بقلم أحمد التلاوي
شهدت السنوات الأخيرة مجموعة من التطورات السياسية على المستوى الفلسطيني والعربي، هددت كثيرًا مجموعة من المفاهيم والثوابت التي تمثل صُلْب أو عصب القضية الفلسطينية، وبالذات على مستوى المُدْرَكات التي تصنع في النهاية مكانة القضية لدى عموم الجمهور، وتدفع إلى استمرار الحراك لأجل مواجهة العدو الصهيوني على أرض #فلسطين.
ومن أهم هذه المُدْرَكات التي تهددت بسبب تصاعد خطاب المصالح القُطْريَّة الضيقة الخاص بكل دولة، وبتأثير من توجيهات قوى ودول عظمى تفرض إملاءاتها، اعتبار العدو الصهيوني، هو العدو الأساسي والأخطر الذي تواجهه الأمة، وبالتالي تأخيره في ترتيب الأولويات الموضوعة، ومن ذلك، تطبيع وضعه كـ”دولة” في المنطقة، واعتبار الحقوق الفلسطينية بمثابة نزاع مع “بلد” آخر، وصراع حدود، بينما القضية؛ قضية وجود، و”نزاع ملكية” محسوم بحقائق التاريخ والديموجرافيا لصالح أصحاب الأرض الأصليين.
بل وصل الحال إلى اعتبار بعض الحكومات والأنظمة في منطقتنا العربية والعالم الإسلامي، للكيان الصهيوني، أنه حليف استراتيجي في مواجه خصوم هذه الحكومات والأنظمة، كما هو الحال في الجدل الحالي حول إيران أم الكيان الصهيوني في أروقة الكثير من وزارات الخارجية والمنظمات الإقليمية والدولية.
في هذا الإطار، شهدت الساحة الفلسطينية في الفترة الأخيرة ارتباكات عديدة، بفعل تداخل العديد من الاستحقاقات والملفات، مثل المصالحة، مع المسار الأساسي للقضية، وهو السعي بكل السُّبُل لاستعادة الحقوق الفلسطينية، والإبقاء على القضية حية في نفوس الأجيال الجديدة.
وفي حقيقة الأمر؛ فإن هذه القضايا جميعها يجب أن يتم التحرك في سياقها بشكل دقيق للغاية يراعي موازنات دقيقة بدورها، بحيث يتم تحقيق المصالح وفق ترتيب الأولويات ومتطلبات الهدف الأهم، وهو حقوق ومصالح الشعب الفلسطيني.
ومنذ فترة؛ حاولت الكثير من الأطراف الفلسطينية والعربية الرسمية، حرف المقاومة، وخصوصًا حركة المقاومة الإسلامية “#حماس“، عن رمزيتها السياسية ووضعها كذلك القانوني باعتبار أنها صاحبة الأغلبية في المجلس التشريعي، وشكَّلت آخر حكومة شرعية عادية – ما تلا الحكومة العاشرة التي ترأسها السيد إسماعيل هنية؛ كانت كلها حكومات “وضع قائم” أو ذات وضع استثنائي بالمعنى القانوني والسياسي – من أجل التأثير على الموقف السياسي لفصائل المقاومة، وتجميد الأمور في هذا الجانب؛ جانب المقاومة.
في هذا السياق؛ يبدو من الكثير من التطورات الأخيرة؛ أن هناك عددًا من الأمور التي أعيد النظر فيها بعد دراستها ودراسة كافة التطورات، من جانب القيادة الجديدة للحركة، والتي تم انتخابها على مختلف المستويات القاعدية لـ”حماس”، والخروج بتوصيات قوية، لإعادة الكثير من الأمور التي اختلت بفعل الفوضى والسيولة التي ضربت السياسة الفلسطينية والعربية، إلى نصابها.
ويمكن أن نجد علامات ذلك في العديد من الأمور، من بينها موضوع “مسيرات #العودة الكبرى”.
فهذا النشاط على أكبر قدر من الأهمية، فهو من ناحية، يعيد إحياء قضية #اللاجئين، والتي سعت الكثير من القوى إلى طمسها، تحقيقًا لهدف صهيوني مهم، وهو إنهاء أحد أهم أعمدة القضية الفلسطينية؛ حيث هي في الأصل، قضية شعب وأرض.
تعتبر مسيرات العودة على قدر كبير من الأهمية من حيث إحياء قضية اللاجئين، والتي سعت الكثير من القوى إلى طمسها، تحقيقًا لهدف صهيوني مهم، وهو إنهاء أحد أهم أعمدة القضية الفلسطينية؛ حيث هي في الأصل، قضية شعب وأرض
وخلال السنوات الماضية، ظهرت الكثير من الخطط التي أرادت إنهاء قضية اللاجئين وإيجاد علاج لها على حساب الحقوق الفلسطينية ، مثل مشروع التوطين في الأردن، أو في شمال سيناء.
