حوار مع الدكتور أحمد الريـسوني في موضوع الدرس المقاصدي المعاصر ورهان التنمية الشاملة
أجرى الحوار د. مصطفى مفاتيحي، د. محمد قاسمي
لا يختلف اثنان في راهنية الفكر المقاصدي بأصوله وقواعده وتطبيقاته في حل مشكلات العصر والإجابة عن أكثر إشكالاته تركيبا وتعقيدا، وذلك لكون قواعده موصوفة بالعقلانية والعلمية والسننية، وهي صفات حيوية في مسار هذا الفكر تاريخا وحاضرا، وهي محل مراعاة من جميع الفقهاء والمصلحين والمفكرين بشكل عام، على اختلاف بينهم في نِسب الإعمال قلة وكثرة، ضيقا وسعة. ومن الوجهات التي ينبغي أن يؤمها الفكر المقاصدي في جانب التنظير والإعمال: قضايا التنمية بمختلف أشكالها وصورها، وذلك لكونها مرتبطة بالإنسان ومصالحه ومصيره الدنيوي والأخروي. ولتركيز الكلام في الموضوع تأصيلا وتنظيرا وتنزيلا، نستضيف في هذا الحوار عَلَمَ المقاصد ومن تفتقت نظريتها بكتاباته الرصينة وتنظيراته الوجيهة، الدكتور أحمد الريسوني حفظه الله ومد في عمره.
شيخنا الفاضل بداية: ما هو تقييمكم المجمل لمسارات الدرس المقاصدي المعاصر تنظيرا وتنزيلا؟
– الدرس المقاصدي المعاصر يتميز بأمرين:
– الأمر الأول: النمو والتكاثر السريع
– والأمر الثاني: العفوية والعشوائية
ولكل منهما إيجابيات وسلبيات..
فالتكاثر السريع عموما مرحب به، ويدل على شدة ما تحظى به المقاصد من قبول وإقبال، سواء من المنتجين أو من المستهلكين.
وأعني بالمنتجين: الباحثين والدارسين والمؤلفين والمدرسين والمحاضرين.
وأعني بالمستهلكين: القراء والمتابعين والطلبة والمستفتين وعموم المتدينين. فكثير من هؤلاء أصبحوا يسألون عن المقاصد ويتحرونها في تفقههم وثقافتهم وتعبدهم.. حتى إني أحيانا أتضايق ممن يسألونني ويطلبون مني «جوابا مقاصديا»، أو يقول قائلهم: ما هو الرأي المقاصدي، أو الحكم المقاصدي، في مسألة كذا؟ فأوضح لهم أن المقاصد جزء من الشرع، وأنها لا تنفك عن الكتاب والسنة وسائر الأدلة الشرعية.
ومرة زارني أحد الأصدقاء السعوديين (بمدينة جدة)، قائلا: عندي سؤال جاءني من شاب سعودي ذهب للدراسة في أمريكا، واحتاج إلى تقوية لغته الإنجليزية لكي يتمكن من متابعة دراسته، فبحث عمن يدَرِّسه الإنجليزية، فلم يجد إلا أستاذة أمريكية. فهي الآن بدأت تأتيه إلى البيت لتعطيه دروسا في الإنجليزية، وهو يعيش وحده في البيت. وهو يسأل: هل هذا جائز؟ قلت لا، غير جائز. هذه خلوة بين رجل وامرأة، فالشيطان ثالثهما، والأمر متكرر ومستمر. قال: لكن هي في الخمسينيات من عمرها، في سن والدته. فقلت: إذا لم تشَكِّل هي فتنة له، لكونها في سن والدته، فبالتأكيد سيشكل هو بشبابه وفتوته فتنة لها، وقد يقع المحظور الأكبر. فالوضع مثلما لو عكسنا، فجئنا بأستاذ في الخمسينيات،ليُدَرّس طالبة في العشرينيات، وهما منفردان مرة بعد أخرى؟ هل هذا يجوز؟ فقال لي مستغربا: هل أنت مقاصدي أم سلفي؟ قلت هما معا.
ولمرات عديدة وجدت بعض السائلين مستغربين مما أجيبهم به، ويعتبرونه متشددا ونصوصيا، وغير مقاصدي، وعلى خلاف ما كانوا يتوقعون..
