حمد الصالحين لله في ضوء القرآن الكريم
بقلم حمزة شواهنة
إن الله – عز وجل – قد شَرع لعباده عبادات عظيمة، ومِن أجلِّ العبادات التي أكد عليها القرآن الكريم في كثير مِن آياته عبادةُ الذِّكر، ومِن أعظم الأذكار منزلةً حمد الله عز وجل؛ إذ هو كلمة ارتضاها الله عز وجل لنفسه، واصطفاها لملائكته، ولَهَج بها صفوةُ خَلقه من رُسُله عليهم السلام، وافتَتح بها كتابَه العزيز، حيث قال – عز وجل -: {الْـحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: ٢]، ولما كان الجمُّ الغفير من المسلمين يدرِكون مكانة الحمد، لكنهم يغفُلون عن مدلوله الصحيح، لذا جاء هذا المقال ليتناول منهج الرسل عليهم السلام ومَن تبعهم من المؤمنين الصادقين في شدة حرصهم على تحقيق هذا الذِّكر الجليل، وذلك من خلال آيات القرآن الكريم.
مفهوم الحمد:
الحمد في اللغة: مصدر حَمِد، قال ابن فارس: «الحاء والميم والدال كلمة واحدة وأصل واحد يدل على خلاف الذم، يقال: حمدتُ فلاناً أحمده، ورجـل محمـود ومحمَّد: إذا كثُرت خصاله المحمودة غير المذمومة»[1].
أما الحمد في الاصطلاح، فقد عرَّفه الجرجاني بأنه الثناء على الجميل من جهة التعظيم من نعمة وغيرها[2].
ويدخل تحت مفهوم الحمد في القرآن الكريم عدَّة ألفاظ، منها: التحدُّثِ بالنِّعم، والشكر، والتزكية، والذِّكر، وغيرها من المصطلحات التي تحمل في ثناياها المدلول نفسه.
نماذج من حمد الصالحين في آيات القرآن الكريم:
الرسل – عليهم السلام – هم أئمَّة الحمد، وجاء التنويه بحمد الرسل عليهم السلام ومَن سار على دَربهم من المؤمنين في عدَّة مواضع في الذِّكر الحكيم، منها:
ما عرَضه القرآن الكريم عن حمْد الخليل عليه السلام لربِّه عز وجل، وذلك في مَعرِض ثنائه – عليه السلام – على الله عز وجل على هِبَة الولد الصالح، فقال إبراهيم – عليه السلام -: {الْـحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ إنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم: 39].
وفي موضع آخَر يحكي القرآن الكريم حمْد داود وابنه عليهما السلام لربِّهما عز وجل، وذلك في سياق الثناء على الله عز وجل على النعمة والفضل، فقال – عز وجل – مخبِــــراً عنهمــا: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْـحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْـمُؤْمِنِينَ} [النمل: 15].
وفي موضع ثالث يشير القرآن الكريم إلى حمْد المؤمنين لربهم عز وجل عند خروجهم من القبور، كما في قوله – عز وجل -: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إن لَّبِثْتُمْ إلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 52].
وفي موضع رابع يحكي القرآن الكريم حمْد المؤمنين لربهم عز وجل على ما يَسَّر لهم من الإيمان والأعمال الصالحة التي صيَّرتهم إلى دخول الجِنان، كما في قوله – سبحانه وتعالى -: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الْـحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْـحَقِّ وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْـجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43].
وجاء التعبير بالماضي في الآيات الكريمة التي توضح حمْد المؤمنين مِن أهل الجنة؛ وذلك للتنبيه علـى تحقُّق وقوعه[3].
وفي موضع خامس ينوِّه الله – عز وجل – بحمْد المؤمنين مِن أهل الجنة، حيث أخبر – عز وجل – عن دعائهم فيها بحمْده بقوله: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِـحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ 9 دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللّ›هُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْـحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 9، 10].
وفي موضع سادس يذكر الله – عز وجل – حمْد المؤمنين مِن أهل الجنة، وذلك بعد زوال جميع أنواع المخاوف عنهم برحمته، كما في قوله – عز وجل -: {وَقَالُوا الْـحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْـحَزَنَ إنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ 34 الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْـمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر: 34، 35].
