حكم كسر الحجر الصحي وتعمد مخالطة الناس في الأماكن التي منعتها الدولة
بقلم الشيخ ونيس المبروك
بسم الله الرحمن الرحيم
يتساءل بعض الناس عن حكم الخروج بعد الحظر الذي تسبب فيه انتشار الوباء ، وبخاصة بعد قرار الدولة والخبراء بمنع ذلك، وما أراه بعد ما ثبت وجود هذا الفيروس الخبيث، الذي يحمل خصائصاً، أعجزت أعظم الدول عن تطويقه وإيجاد أي علاج له حتى الآن، وبعد أن حصد مئات الألوف من البشر ،وعمّ وانتشر، دون أن يشعر حامله بأعراضه ، … ما أراه بعد قرار الجهات المختصة بحظر التجول، فإن من يخرج من بيته، لغير ضرورة لا يمكن دفعها إلا بالخروج، أو لحاجة تنزل منزلة الضرورة؛ فهو آثم شرعاً، ومُجْرِمٌ في حق نفسه، وفي حق الآخرين من الرجال والنساء والأطفال، وذلك للأدلة والمقاصد التالية :
1- قال تعالى: “… وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا” [النساء-29] ، وقال تعالى: “… ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ” .وقد يظن بعض طلبة العلم، أن التهلكةَ التي وردت في الآية، مقصورةٌ على التخلي عن النفقة في سبيل الله – وهو قول بعض السلف – إلا أن العبرةَ بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، والقرآن الكريم أوسع، وأخصب تعبيرا، من أن يَحُدَ معانيه بش، ولهذا جاء في تفسير الطبري وابن كثير عن البراء بن عازب، في تفسير هذه الآية قال: ” هو الرجل يصيب الذنوب فيلقي بيده إلى التهلك[1]، . وقال الإمام الطاهر بن عاشور رحمه الله : “عقب الأمر بالإنفاق في سبيل الله، بالنهي عن الأعمال التي لها عواقب ضارة، إبلاغا للنصيحة والإرشاد، لئلا يدفع بهم يقينهم بتأييد الله إياهم، إلى التفريط في وسائل الحذر من غلبة العدو، فالنهي عن الإلقاء بالنفوس إلى التهلكة، يجمع معنى الأمر بالإنفاق وغيره من تصاريف الحرب، وحفظ النفوس” [2] وعليه فإن من يتهاون في حفظ نفسه، وحفظ الأبرياء من حوله، فقد دخل في وعيد هذه الآيات، ولحقه الإثم للمخالفة بعد العلم.
2- جاءت السنة الصحيحة الصريحة بالنهي عن الضرر بالنفس، أوالإضرار بالآخرين، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: “لا ضرر ولا ضرار، من أضر، أضر الله به، ومن شاق، شاق الله عليه” [3] . والضرر هوأن تلحق العطبَ بجسدك، أو عقلك، أو روحك،.. والضِرار هو أن تلحق ذلك بالآخرين، والله أعلم .
3- ثبت باستقراء نصوص الكتاب والسنة، أن النفسَِ الإنسانية، من أعظم المقاصد التي جاءت الشريعة لحفظها، وشُرعت كثيرٌ من الأحكام لهذه الغاية الجليلة، وأن حفظَ النفسِ، مقدمٌ على حفظ العقل، والمال، والعرض ، بل أن حفظها بالكلية، مُقدمٌ على بعض أحكام الدين، ولهذا شرّع اللُه تعالى ترك الجمعة والجماعات، إن كان ذلك يتسبب في ضرر على النفس، وشرّع تركَ الحجِ، لمن خاف على نفسه من العدوان في الطريق، وأباحَ تناولَ المحرمات، إن كان ذلك للحفاظ على النفس ، …. ونفسُ الإنسان ليست ملكا له! بل هي عارية مسترجعة ( وديعة )، ويحرم عليه شرعاً، أن يُلحقَ بها التلفَ الجزئي، أو الكلي ، أو يُلحقَه بالآخرين عمدا.