فهذا يعكس تصورا سائدا عند بعض المثقفين وبعض المتدينين، مفاده أن المقاصد تفتح لهمأبواب الترخيص والتسهيل وتجاوز بعض الأحكام، مع ضمان البقاء في أحضان الشريعة ومقاصدها..!
وقد بدأنا نجد بعض المهتمين والمثقفين يقسمون العلماء والفقهاء إلى نصوصيين ومقاصديين.
فربما تكون هذه الصورة وهذه الانطباعات غير السليمة عن المقاصد، هي من نتائج النمو السريع والطفرة السريعة لفكرة المقاصد.
ولكن يبقى الأهم في سؤالكم، ولعله هو مقصود السؤال، هو الإنتاج والمنتجون والقائمون على هذه الحركة المقاصدية المباركة.
وتعبيركم بالمسارات تعبير جيد ومناسب..
فالاهتمام المعاصر بمقاصد الشريعة عرف عدة مسارات وتشعبات:
– مسار التدريس الجامعي،
– مسار البحث العلمي الجامعي،
– مسار التأليف الجامعي (كتب منهجية جامعية للطلبة)،
– مسار التآليف الحرة بمبادرات فردية،
– مسار الندوات والمؤتمرات والدورات عن المقاصد،
– مسار المراكز البحثية المتخصصة في المقاصد،
وأما سمة العفوية والعشوائية في الحركة المقاصدية، فهي واضحة، وترجع إلى تعدد الأقطار والمؤسسات والمبادرات، من غير أي توحيد أو تنسيق بينها. وهذا يعطي اختلافات كبيرة في الرؤى والاجتهادات والآفاق. حتى إننا نجد ما يمكن تسميته بالتوجه المقاصدي الحداثي، الذي يسعى إلى تثبيت نظرية مقاصدية تتخذ من مقاصد الشريعة، والمصلحة، وما يسمى بالقيم الكونية، بديلا عن النصوص والفقه الإسلامي وأصول الفقه..! وهذا التوجه موجود في عدد من الدول العربية، وفي تركيا وإيران وباكستان والهند وماليزيا وإندونيسيا.. وهو توجه قد يوصف أحيانا بـ»التيار»، ولكنه في الحقيقة أقل من أن يسمى تيارا. فهو موجود، ولكنه محدود.
على أنمما يخفف ويحدُّ من سلبيات هذا العنصر، عنصر العشوائية وما تنتجه من اختلاف وتباعد، هو وجود بعض المؤلفات التي أصبحت ذات مكانة مرجعية وقيادية للحركة المقاصدية؛ مثل موافقات الشاطبي، وقواعد ابن عبد السلام، ومقاصد الشيخين ابن عاشور وعلال الفاسي. وفي هذا الاتجاه أيضا تسير بعض مؤلفات الريسوني وجاسر عودة، خاصة وأن الأول تُرجم العديد من مؤلفاته إلى عدة لغات أوروبية وآسيوية، والثاني له مؤلفات مترجمة أو مكتوبة بعدة لغات (العربية، الإنجليزية، الملايوية..).
وأشير هنا كذلك إلى الدور الريادي العالمي لمركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية، التابع لمؤسسة الفرقان، التي مقرها بلندن، بمنشوراته ومؤتمراته العالمية.
وعنصر العفوية والعشوائية هذا -رغم كونه في الأصل عنصرا سلبيا – فإنه يعطي شيئا مما يسمونه بالفوضى الخلاقة؛ فتكثر المبادرات والمنافسات بين الأفكار والنظريات، ويتمتع الجميع بحرية متساوية في الرأي وفي الإبداع، فتمضي الأمور حرة بلا عوائق ولا تحكم..{فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْض} [الرعد: 17].
هكذا تبدو لي صورة المقاصد والمقاصديين..
من خلال هذا التقييم: ما هي نظرتكم المجملة لمناهج تناول الدرس المقاصدي في جوانبه التفعيلية المرتبطة بمصالح الإنسان؟
– هذا الجانب، أو هذا المسار، ما يزال ضعيفا. وقد نقول عنه: إنه آخر المسارات انبثاقا وانطلاقا. وهذا طبيعي؛ أولا لكون القول يسبق الفعل عادة، ولكون القول أيسر وأسرع شيوعا وانتشارا، بينما الفعل والتفعيل أمامه صعوبات، وأحيانا موانع.