وفي الموضع الأخير يذكر الله – عز وجل – حمْد المؤمنين مِن أهل الجنة على ما منحهم من النعيم الذي وعَدهم به، حيث أخبر – عز وجل – عن لَهَجهم بحمده بقوله: {وَقَالُوا الْـحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْـجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر: 74].
الفوائد المستنبَطة مِن عرض النماذج القرآنية المتضمِّنة لحمد الصالحين:
المتأمل في ما سبق مِن عرض القرآن الكريم لتحميد الرسل عليهم السلام وأتباعهم في عدَّة مواضع، يجد أنه يتضمن دروساً بليغة، ومِن أبرزها ما يأتي:
أولاً: الحمد عبادة أهل الجنة: فإن المتأمِّل في آيات التحميد يَلحظ أن الحمد ونحوه من ألوان التسبيح والتمجيد لله سبحانه وتعالى عبادةُ أهل الجنة؛ حيث أشارت آيات الذِّكر الحكيم السابقة إلى أن حمد المؤمنين في الآخرة على أنواع، وهي:
٭ حمد أهل الجنة عند الخروج من القبور.
٭ حمد أهل الجنة عند دخول الجنة.
٭ حمد أهل الجنة بعد استقرارهم فيها.
٭ حمد أهل الجنة على ذهاب الحزن وسائر المخاوف.
٭ حمد أهل الجنة على صدق وعد الله سبحانه وتعالى لهم بوِراثة الجنة.
مما سبق يتبين أن الحمـد هو أوَّل كلام أهل الجنة وآخرُه، كما في قوله – سبحانه وتعالى -: {وَقَالُوا الْـحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43]، وقوله – سبحانه وتعالى -: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْـحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].
ثانياً: تنوُّع مواطن الحمد: إن حمد الله – سبحانه وتعالى – مشروع في سائر الأحوال، كما قال – عز وجل -: {لَهُ الْـحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ} [القصص: 70]، ولكنه يتأكد في أحوال معيَّنة، ومن مواطن الحمد التي لجأ إليها الأنبياء عليهم السلام ومَن تبِعهم كما نصَّت عليها آيات الذِّكر الحكيم الآنفة ما يأتي:
٭ الحمد عند تجدُّد النعم سواء كانت دينية أم دنيوية، ومثال ذلك حمْد سليمان وداود عليهما السلام في قولهما: {الْـحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْـمُؤْمِنِينَ} [النمل: 15]، وكذلك حمدُ المؤمنين الدائم فـــــي الآخرة.
٭ الحمد عند نعمة الولد على كِبر: كما حصل للخليل عليه السلام عندما قابَل هِبة الولد بالحمد، فقال – عليه السلام -: {الْـحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ} [إبراهيم: 39].
وجملة القول: إن الأنبياء – عليهم السلام – وأتباعهم كانوا أكثر الخلْق حمداً لربِّهم سبحانه وتعالى في كلِّ أحوالهم؛ وذلك لأن لله سبحانه وتعالى من الأسماء الحسنى والصفات العظيمة التي لا تنبغي إلا له، ولِمَا أَسبغ عليهم نِعمه سواء كانت دينية أم دنيوية، وعليه ينبغي على المسلم أن يَلهج بحمد الله سـبحانه وتعـالى في أدَقِّ النِّعم وأجلِّها، لأن هذه العبادة لا تتقيد بحال معيَّنة، ولا تقتصر على نعمة دون أخرى، إلا أنه ينبغي رعاية موضعها في هذه المواطن ونحوها مما ورد في الذِّكر الحكيم والسنَّة الصحيحة أكثر من غيرها.
ثالثاً: التحميد منهج الأنبياء عليهم السلام والمؤمنين: إن حمْد الله سبحانه وتعالى كلمةُ كلِّ شاكر، وقد كان التحميدُ منهجَ الرسل والأنبياء عليهم السلام ومَن تبعهم من المؤمنين الصادقين، حيث أمَر الله – سبحانه وتعالى – عبدَه الشكور نوحاً عليه السلام بأن يحمَـده، وذلك بعدَ أن كَتَب لـه ولمَن معه النجاة، وأَغرق قومه، فقال – سبحانه وتعالى -: {فَقُلِ الْـحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِـمِينَ} [المؤمنون: 28]، وقال إبراهيم – عليه السلام -: {الْـحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ} [إبراهيم: 39]، وقال سليمان وداود – عليهما السلام -: {الْـحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْـمُؤْمِنِينَ} [النمل: 15]، كما أمَر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بأن يحمَده، فقال – سبحانه وتعالى -: {وَقُلِ الْـحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} [الإسراء: ١١١]، والآيات في هذا المعنى كثيرة، وأوَّل ما نَطق به أبونا آدم عليه السلام (الحمدُ لله ربِّ العالمين)؛ وذلك لأنه لما بَلَغ الروحُ إلى سُرَّتِه عَطَس[4]، كما جعل الله – سبحانه وتعالى – الحمدَ عبادة أهل الجنة.
