراً لزيارة الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون» الأخيرة للمنطقة ولبنان على وجه التحديد كيف يكون؟
– التصور لديَّ واضح وغير ملتبس بالمرة، ولا علاقة له أبداً بما يتم ترويجه عبر وسائل إعلامية موجهة، وهو أن الزيارة لا يمكن فصلها عن السياق الاستعماري الذي ما زالت تتحرك فيه فرنسا تجاه المنطقة وتجاه بعض الدول وعلى رأسها لبنان لأسباب معينة.
وهنا أؤكد أن حضور الرئيس الفرنسي «ماكرون»، في السادس من أغسطس الماضي، قبل مرور 48 ساعة على انفجار بيروت له دلالاته على أهمية لبنان تحديداً في خارطة الاستعمار الفرنسي.
وبالمناسبة -وهذا أمر لا بد من ذكره- «ماكرون» ليس أول رئيس فرنسي يزور لبنان، ففي أكتوبر 1983م سافر «فرانسوا ميتران» لإحياء ذكرى رجال المظلات الذين قتلوا في إحدى المعارك؛ وفي فبراير 2005م ذهب «جاك شيراك» لحضور جنازة رفيق الحريري، وكان الرئيس الوحيد الذي حضر.
إذن، تركيز فرنسا تحديداً على لبنان ليس وليد الأحداث؟
– بكل تأكيد، وهنا يمكنني أن أذكّر ببعض التواريخ المهمة التي تؤكد أن المخطط قديم؛ فقد تم إنشاء لبنان عام 1520 كحامية فرنسية، وأولى العلاقات الدولية تم نسجها أيام ملك فرنسا «فرانسوا الأول» الذي تسلم أو انتزع آنذاك من السلطان التركي مسؤولية حماية مسيحيي الشرق، وازدادت الروابط عام 1920م عندما أصبح لبنان تحت الحماية الفرنسية.
وفي عام 1943م حصل لبنان على استقلاله، إلا أن الوجود الفرنسي ظل قوياً خاصة من خلال التعليم وما يبثه، لذلك فإن الاستقلال لم يمثل أي شرخ في العلاقات بين البلدين، فقبل مغادرتها قامت سلطات الاحتلال الفرنسية بفرض دستور يترك لها الباب مفتوحاً على مصراعيه؛ إذ نص ذلك الدستور على أن يترأس الدولة رئيس مسيحي، وأن يكون رئيس الوزراء مسلماً.
البعض يعتبر هذا الأمر طبيعياً في بلد متعدد الأطياف والملل والنحل؛ بل يعدّه آخرون نموذجاً على التعايش، فما رأيك؟
– أنا معكِ، قد يبدو الأمر طبيعياً في دولة بهذا الوصف، لكن حينما تعلم أن المسلمين في لبنان طبقاً لتعداد أجراه الفاتيكان نفسه يمثلون 67.5% من السكان، وأن الباقي منه (32.5%) يضم كل مختلف الطوائف الأخرى لأدركنا اللعبة الاستعمارية من جهة، وأدركنا الدور الذي تقوم به الأقليات المسيحية لصالح الغرب الصليبي وصالحها.
وهنا أيضاً ندرك معنى أن يتقدم 36 ألفاً من اللبنانيين، ويوقعون على عريضة تطالب بعودة الاحتلال الفرنسي، يفعلون ذلك بينما الموت لا يزال يحصد من يحصده، فور الانفجار المدمر!
هل تودين القول: إن بعض الأقليات المسيحية في الشرق إحدى الأدوات المهمة للمستعمر الغربي ضد بلدانهم؟
– بكل تأكيد، فالدور الذي تقوم به الأقليات المسيحية في البلدان المسلمة بالشرق الأوسط مهم لخدمة الدور التدميري الذي يقوم به الغرب لاقتلاع الإسلام بفضل مساعدتهم.