ومع ذلك، فأنا أرصد بدء سريان المقاصد وتفعيلها في بقية العلوم الشرعية، وفي مقدمتها الفقه والإفتاء الفقهي. فحضور المقاصد وتأثيرها في المؤلفات والفتاوى المعاصرة، أصبح واضحا ومتزايدا. سواء في ذلك الفتاوى الفردية أو الفتاوى الجماعية.
ونلحظ كذلك جهودا مقدرة ومتزايدة،لتفعيل المقاصد والاسترشاد بها في الحياة العملية (في الممارسة التربوية، وفي العمل السياسي، العمل الاجتماعي، وفي ترشيد العلاقات الاجتماعية والسياسية بين مكونات المجتمعات).
وفي هذا السياق، أسجل الريادة المبكرة والشجاعة للأستاذ علال الفاسي رحمه الله، حيث اتسمت كتاباته عن المقاصد بالربط الفوري مع تطبيقاتها المعاصرة. فالمقاصد عنده تعني وتتضمن الحرية والتحرر، وتعني حقوق الإنسان، وتعنى حقوق العمال، وتحرير المرأة، وتعني العدالة الاجتماعية.. بينما إلى الآن نجد بعض المؤلفين في مقاصد الشريعة يعيشون في منفاهم الاختياري، في القرن الخامس والسادس والسابع. وفي أحسن أحوالهم لا يتجاوزون عصر الشاطبي ومباحثه وأمثلته.
وأما السنوات الأخيرة،فبرزت فيها التجربة الماليزية الرائدة، حيث أصبحت مراعاةُ مقاصد الشريعة من ثوابت الحكومات والوزارات الماليزية وبرامجها. وهذا أسعد ما وصلت إليه الحركة المقاصدية.
ما تقييمكم لمسارات الدرس المقاصدي في معالجة مصالح الإنسان؟ (التنمية أنموذجا).
–من المعلوم أن مقاصد الشريعة كلها تدور حول مصالح الإنسان، سواء قديما أو حديثا. فاتفاق العلماء على أن «وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد»، و»أن الرسل بعثوا بجلب المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها»، لا يعني شيئا سوى مصلحة الإنسان. وهذا هو شأن الشريعة من أصلها وبكامل أحكامها، ولكن الحديث في مقاصد الشريعة وكلياتها قد أبرز هذا الوجه بشكل جلي. ولو نظرنا فقط في الضروريات الخمس، وهي بمثابة ألفباء المقاصد، لما وجدنا غير الإنسان ومصالح الإنسان. لكن مصلحة الإنسان في المفهوم الشرعي، أوسع وأرقى من المصلحة بمعناها الاقتصادي والتنموي الضيق. وإن كان هذا المعنى حاضرا ومعتبرا.
ومن أهم الكتب القديمة في هذا الباب، كتاب الإمام عز الدين بن عبد السلام (قواعد الأحكام في مصالح الأنام)، وعنوانه معبر بوضوح عن موضوع سؤالكم.
وإذا جئنا إلى الصحوة المقاصدية المعاصرة، فأبرز ما يمكنني ذكره في هذا الباب هو (معهد إسلام المعرفة)، التابع لجامعة الجزيرة في السودان، وله جهود وإنتاجات كبيرة ورائدة في موضوع المقاصد والتنمية.
كما أن مؤسسة الفرقان (= مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية) خصصت العديد من مؤتمراتها ومنشوراتها لهذا الموضوع.
ويحضرني في هذا الباب كذلك كتاب الصديق الدكتور عبد النور بزا (مصالح الإنسان مقاربة مقاصدية)، وقد أخبرني مؤخرا أنه قد انتهى من تحرير كتاب آخر في الموضوع، وهو بعنوان (فقه مصالح الأمة من المصالح الفردية إلى المصالح العامة).
ومن هذا القبيل أيضا كتاب أستاذنا الدكتور عبد المجيد النجار (مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة).
وهذه كلها جهودومؤلفات في صميم سؤالكم عن المقاصد والتنمية، وهي ما تذكرته فقط، لأني الآن بعيد عن مكتبتي وما فيها من مؤلفات مقاصدية.
