حماية المال العام من تسلط الأمراء والسلاطين ومسؤولي الدولة
بقلم يوسف الحسين افيكيز
تجدد النقاش في الفترة حول صلاحيات ولي الأمر خصوصا بعد هرولة بعد الأنظمة لتوقيع اتفاقيات مع الكيان الغاصب، وبروز بعد العلماء ممن يدافعون عن هذه الأنظمة ويلتمسون لها الأعذار بل يشاغبون بلي عنق النصوص وتطويعها لتصب في أن كل ما يتعلق بمصالح الشعوب الاستراتيجية هو من صلاحيات ولي الأمر دون حسيب أورقيب، وأنه الآمر الناهي الذي لا يرد له قول ولا يشق له غبار.
فيتصرف في مصالح المسلمين وأعراضهم وأموالهم كيف شاء وكيف أراد فهل كان فقهاء السلف على هذ النهج من الخضوع والخنوع. أم أنهم كانوا يقومون بواجبهم الرقابي ويرشدون الحكام إلى ما فيه مصلحة البلاد والعباد، دون وجل ولا خوف من بطش الظلمة وفقد المناصب.
ومما يؤكد هذا السمو والرسوخ في القيام بمسؤولية العلم وإرشاد الحكام إلى ما فيه صلاح دينهم ودنياهم، ما سطرته كتب النوازل والسياسة الشرعية من الفتاوى التي تبين علو كعب العلماء على الحكام، وأن الأصل أن الحاكم لابد له من الإنصات للعلماء وإلا فقد حاضنته الشعبية، لأن العلماء هم ملوك القلوب، ولا يمكن أن يستتب الأمر للحاكم إلا برضاهم عنه، فأين نحن من هذا الزمان التي يطلق فيه على سفهاء الحكام ألقاب “المحدث الملهم” وحسبه أنه ملهم ومحدث من الشيطان.
وإليكم نازلة أ من نوازل السياسة الشرعية تحدث عنها الفقهاء وأولوها عناية، لأنها مرتبطة بحفظ حقوق الشعوب في أموال الدولة، وعدم فتح الباب أمام ناهبي المال العام من السلاطين والأمراء لإجازة تصرفاتهم المرفوضة شرعا وقانونا في أموال الدولة التي ائتمنوا عليها وسخروها لمصالحهم، ومصالح أقربائهم، فما أحدثوه من التصرفات لا يعطي الشرعية ولو كان نافذا في الواقع فالمعدوم شرعا كالمعدوم حسا، فهذا سطو بغير وجه حق يجب فيه إرجاع الأمور إلى نصابها يقول الونشريسي رحمه الله تعالى: «تحبيس السلاطين على أقربائهم أو غيرهم غير نافذ»:
وسئل فقهاء عن تحبيس السلطان أبي العباس أحمد بن أبي سالم([1]) لجنان[2] بن عين الناس على ضريح جده هل يمضي أم لا:
فأجاب الشريف محمد بن احمد بن محمد العمراني بما نصه لما وقع البحث والنظر، في مسالة جنان بن عين الناس المذكور في السؤال أعلاه، كشف الحال أن الأمراء يحكم في حبسهم بحكم مستغرق في الذمة، وأبرزت الحال أن ذلك في الصدقة والتبذير في الملاهي والشهوات المحرمة، مع ما ينالون من الرشا والهدايا المحرمة، انظر إلى ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم حين قدم رجل فجعل يقول هذا مالي أهدي لي، وهذا مال المسلمين فخطب عليه السلام قال: هلا جلس أحدكم في بيت أمه فيهدى له»…. فخرج من هذا أن حبسهم باطل وهم بمثابة من حبس مال غير على غيره فلا يصح ذلك أصلا لأن صحة التحبيس ناشئة عن صحة الملك وقد تبين لك ذلك فلا يحتاج فيه القاضي إلى إثبات([3])….
وأجاب سيدي عبد الله العبدوسي «إن الملوك فقراء مدينون بسبب ما احتجزوه على المسلمين بتصرفاتهم في أموال بيت المال بالهوى في أبنية الدور الغالية المزخرفة، والمراكب النفيسة والأطعمة الطيبة اللذيذة، وإعطاء الأصدقاء والمزج بالباطل بين الأموال إلى غير ذلك من التصرفات المنهي عنها فهذا كله يدوَّن عليهم، ويكثر مع تطاول الأيام فلا تصح تبرعاتهم وتحبيساتهم وهباتهم وصدقاتهم، إلى غير ذلك لا على أولادهم، و لا غيرهم من قرابتهم أو غيرهم من أصدقائهم، فإن وقفوا على أحد ممن ذكرنا لم ينفذ وقفهم، وحرام على من وقف عليه تناوله لهذا الوقف، ولهذا السلطان أو غيره ممن ولي بعده انتزاعه واسترجاعه لبيت المال، ثم بيعه إن كان صحيحا مما يصح بيعه أو صرفه في مصلحة من مصالح المسلمين على ما أداه إليه اجتهاده من المنهج الأرجح([4]).
وهذه قمة المحافظة على المال العام ومنع الملوك والرؤساء من التصرف فيه بغير وجه حق فجعل التصرفات التي يحدثونها مخالفة للقوانين لاغية وغير معتبرة، نظرا لاستغلال النفوذ الذي شابها.
وهذا في وقت كان العالم الغربي يعيش ظلاما دامسا يتحكم فيه الملوك ورجال الكنيسة، بينما وصل المسلمون إلى أرقى أنظمة الرقابة على المال العام قبل إحداث هيئات الرقابة ومكافحة غسيل المال العام، فاعتبر الفقهاء رحمهم الله وهم من كانوا يقومون بالرقابة التشريعية على الحكومات، أن مسؤولي الدولة مستغرقي الذمة ما لم يصرحوا بممتلكاتهم قبل تولي المناصب فيحاسبون على الربح السريع الذي يطرأ على أموالهم. فلا تجوز تصرفاتهم فوق ما يملكون، وللدولة استرجاع وإبطال كل ما أحدثوه في أموال الدولة من غير وجه حق.
([1]) – هذا السلطان يقال له ذو الدولتين، لأنه ولي الملك مرتين، أمه حرة بنت أبي محمد السائي كنيته أبوالعباس لقيه المنتصر بالله، بويع أولا بطنجة في شهر ربيع سنة خمس وسبعين وسبعمائة، ثم بويع البيعة العامة بالمدينة البيضاء «فاس الجديدة». بعد استيلائه عليها يوم الأحد السادس من محرم سنة ست وسبعين وسبعمائة، الاستقصا. ج:2. ص: 62.
[2] الجنان: من الجنة ويطلق على البستان المثمر الجميل
([3]) – المعيار المعرب. ج: 7.ص: 305. 306
([4]) – المعيار المعرب. ج: 7. ص: 308.
(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)