فقرار تنصير العالم صادر عن مجمع الفاتيكان الثاني، وكل بابا ترأس الفاتيكان من بعد عام 1965م يؤكد «أنه قرار لا نقاش فيه ولا رجعة»، وهو ما يطرح على المسيحيين في جميع البلدان المسلمة قضية الولاء؛ هل يكون ولاؤهم للفاتيكان من خلال كنيستهم، أم للبلد الذي ولدوا به ويعيشون فيه كمواطنين أمناء؟
وهو الوضع الذي ينقلنا إلى قضية أخرى -أو إن شئنا التحديد إلى مصيبة أخرى- تتم تحت نفس المسمى الشهير «حماية مسيحيي الشرق الأوسط»، فمن أهم الكتب التي صدرت في أبريل 2016م كتاب بعنوان «مسيحيو الشرق»، وعنوانه الفرعي «لنقاوم على أرضنا»، بهذا الوضوح وبهذه الفجاجة، فالكاتب قس مسيحي، وما يترأسه مؤسسة تمثل جزءاً من ترتيب اقتلاع الإسلام.
وهنا يجب أن نلاحظ شيئاً يتعلق بفرنسا على وجه التحديد لندرك تشابك خيوط اللعبة، فالكتاب بقلم «مونسنيور بسكال جولنيش»، رئيس مؤسسة «عمل الشرق» بفرنسا، نعم هي مؤسسة فرنسية.
ونطالع على الغلاف الخلفي توضيحاً يقول: إن «مؤسسة «عمل الشرق» مهمتها مساعدة الكنائس التي تقف في خط الدفاع الأول لإقامة جسور بينها وبين فرنسا، للعمل من خلال الصحة والعمل الاجتماعي والثقافة ونقل العقيدة»، وعبارة «خط الدفاع الأول» عبارة حربية دارجة، موضحاً أن «مستقبل هذه المنطقة المتآكلة لن يتم بدون مسيحيّيها»، وحين يصل ما يستوجب التلميح إلى مثل هذا الوضوح، فذلك يشير إلى مدى تمكنهم من اللعبة.
وهنا ألفت النظر إلى عبارة شبيهة تناولها الغرب الصليبي أيام تصديه للإسلام والإمبراطورية العثمانية، وقد كانت التعبير الذي يستخدمونه فيما بينهم وفي مراسلاتهم هو «مسألة الشرق»، حتى أتوا عليها بتنصيب كمال أتاتورك واقتلاع اللغة العربية وغيرها، والباقي معروف، والآن تتم إعادة نفس المخطط، وقد تضافر الغرب الصليبي لتنفيذ النظام العالمي الجديد، وإعادة تنظيم الشرق الأوسط بفضل الأقليات المسيحية التي يحمونها، ويفرضون عليها عدم الولاء للأوطان التي يعيشون فيها.
برأيك، لماذا كل هذا الشحن ضد الإسلام من الجانب الغربي؟
– بسبب خوفهم من انتصار الإسلام، وأن يمتد إلى شطآنهم مرة أخرى، خاصة في وقت تداعى فيه وجود المسيحية.
وهنا ينبغي تذكر عبارة «جورج بوش» الابن بأن «هذه الحرب الصليبية ستكون طويلة المدى»! لنرى عدد البلاد المسلمة التي تم تدميرها بعد الحادي عشر من سبتمبر؛ لندرك أننا في قلب مخطط يتم تنفيذه بإصرار في خط متواصل يمتد بين بلدان الشرق الأوسط لإعادة ترسيمه إن لم يكن اقتلاعه، وكل ذلك كلام معلن وليس بخفيّ على أحد.
حتى في الكتاب الذي أشرت إليه منذ قليل، يؤكد «جولنيش» أن أهمية بقاء «مسيحيي الشرق» في أماكنهم يرجع إلى أمرين؛ أن وجودهم في الغرب يغيّر من تشكيل وتكوين بلدانهم حضارياً، فهم قادمون من الشرق المتخلف، كما أن وجودهم حيث هم حماية لنقاء حضارة الغرب، وأنهم هناك بعيداً عنا هم في مكان نشأة المسيحية؛ أي في مكانهم.
أعتقد أن الرؤية بهذه الصورة شديدة الوضوح، بل معلنة بصريح العبارة، ويتم تنفيذها خطوة خطوة، وللأسف هناك من المسلمين من ينكر ذلك.