لكن للأسف، الدول الإسلامية – باستثناء ماليزيا – لا تُلقي بالا لهذه الرؤى والإبداعات الأصيلة، وتَبقى الوجهة المعتمدة عندها هيالنماذج والمناهج الغربية!
هل لكم أستاذنا الجليل أن تحددوا لنامعالم نظرتكم التجديدية والإصلاحية للدرس المقاصدي المعاصر؟ وكيف ينبغي أن يكون؟
–أنا لا أزعم أن لي رؤية جاهزة وذات معالم محددة، لتجديد المقاصد وإصلاح حالها ومستقبلها. ولكن لي تجربة في التعامل مع المقاصد دراسة وتدريسا وتأليفا… ومن خلالها ترتسم في ذهني ملاحظات وتطلعات..
وعموما فالدراسات والمدارسات المقاصدية في غالبها هي عمل جديد وتجديدي، فهي الآن بحاجة إلىالاستكمال والترشيد، لا إلى الإصلاح والتجديد. فإن كان من تجديد وإصلاح لها، فليكن بهذا المعنى.. وهو قائموماض بحمد الله..
وعلى سبيل المثال: دعوت في خاتمة (نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي) إلى استخراج المقاصد من مصنفات عدد من كبار العلماء، سميتهم. وقد تم ذلك بالكامل، ثم تواصل بأضعاف مضاعفة عما ذكرته ودعوت إليه، وما زال العمل متواصلا في هذا الاتجاه. وهذا أساس متين لا بد منه للبناء المقاصدي، باعتباره ضاربَ الجذور والأصول في الكتاب والسنة، وفقه الصحابة، وفقه الأئمة.. فنحن لا نقوم بتصنيع شيء جديد مبتكر، اسمه (مقاصد الشريعة). ولذلك فإبراز الفكر المقاصدي لعلمائنا المتقدمين في مختلف العصور، مسألة في غاية الأهمية، لضمان الشرعية ووحدة المرجعية، ولضمان الترابط والتسلسل والاستمرارية، وانبثاقِ الجديد والتجديد من رحم القديم الأصيل.. وبدون هذا، سرعان ما نرى الشرود والتيه والانبتات، كما هو الحال عند «المقاصديين الحداثيين».
وقد دعوت كذلك إلى بناء عدة لبنات،نسد بها عدة ثغرات، لكي يكتمل بذلك (علم مقاصد الشريعة). وفي هذا السياق أُعِدَّت وصدرت عدة مؤلفات تناولت: طرق الكشف عن المقاصد، وقواعد المقاصد، وأعلام المقاصد، ومصطلحات المقاصد..
وعليه، فعملية الاستكمال والترشيد للبناء المقاصدي جارية، علينا فقط أن نواصلها بخطى حثيثة وثابتة.
وبذلك ستتراجع التأويلات الشاردة،والاستعمالات المنحلّة، للمقاصد. بل إن بعض المراهنين على المقاصد لتمرير مشاريعهم الحداثية التغريبية، بدأوا فعلا ينفضون أيديهم من فكرة المقاصد، ويعلنون صراحة أنها لا تحقق لهم «المقاصد» التي يريدون. وأعني هنا عبد المجيد الشرفي وتلاميذه في تونس، فلذلك تحولوا من سياسة ركوب المقاصد، إلى استراتيجية التشكيك والتفكيك، والهدم من الداخل، لفسح المجال لبناء المقاصد الجديدة، التي سماها علال الفاسي (مقاصد الشريعة الاستعمارية).
ما هو التصور المقاصدي للتنمية في نظركم شيخنا الفاضل؟ مضمونا ومجالات.
–المنظور المقاصدي للتنمية هو أن تكون (تنميةً شاملة متوازنة) أي: التنمية الفردية والجماعية، البدنية والروحية، المادية والمعنوية، الحقوقية والخُـلُـقية، الحالية والمآلية.
اليوم يوجد إحساس عالمي واسع بأن التنمية الاقتصادية والمعيشية، لم تعد كافية لاستيعاب تنمية حقيقية لائقة. فظهر مفهوم (التنمية المستدامة) التي أَدخلت في مفهوم التنمية عناصرَ جديدة، وهي العلاقات الاجتماعية، والبيئة، ومصلحة الأجيال القادمة.