ومنذ “خطة آلون” في العام 1968م، وحتى “صفقة القرن” التي أعلن عنها الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، وخلال خمسة عقود كاملة، كانت قضية إهالة الرمال على حق اللاجئين في العودة، وخصوصًا إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948م، من أهم بنود عمل المشروع الصهيوني والحكومات الداعمة له.
من جهة أخرى، جددت مسيرات العودة الحس الوطني غير الفصائلي عند أبناء الشعب الفلسطيني، وهي بالتالي، تعتبر الحلقة الأحدث في منظومة عمل المقاومة، بحيث ما إن تهدأ وتنتهي حلقة، حتى تبدأ حلقة جديدة، تحافظ على حياة القضية وألقها في نفوس الأجيال الجديدة الصاعدة، لتفادي تغطيتها بغبار التطبيع والتزييف التاريخي والسياسي الحاصل!
ومنذ أكتوبر 2015م، كان من الواضح، من خلال دعم “حماس” لأنشطة ذات طابع شعبي غير مسيَّس وغير فصائلي، مثل “هبة القدس” ومعركة البوابات الإلكترونية في يوليو 2017م، وصولاً إلى “مسيرات العودة الكبرى”، أن هناك إستراتيجية جديدة للمقاومة، وهي المقاومة الشعبية.
منذ أكتوبر 2015م، كان من الواضح، من خلال دعم “حماس” لأنشطة ذات طابع شعبي غير مسيَّس وغير فصائلي، مثل “هبة القدس” ومعركة البوابات الإلكترونية في يوليو 2017م، وصولاً إلى “مسيرات العودة الكبرى”، أن هناك إستراتيجية جديدة للمقاومة، وهي المقاومة الشعبية
والمقاومة الشعبية ربما هي من أهم الأفكار المبدعة التي تم التوصل إليها خلال العقود الأخيرة التي تلت عملية “أوسلو”، وإعلان منظمة التحرير الفلسطينية رسميًّا عن تخليها عن خيار المقاومة المسلحة، وهو ما ساند ذرائع صهيونية وغربية تعتبر المقاومة المسلحة بمثابة “إرهاب”، خلافًا لما يعتبره القانون الدولي.
فتنشيط المقاومة الشعبية، إنما ساعد على سد الكثير من الذرائع التي كانت يتعلل بها الكيان الصهيوني لقتل الفلسطينيين وتدمير قطاع غزة في حروب متتالية لم تنَل من عزيمة الفلسطينيين هناك.
تنشيط المقاومة الشعبية، ساعد على سد الكثير من الذرائع التي كانت يتعلل بها الكيان الصهيوني لقتل الفلسطينيين وتدمير قطاع غزة في حروب متتالية لم تنَل من عزيمة الفلسطينيين هناك
وهو ما يمكن ملاحظته في تغطيات وسائل إعلام كانت حليفة تقليدية للكيان الصهيوني، ومتعاطفة مع قضيته بشكل كبير؛ حيث إن سقوط أربعين شهيدًا من المتظاهرين السلميين على حدود غزة مع فلسطين المحتلة عام 1948م، برصاص جيش الاحتلال وقذائفه، نزع عن الكيان الصهيوني وخطابه الإعلامي أية مصداقية أو ادعاءات أمام العالم بأخلاقية سلوكه، وهي نقطة مهمة، وتطور كبير في الموقف.
وبجانب “مسيرات العودة الكبرى”؛ فإننا نقف أمام الكثير من الأمور التي تبنتها الحركة في الأشهر الأخيرة تبدو منها استراتيجية جديدة فعلاً صوَّبت من البوصلة؛ حيث أبدت الحركة كل مرونة في مسألة المصالحة مع حركة “فتح”، وعملت على سد كل الذرائع، بما في ذلك حل اللجنة الإدارية العليا التي تم تشكيلها لإدارة قطاع غزة، وتسليم كافة المرافق الحكومية لحكومة رامي الحمد الله، التابعة لسلطة رام الله، مع الانفتاح الكامل على الحوار الذي تديره مصر في هذا الإطار.
موقف “حماس” جاء من الباعث المركزي المتقدِّم؛ أن الكيان الصهيوني هو البوصلة، والمقاومة هي الأداة؛ حيث إن الانقسام سمح للكثيرين بالتشويش على الأمور المهمة في القضية الفلسطينية، واستغلال حالة الانقسام لتمرير مشروعات تمس الحق الفلسطيني .
ويبدو حتى ذلك واضحًا في بيان “حماس” الأخير من الضربة الثلاثية الأنجلو أمريكية الفرنسية على سوريا؛ حيث حرص البيان على التأكيد على أن الكيان الصهيوني هو عدو الأمة، وأن الغرب لن يقوم في منطقتنا بأي شيء إلا وللصهاينة مصلحة بل ودور فيه .
على هذا النسق، يمكن فهم الكثير من القرارات والسياسات التي تبنتها حركة “حماس” في المرحلة الماضية، ومن خلال قواعد التحليل السياسي السليم؛ يمكن توقُّع المزيد من هذه المواقف الكاشفة التي تحرك المياه الراكدة، وتعيد تمتين ما مال واهتز من ثوابت!
(المصدر: موقع بصائر)