أشرت إلى الكتاب الصادر عن مؤسسة «عمل الشرق» الفرنسية، وقلت: إن هناك خصوصية لفرنسا في هذا الإطار الذي نتحدث فيه، وبما أننا إزاء التعليق على زيارة الرئيس الفرنسي «ماكرون»، فهلا وضحت لنا هذه الخصوصية؟
– فرنسا اسمها رسمياً «الابنة الكبرى للكنيسة»، وكل رئيس فرنسي يتولى رئاسة الدولة عليه أن يتوجه إلى الفاتيكان، ويلقي خطاب ولائه للفاتيكان في كنيسة «سان جاك دي لاتران»، ولم يخرج عن هذا الأمر إلا الرئيس «فرانسوا هولاند»؛ لأن هناك ما يحول دون دخوله الكنيسة بسبب وضعه الأسري غير الشرعي بالنسبة للكنيسة، لكن ذلك لم يمنعه من القيام بالتزاماته حيال الفاتيكان بموجب الاتفاقية الدولية الموقعة بين الدولتين في العصور السابقة، التي تتحمل فرنسا رسمياً بموجبها ثلثي تكاليف عمليات التبشير والتنصير من أموال وأشخاص ومعدات.
وكما قلت، فإن لبنان يمثل لفرنسا أيقونة غاية في الأهمية من خلال طبيعة تعداد مسيحيي الشرق الذين هم أقليات في كافة بلدان الشرق الأوسط، لكنهم يمثلون منافذ فعلية للفاتيكان وللكنيسة الكاثوليكية خاصة.
وهذا يؤشر إلى أهمية لبنان بالنسبة للغرب كله، ولفرنسا والفاتيكان وما بينهما من تنسيق تحديداً، خاصة أنهم حددوا أنه في هذا العام وتحت غطاء «كورونا»، فإنهم سينفذون المخطط الخاص بالنظام العالمي الجديد، فهو نظام سياسي واحد، واقتصادي واحد، وديني واحد، لكن غطاء «كورونا» جعل الأمور أكثر تعقيداً، خاصة فيما يخص ملفات اقتصادية كزيادة البطالة وإفلاس بعض الكيانات الاقتصادية وما إلى ذلك مما اضطرهم إلى تأجيل تنفيذ هذا المخطط.
على ذكر المخططات، كيف ترين رفض «ماكرون» فكرة انتقاد إعادة مجلة «شارلي إيبدو» نشر الرسوم المسيئة؟
– دعيني أجيب بمجموعة من الأسئلة لندرك -دون إحاطة مني- حجم المؤامرة:
لماذا تم تأجيل فتح محاكمة «شارلي إيبدو» 5 أعوام لتتواكب مع ذكرى الحادي عشر من سبتمبر واحتفاليات البابا «فرانسيس» لفرض مخطط خطابه الرسولي «ممجد أنت»؟ ولماذا انتزع البابا وثيقة «الأخوة الإنسانية» من الأزهر التي تقول خلاصتها: الأزهر والمسلمون يناشدون الفاتيكان اقتلاع الشر باسم الدين من القرآن؟ ولماذا قام البابا بتكوين لجنة لتنفيذ بنود تلك الوثيقة بتاريخ الحادي عشر من سبتمبر لتثبيت وربط فكرة الشر و11 سبتمبر بالإسلام؟
كل هذه الأسئلة وغيرها كثير يتضافر ليشير إلى ما يحيكه الصهاينة والفاتيكان، ليكون المناخ كله في هذه الفترة مهيأ لمعاداة الإسلام وبداية اقتلاعه، بكل ما يقوم به البابا «فرانسيس» كخطوة أولى لتوحيد التعليم على مستوى العالم، وتوحيد الإجازة عالمياً بيوم الأحد، إضافة إلى ما ينوي ترتيبه في مجالي السياسة والاقتصاد.