ثم أخيرا بدأ الانتباه والتنبيه إلى مكانة الثقافة في التنمية. فالإنسان كائن مثقف، ويحتاج إلى الثقافة كحاجته إلى الطعام والشراب والمسكن واللباس.. ومصطلح الثقافة يخفي وراءه -بحسن نية أو بسوء نية، لا أدري – يخفي حاجة البشرية إلى الدين والعقيدة والثقافة الدينية والممارسة الدينية. فهل سيجرؤون ذات يوم على القول صراحة بأن التنمية المستدامة بحاجة إلى عنصر الدين؟
نحن -من أرضية المقاصد – نستطيع أن نقول: إن التنمية المستدامة، هي التي تتأسس على حفظ الضروريات الخمس (الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال)، ثم تنطلق منها إلى بناء تنمية بشرية تليق بإنسان الإيمان، وإنسان الأخلاق، وإنسان الكرامة، وإنسان الثقافة..
وما هي السبل الرشيدة لربط الدرس المقاصدي بالعلوم المجاورة والواقع الخارجي خدمة للتنمية الشاملة للإنسان؟
–أما ربط المقاصد بغيرها من العلوم، فهذا أمر ليس بجديد. والمقاصد لا يصح عزلها عن روافدها ومنابتها. وقد ذكرتُ عدة مرات أن «مقاصد الشريعة» لم تنشأ في أحضان علم أصول الفقه وحده، بل هي في غيره أكثر. المقاصد توجد في كتب الفقه، وكتب القواعد الفقهية، وفي بعض كتب الكلام، وفي كتب التفسير، وفي كتب التصوف، وفي كتب المواعظ والرقائق، وفي كتب غير مصنفة كالغياثي لإمام الحرمين، وحجة الله البالغة لشاه ولي الله الدهلوي. بل في مقدمة ابن خلدون كنوز من المقاصد، أكثر مما في أي كتاب أصولي قبل (الموافقات).
وهذا التبادل، أو الاستمداد المتبادل، موجود اليوم بدرجات متفاوتة. ففي الفقه ألفنا اليوم الحديث عن (الاجتهاد المقاصدي)، وفي التفسير وعلوم القرآن كتبت عدة بحوث ومؤلفات عن (التفسير المقاصدي) وعن (مقاصد القرآن الكريم). وكثير من المؤلفات الأصولية أصبحت تخصص حيزا مقدرا لمقاصد الشريعة، وتُدخل النظر المقاصدي في عدد من مباحث علم أصول الفقه.ونجد دراسات مقاصدية للسنة وللسيرة النبوية. ورأينا أبحاثا ومؤلفات حديثة عن المقاصد والأخلاق.
ومؤخرا بدأ الحديث عن (تقصيد العلوم الشرعية)، بمعنى تقييم المؤلفات وتوجيهها وفق المعايير المقاصدية، ووفق مقاصد العلم الذي تنتمي إليه.
وأما ربط المقاصد بمحيطها الخارجي، فأمر جديد ولكنه جيد. بعض العلماء يتحفظون منه، باعتبار أن المقاصد لا تصلح لعموم الناس، وإنما هي للعلماء، ولخاصة العلماء. فهي عندهم من (المضنون به على غير أهله)، ولكني أرى خلاف هذا، ولذلك كتبت عن التقريب لمقاصد الشريعة، وأشارك دوما في حوارات ودورات وحلقات تلفزيونية، عن مقاصد الشريعة، تكون موجهة لعامة المتعلمين والمثقفين. وأرى هذا التثقيف المقاصدي العام، يسهم كثيرا في ترشيد التدين ورفع مستواه.
وكما لا يخفى عليكم، فهذه الأمور التي تحدثنا فيها، عادة ما يكون تطورها ونموها بطيئا،ومن جيل لآخر، أو أبطأ من ذلك. هذه طبيعتها أولا.
وثانيا، هذه الجهود التي نتحدث عنها هي جهود فردية وعفوية وتطوعية. وليس هناك حتى الآن أي مؤسسات رسمية، لا قُطرية ولا دولية، ترعى وتقود وتدعم هذا المجال بمختلف مساراته. وحتى ما يقع داخل الجامعات، فإنه يقوم أساسا على المبادرات والجهود الفردية.
(المصدر: مجلة البصائر / الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)