وجاء حمْد الصالحين من البشر في القرآن الكريم على صُور متنوعة، إحداها: صيغة الأمر به، سواء سُبق بـ (قُل) أو بالأمر بالتسبيح مقروناً بالحمد[5].
والثانية: صدور حمد الصالحين لله عز وجل مباشرة على نعوت كماله ونِعمه الجزيلة.
والثالثة: بصيغة الإخبار عنه، كما في قوله – سبحانه وتعالى -: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إن لَّبِثْتُمْ إلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 52].
رابعاً: إيثار صيغة (الحمدُ لِلّه) على غيرها من صيغ التحميد: ورد التعبير القرآني بصيغة {الْـحَمْدُ لِلَّهِ} أو {الْـحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: ٢]، كما قال – سبحانه وتعالى -: {فَقُلِ الْـحَمْدُ لِلَّهِ} [المؤمنون: 28] وغيرها من الآيات، ولمْ يأمُر الله – سبحانه وتعالى – أحداً من خلْقه بحمده مباشرة البتة؛ وذلك كي لا يغيب عن ذهن الحامد له أنه محمود منذ الأزل، وهو غنيٌّ عن حمد المخلوقين، كما أنَّ اختيار الجملة الاسمية {الْـحَمْدُ لِلَّهِ} أولى من اختيار الجملة الفعلية (أَحمَدُ الله)؛ إذ هو أدلُّ علـــى ثبـــات الحمـــــد واستمـــراره.
ولقائل أن يقول: لماذا قال: (الحمدُ لِلّه)، ولمْ يقل: (الحمدُ للخالق) ونحوه من الأسماء الحسنى؟ والجواب: أنَّ لفظ الجلالة (الله) هو الاسم الأعظم الجامع لمعاني الأسماء الحسنى ما عُلم منها وما لم يُعلَم، فهو المستحق للحمد لذاته لا لصفة من صفاته فقط[6].
هذا وإنَّ تَعلُّق الحمد لذاته المقدَّسة بوصف (ربِّ العالمين) في مواضع من الذِّكر الحكيم يناسب هذا المقام؛ وذلك لأنَّ ربوبيته – سبحانه وتعالى – للعالَمين تقتضي تدبير شؤونهم ورعاية أحوالهم ومصالحهم، فهو كالعلَّة لاستحقاقه الحمد.
خامساً: فضل التحميد: فإنَّ التحميد من أجلِّ الأذكار، وله منزلة جليلة في القرآن الكريم والسنَّة المطهَّرة، ومما يدلُّ على فضله، أنَّ الله – سبحانه وتعالى – أَمَر به رُسُله عليهم السلام في مواضع عديدة من كتابه العزيز، إضافة إلى أنَّ في استخدام القرآن الكريم للحمد بصيغة فِعل الأمر (قُل) خاصة دلالة بيِّنة على أهمية التحميد وجلالة منزلته، ومما يوضِّح منزلته أنَّ الله – سبحانه وتعالى – جَعله عبادة أهل الجنة.
[1] انظر، ابن فارس: مقاييس اللغة، (حمد)، (2/ 100).
[2] انظر، الجرجاني: التعريفات، (30).
[3] انظر، الآلوسي: روح المعاني، (٢٢/٤٩٦).
[4] انظر، الطبري: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، (1/ 456).
[5] حيث ورد الأمر الإلهي للرسول محمد صلى الله عليه وسلم وحده من بين رسُله عليهم السلام بالتسبيح له عز وجل مقترناً بتحميده في أغلب المواضع التي تضمنتْ تسبيحه صلى الله عليه وسلم ، حيث بلَغت سبعة مواضع في القرآن الكريم، انظر، عبد الباقي، محمد: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم (339).
[6] انظر، الآلوسي: روح المعاني، (1/76).
(المصدر: مجلة البيان)