نعود مجدداً إلى فرنسا، وهذه المرة من نافذة الفرنكوفونية، هل هي إحدى أدوات هذا الصراع، أم أنها كما يروج البعض نافذة للتعايش والتقارب؟
– هذا الأمر يقتضي تعريف الفرنكوفونية وفهم السياق الذي نشأت فيه، فالفرنكوفونية لغة تعني ما يتعلق باللغة الفرنسية في كل استخداماتها الجغرافية، وإنسانياً تعني من يتكلم عادة اللغة الفرنسية بصفة دائمة طبيعية أو على الأقل في بعض الظروف والمناسبات الاجتماعية، سواء كلغة أم، أو كلغة أجنبية ذات طابع مؤسسي أو تعليمي، كما تطلق للإشارة إلى جماعات يتحدثونها في منطقة ما؛ إذ يقال: «المغرب الفرنكوفوني» أو «أفريقيا الفرنكوفونية»
إذن، يمكننا تصنيف كثير من اللبنانيين بهذه الطريقة، فاللغة الفرنسية شديدة الانتشار في لبنان؟
– ليست في لبنان فحسب، بل في سورية كذلك؛ حيث كان التبشير قد سرى فيهما أكثر من غيرهما، فقد انغرست فيهما اللغة الفرنسية واستتبت منذ القرن السابع عشر، ومع تزايد الوجود السياسي المرتبط بالموجة الاستعمارية الثانية (فيما بين عامي 1815 و1939م)؛ فقد أصبحت اللغة الفرنسية بمثابة دعامة أساسية لنقل نمط الحياة الغربي الذي سرعان ما امتد إلى مصر منذ ذلك الوقت، ومنذ عام 1815م امتد الاستعمار الفرنسي إلى أفريقيا تسانده بعثات التنصير ليبدأ بالسنغال، ثم الجزائر عام 1930م؛ حيث أصبحت الفرنسية هي لغة السلطة الحاكمة، ثم تمت السيطرة على الجابون، والكونغو، والسودان، والنيجر، وداهومي، وسرعان ما أخذت اللغة الفرنسية مكانتها المؤسسية في بلدان الساحل وأفريقيا الغربية والاستوائية.
وقد وصل اتساع الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية في عام 1939م إلى مساحة 12 مليوناً من الكيلومترات، وضمت 68 مليوناً من البشر، وكانت تعد ثاني إمبراطورية استعمارية في العالم بعد الإمبراطورية الاستعمارية البريطانية، إلا أنها بدأت تتصدع بفضل حركات التحرير ابتداء من نهاية الحرب العالمية الثانية، أما هذه المستعمرات الشاسعة فقد بدأ تكوينها اعتماداً على دعامتين أساسيتين تواكبان الأحداث السياسية والعسكرية، وهما التجارة والبعثات التنصيرية.
هل يعني ذلك أن هذه القوة الناعمة لم تفقد مكانها بعد انتهاء الاستعمار بشكله التقليدي؟
– نعم، فمنذ أن فقدت فرنسا مكان الصدارة كقوة عظمى في أوروبا انتقلت هذه الزعامة إلى اللغة الفرنسية وآدابها، وهو ما يوضح سر تمسك فرنسا بما تبقى لها من مستعمرات، حتى وإن كانت قد تحررت عسكرياً، كما يوضح سر اهتمامها بالجزائر خاصة؛ فمما له مغزاه أن تضع فرنسا احتلال الجزائر تحت إمرة وزير الداخلية الفرنسية، بينما كانت كل من تونس والمغرب تحت إمرة وزير الخارجية الفرنسية، ويرجع تمسك فرنسا بالجزائر حتى يومنا هذا إلى أنها بمثابة المدخل الحيوي الأرضي لمستعمراتها في غرب أفريقيا.
نعود إلى مصطلح «الفرنكوفونية» كتجلٍّ لهذا التاريخ، ما حقيقته؟
– الفرنكوفونية مصطلح اشتقه الجغرافي الفرنسي «أونيزيم ركلوس» عام 1871م، وهو مكون من مقطعين: فرنكو (من فرنسا)، وفوني (من صوت)، ونادراً ما تصادف هذا المصطلح قبل عام 1930م رغم اشتقاقه عام 1871م، إلا أنه أخذ في الانتشار منذ عام 1960م، وقد تم انتشاره عام 1962م عندما بدأت فرنسا إحياء النزعة الأدبية الأفريقية لبعض حكامها كالزعيم سنجور، أو حمامي دوري، أو بورقيبة، أو بعض الحكام الآسيويين كالزعيم سيرمانوك؛ إذ أفردت مجلة «إسبري» عدداً خاصاً عن اللغة الفرنسية والمتحدثين بها وآدابهم، وانطلقت الكلمة.