4- أن من يتهاون في هذا الأمر، أويتخذه هزوا ولعبا، يُخشى عليه أن يكون متسبباً في قتل غيره ولو بعد حين، ويشمله وعيدُ فيمن أفتى وأرشد بغير علم، فقد روى أبو داوود في سننه عن ابن عباس رضي الله عنه قال: “أصاب رجلا جرح في عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ثم احتلم، فأمر بالاغتسال، فاغتسل، فمات، فبلغ ذلك رسول الله- صلى الله عليه وسلم – فقال: “قتلوه قتلهم الله، ألم يكن شفاء العي السؤال”[4] . فلم يدعِ النبي صلى الله عليه وسلم لهم رخصةً في عبادة، فكيف لو كانت عادة ؟! قال الإمام على القاري “(قتلهم الله) : أي: لعنهم، إنما قاله زجرا وتهديدا،..عابهم عليه الصلاة والسلام بالإفتاء بغير علم، وألحق بهم الوعيد بأن دعا عليهم لكونهم مقصرين في التأمل في النص” [5]. قال الإمام الخطابي : في هذا الحديث من العلم أنه عابهم بالفتوى بغير علم وألحق بهم الوعيد بأن دعا عليهم وجعلهم في الإثم؛ قتلة له” [6]
5- – أن من يرشدُ الناسَ ويفتيهم، أويستهين بهذه التوجيهات، ويشجع الناسَ على التساهل والتزاحم، يقعُ تحتَ طائلةِ المؤاخذة الشرعية، والاجتماعية ، والقانونية، لأنه تكلّمَ في غير فَنِه، وغرَّرَ بالناس دون اعتبار للعواقب، وتجاوزَ أوامر الجهات المختصة، ويشهد لهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم “من تَطَبَبَ ولم يُعلم منه طبٌ فهو ضامن “[7] ، أي أنه يضمن و يغرم بما تسببه من ضررعلى نفوس الآخرين وأرواحهم، وهذا أصلٌ يقاس عليه، كل من ادعى هندسةً، أو طباً، أوإفتاءً بغير علم، ثم تسبب في إلحاق الضرر بالآخرين . قال الإمام المناوي رحمه الله ،عند شرحه لهذا الحديث : “أي من تعاطى الطبَ، ولم يسبق له تجربة (فهو ضامن) لمن طبَّه بالدية إن مات بسببه، لتهوره بالإقدام على ما يقتل بغير معرفة” [8] ، وقال الإمام الصنعاني رحمه الله “الحديث دليل على تضمين المتطبب ما أتلفه من نفس فما دونها، سواء أصاب بالسراية أو بالمباشرة وسواء كان عمدا، أو خطأ، وقد ادعى على هذا الإجماع.”[9] وقال ابن رشد :” ولا خلاف أنه إذا لم يكن من أهل الطب أنه يضمن؛ لأنه متعد. وقد ورد في ذلك مع الإجماع حديث عمرو بن شعيب وفي بداية المجتهد: إذا أعنت- أي المتطبب- كان عليه الضرب والسجن والدية في ماله.” [10]
وختاماً :أوصيكم بالتعاون والتراحم ، فالراحمون يرحمهم الله تعالى، ونحن أفقر ما نكون لرحمته سبحانه، وأوصيكم بتجديد الصلة بالله تعالى فإن ( أحد ) أسباب نزول البلاء هي الذنوب؛ كعقوق الوالدين، وأكل الحرام ،وقطع الأرحام، ونهب إرث النساء، وسرقة المال العام، وغير ذلك من الجرائم والمحرمات .
كما أوصيكم بحسن التوكل على الله سبحانه بعد الأخذ بكل أسباب الوقاية، لأن الوقاية هي من ( قدر الله ) لما رواه الترمذي في السنن من حديث أبي خُزَامة، عن أبيه أنه قال: قلت يا رسول الله، أرأيت رُقى نسترقي بها ودواءً نتداوى به، وتُقى نتَّقِيها، هل ترد من قدر الله شيئاً؟ قال: ” هي من قدر الله ”
نسأل الله أن يقدر لنا الخير، وأن ييسر لنا كل عسير، وأن يدبر لنا فإننا لا نحسن التدبير .
والله أعلم ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم .
ونيس المبروك الفسي
4 شعبان ، 1441هـ، الموافق 2020/3/28
————-
[1]- الطبري 3/319 ابن كثير 529/1
[2] – التحرير والتوير ، ابن عاشور، 213/2
[3] الاستذكار ابن عبد البر ،19/7 ورواه مالك في الموطأ مرسلا بلفظ ” لا
ضرر ولا ضرار ” وأحمد في مسنده بلفظ ” وقضى أن لا ضرر ولا ضرار ”
[4] سنن أبو داوود ، باب المجدور يتيمم ،253/1 ، قال الحاكم: صحيح، ووافقه
الذهبي .،وصححه من المعاصرين الشيخ الألباني رحمه الله .
[5] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح ، على أبو الحسن القاري ، 484/2
[6] – شرح سنن ابي داوود د ، شهاب الدين الرملي الشافعي ، 367/1
[7]. رواه أبو داود ، والنسائي.
[8] التيسير بشرح الجامع الصغير، زين الدين المناوي ،410/2
[9] – سبل السلام ، محمد بن إسماعيل الصنعاني ( ابن الأمير ) ،363/2
[10]- بداية المجتهد ونهاية المقتصد ، ابن رشد ،200/4.
(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)