حماس في الميزان الحساس
بقلم د. محمد الصغير
حركة المقاومة الإسلامية (حماس) نموذج ناجح وسط ركام كبير من إخفاقات الحركة الإسلامية، بل تحولت إلى تجربة رائدة لعدة أسباب منها وضوح الرؤية، والعمل المؤسسي القائم على الشورى الملزمة، وجهادها ضد محتل غاصب اتفقت الشرائع السماوية والقوانين الوضعية على مقاومته، وارتباط ذلك كله بأحد أهم مقدسات المسلمين، ثاني المسجدين وقبلة المؤمنين الأولى، ومسرى رسول اللهﷺ، ومن هنا أصبحت حركة حماس ممثلة للأمة وربما الممثل الوحيد الذي أنيط به الدفاع عن حقوقها وما سلب من أرضها ومقدساتها.
وقد ظهر هذا جليا في حرب سيف القدس الأخيرة التي جاءت في وقت علا فيه صوت التطبيع وزاد مستوى الانتكاس والارتكاس، وتبجّح نتنياهو بما أحرز من نجاحات مع الأنظمة المطبعة، واعتبر أن العقبة تكمن في الشعوب، وبالفعل كانت ردة كل الشعوب الإسلامية قوية وعلى مستوى الحدث، وأثبتت للجميع أن الأنظمة التي باتت تحت لحاف إسرائيل لا تمثل إلا نفسها، بل واستطاعت أن تكشف عنهم الغطاء، وتثبت أنهم وقعوا في الخطيئة وأصابتهم جنابة سياسية لا يطهرها موج البحر ولا ماء النهر.
ومع اتساع أيّ حركة وتمدد أيّ تنظيم لا سيّما بعد مراحل النجاح، تظهر بداخله قطاعات متنوعة ومشارب مختلفة، وأصحاب وجهات نظر متعددة، ولا شك أن هذا من عوامل الإثراء والتميز شريطة ألا يخالف الثوابت أو ينحرف بالبوصلة.
ثم ظهرت تصريحات فيها تلميحات إيجابية عن جزار العصر وسفاح الشام
ولا تخرج خيارات حماس وتصريحات رموزها عن إطار الاجتهاد البشري الذي فيه الصواب والخطأ، ولا ينال من حب المقاومة ووجوب دعمها التنبيه على خطأ، أو بذل النصح في مسألة أو الأمر بالمعروف في قضية، بل هذا من واجبات الأخوة ومستتبعات المحبة، أما منهج التسويغ والتبرير فانتقال من الحب إلى الهوى الذي يُعمي ويصم.
ولعل أكثر ما يثير الجدل حول حركة حماس هو طبيعة علاقتها مع إيران، وزادت حساسية الأمر بعد جرائم إيران تجاه شعوب عربية وسيطرتها على عواصم عدة، وإفراط بعض قادة حماس في الثناء على إيران ورموزها، لا سيّما بعد المدح المبالغ فيه لقاسم سليماني الذي مات وفي ملابسه رائحة دماء المسلمين وعلى يديه آثار منها!
ثم ظهرت تصريحات فيها تلميحات إيجابية عن جزار العصر وسفاح الشام، ثم زاد الطين بلة والمرارة علقما ثناء أحدهم على الحوثي ومن معه من الخوارج المتمردين، الذين أوغلوا في الدم اليمني وتحولوا إلى مخلب من مخالب إيران، وخرجوا من مظلة العروبة إلى ولاية الفقيه.
ومن عدل الله عز وجل أن خلق الميزان بكفتين، وجعل النظر من خلال عينين، وفقه الميزان يقتضي أن ننظر إلى الأمر من كل جوانبه وزواياه، فنحن لا ننكر أن إكراهات السياسة، وسياسة الحرب تجعل المقاوم يكرر قول أبي الطيب المتنبي:
ومن نَكَدِ الدّنْيا على الحُرّ أنْ يَرَى..
عَدُوًّا لَهُ ما من صَداقَتِهِ بُدُّ!
ومعلوم أن الأنظمة العربية بين محايد أو منحاز إلى صف المحتل -إلا من رحم ربي- وما يحدث لقيادات حماس من تضييق واعتقالات في بعض البلاد العربية يندى لها الجبين، في الوقت الذي تقدم فيه إيران للمقاومة وسائل الدعم المادي والمعنوي!
وأنا على يقين أن حركة حماس لو وجدت من أشقائها الدعم ما توجهت إلى أصحاب العمائم السود، وأنها تتعامل معاملة المضطر الذي أباح له الشرع أكل الميتة عند الاضطرار، ومن أراد أن يختبر صدق كلامي فليوفر لهم دعما ويدعوهم للمفاضلة والاختيار.
وبما أن حركة حماس تسعى لتحرير مقدسات أمة، وليست حركة تحرر وطني في حدود جغرافية معينة، فكما يجب على الأمة المعاونة والمؤازرة
وفي المقابل، فإن من ينصحون حماس ويُذكرون قادتها بخطورة المشروع الفارسي الذي تتبناه إيران، وخطتها للتوسع على حساب أراضي المسلمين دون غيرهم، يفعلون ذلك حبا وخوفا، وهو واجب الأمة في المعاونة والمراقبة والتقويم، كما قال خليفة المسلمين “إن رأيتم خيرا فأعينوني وإن رأيتم غير ذلك فقوموني”، وإن كان الشارع أباح أكل الميتة للمضطر، فلم يبح له التوسع في أكلها أو مدحها واستطابتها، وقد خرجت تصريحات بعض قادة حماس بشأن إيران عن حدود الإباحة إلى المدح بل والإفراط فيه أحيانا!
وبما أن حركة حماس تسعى لتحرير مقدسات أمة، وليست حركة تحرر وطني في حدود جغرافية معينة، فكما يجب على الأمة المعاونة والمؤازرة، عليها أيضا التقويم والمراقبة، وعلى قدر التشريف يكون التكليف ولو كان الأمر شأنا فلسطينيا خالصا أو حراكا شعبيا محليا لتعاملنا مع حماس كما نتعامل مع قضايا المسلمين في البلاد الأخرى.
كما أنني على يقين أن ما نقوله وننادي به هو رأي السواد الأعظم من رموز حماس ورجالاتها، لذا لا نريد لبقع السواد أن تقع على ثوب كفاحها الناصع، وأن بركة الشورى ومتانة التنظيم كفيلان بضبط البوصلة والرجوع عن أيّ انحراف، وسنبقى في هذه الشراكة شراكة المعاونة والمؤازرة والنصح والتقويم، لا نقيل ولا نستقيل حتى يأتي أمر الله.
(المصدر: الجزيرة مباشر)