كما بدأ تكوين جمعيات وتخصيص اعتمادات لمختلف وسائل الإعلام الفرنسية، وإنشاء الجامعات المتحدثة بالفرنسية أو تلك التي تحتل الفرنسية فيها مكانة واضحة، وإنشاء العديد من المنظمات ومنها منظمة «الأوبلف» عام 1966م، ووكالة التعاون الثقافي والتقني في بلدة ثايومي عام 1969م التي تضم في عضويتها 41 دولة، والأمر الذي يوضح مدى أهمية الفرنكوفونية ولواحقها بالنسبة لفرنسا هو قيام الحكومة الفرنسية عام 1984م بإنشاء مجلس أعلى للفرنكوفونية، وفي عام 1988م قامت بإنشاء وزارة للفرنكوفونية، ومنذ عام 1971م كانت فرنسا قد وحدت كل الكنائس الفرنكوفونية في مستعمراتها السابقة والحالية لتتمكن من التصدي لما يطلقون عليه اليوم «الديانات غير المسيحية».
ويوضح إحصاء عام 1992م أن هناك 200 مليون نسمة يتحدثون باللغة الفرنسية، أي أن هذه اللغة لم تعد مقصورة على الشعب الفرنسي، بل إن الفرنسيين أنفسهم أصبحوا يمثلون أقلية صغرى بين المتحدثين بلغتهم!
هذا يعني أن انتشار اللغة أصل في بسط النفوذ سياسياً واقتصادياً ودينياً حتى؟
– بالطبع، فاللغة الفرنسية دعامة أساسية لنقل نمط الحياة الغربي الفرنسي؛ والاستعمار السياسي والاقتصادي والتبشير قائم على اللغة التي هي هنا الفرنكوفونية؛ وفرنسا تتزعم فرض الكاثوليكية رغم زعمها العلمانية وفصل الدين عن الدولة؛ وإحياء النزعة الأدبية الأفريقية والزنجية باللغة الفرنسية هو نوع من الاستدراج لتثبيت الفرنكوفونية، وقد بدأت بتشجيع بعض الحكام والزعماء ليكونوا قدوة لشعوبهم؛ وإنشاء ترسانة من الجامعات الفرنسية خارج أراضيها والخاضعة لنفوذها مثل «جامعة سنجور» بالإسكندرية، وإنشاء منظمات ووكالات لتدعيمها؛ وتتويج هذه الترسانة بمجلس أعلى ثم بوزارة دليل صارخ على معنى الفرنكوفونية ومغزاها وأهدافها.
وهنا نؤكد أيضاً أن التداخل الواضح بين الفرنكوفونية والاستعمار والغرس الثقافي المخطط والتبشير ليس بحاجة إلى مزيد من الأدلة؛ وليس من المبالغ فيه تعريف الفرنكوفونية بأنها بمثابة الآلة الحربية التي تساعد فرنسا على الاحتفاظ بمستعمراتها؛ فإن الاستعمار لا يتخلى أبداً عن المجال الثقافي حتى وإن تخلى عن الأرض المحتلة، وإنه يتصدى للدين على أنه أكبر قوى يمكنها تجميع الشعب أو الشعوب، وهو ما نراه يتم حالياً بصورة علنية أو شبه علنية من حيث محاولة اقتلاع الإسلام بفعل مخطط الفرنكوفونية من جهة، وبفعل القرار الذي تم اتخاذه في المجمع الفاتيكاني الثاني عام 1965م لاقتلاع الإسلام في عقد التسعينيات حتى تبدأ الألفية الثالثة وقد تم تنصير العالم.
فإذا ما تذكرنا أن معظم البلدان التي احتلتها فرنسا بلدان إسلامية أو وثنية، وأن الوثنية لا تعنيها في كثير أو قليل؛ لأنها تقوم بتنصير أتباعها بشتى الوسائل، لأدركنا خلفيات كثيرة غائبة أو مغيبة، ولأدركنا ضرورة وأهمية المطالبة بالحقوق الاقتصادية والثقافية والدينية والعدالة الاجتماعية، ولأدركنا أهمية وضرورة أن نتمسك بإسلامنا، وألا نعاون على اقتلاعه عن المنبع كما يتم حالياً بشتى المسميات، وخاصة ضرورة المطالبة بأن يقتصر تعليم اللغة الفرنسية بحيث تظل لغة تعامل إنساني متكافئ المستويات، والأكثر أهمية من هذا وذاك أن نكف عن تنفيذ مخططات الفرنكوفونية بأيدينا.
(المصدر: مجلة المجتمع)