حكم صيام العشر من ذي الحجة
أ. د. كامل صبحي صلاح “أستاذ الفقه وأصوله” (خاص بالمنتدى)
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمّا بعد:
فإنّه لمن المقرر المعلوم أن الأعمال الصالحة تتفاضل زماناً ومكاناً، وإن من هذه الأزمنة التي تفضل فيها الأعمال العشر من شهر ذي الحجة، فالعمل الصالح فيها يفضل بشتى أنواعه وصوره، لحديث عبدالله بن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنّ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال:«ما مِن أيّامٍ العَمَلُ الصّالِحُ فيها أحَبُّ إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ مِن هذه الأيّامِ -يَعني أيّامَ العَشرِ-. قال: قالوا: يا رَسولَ اللهِ، ولا الجِهادُ في سَبيلِ اللهِ؟ قال: ولا الجِهادُ في سَبيلِ اللهِ، إلّا رَجُلًا خرَجَ بِنَفْسِهِ ومالِهِ، ثم لم يَرجِعْ مِن ذلك بِشَيءٍ» «أخرجه أحمد في مسنده (١٩٦٨)، وإسناده صحيح على شرط الشيخين شعيب الأرناؤوط، وأخرجه أبو داود (٢٤٣٨)، والترمذي (٧٥٧)، وابن ماجه (١٧٢٧)، وأحمد (١٩٦٨) واللفظ له».
ويدلّ هذا الحديث الصحيح على فضل الأعمال الصالحة في العشر الأول من شهر ذي الحجة، لما فيها من مضاعفة لأجر العمل الصالح ما لا يتضاعف في غيرها من أيّام السنة.
وإنّ من جملة هذه الأعمال الصالحة المتنوعة والمختلفة الصيام، فالحديث من حيث المعنى والفهم الشامل له أطلق الأعمال الصالحة ولم يقيدها بعمل صالح معين ومقيد، ولا يُقيّد منها إلا ماورد وصح تقييده، وإلا يبقى على إطلاقه، والأعمال الصالحة الواردة تشمل الذكر والتسبيح والاستغفار وقراءة القرآن، والصدقة وصلة الرحم والصيام، وغيرها من أنواع القربات والطاعات، ولعل من أسباب فضل العمل في العشر على غيرها من الأوقات هو إجتماع أمهات العبادات فيها، كما ذكر الحافظ ابن حجر: «والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتّى ذلك في غيره» [فتح الباري، لابن حجر العسقلاني، (3/390)].
وبناءً على تقدم ذكره، فإنّه يُستحبّ صيام (الأيام التسع الأول من شهر ذي الحجة)، وهو محلّ إتفاق لدى الأئمة الأربعة، الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة، كما هو مقرر وثابت في كتب الفقهاء، حيث قالوا: «ويُستحَبُّ صَومُ الأيَّامِ الثَّمانِيَةِ الأُوَلِ مِن شهرِ ذي الحِجَّة، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّة، والمالكيَّة، والشَّافِعيَّة، والحَنابِلة، وهو قول الظَّاهرية». «الفتاوى الهندية (1/201)، وحاشية الدسوقي،(1/515،516)، والمجموع، للنووي (6/386)، وكشاف القناع، للبهوتي (2/338)، والمحلى، لابن حزم (7/19)».
واستدلّوا على ذلك بحديث عبدالله بن عباس رضي الله تعالى عنهما سالف الذكر.
ولقد أفتى ثلّة من العلماء المعاصرين بجواز واستحباب صيام الأيام التسع الأول من شهر ذي الحجة، وقرروا أنّ صيامها من جملة العمل الصالح الوارد في الحديث، ومنهم فضيلة العلامة ابن باز، وفضيلة العلامة ابن عثيمين رحمهم الله تعالى، وغيرهم من العلماء المعاصرين.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:«ولنسأل، هل الصيام من الأعمال الصالحة؟الجواب: نعم بلا شك، ولهذا جعله الله تعالى من أركان الإسلام، فالصيام بلا شك من الأعمال الصالحة حتى قال الله تعالى في الحديث القدسي: «الصوم لي وأنا أجزي به». وإذا كان كذلك فإنّ الصوم مشروع، ومن زعم أنّ العشر لا تُصام فليأت بدليل على إخراج الصوم من هذا العموم: «ما من أيامٍ العمل الصالح فيهنّ أحبّ إلى الله من هذه الأيام العشر ….وإذا ثبت أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يصمها فهذه قضية عين، ربما كان لا يصوم؛ لأنّه يشتغل بما هو أنفع وأهم، لكن عندنا لفظ الرسول عليه الصلاة والسلام: «ما من أيامٍ العمل الصالح فيهن أحبّ إلى الله من هذه الأيام العشر» على أنه قد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنّه كان لا يدع صيامها، وقدَّم الإمام أحمد هذا -أعني: أنّه لا يدع صيامها- على رواية النفي، وقال: إنّ المثبت مقدّم على النافي، لكن على فرض أنه ليس هناك ما يدلّ على أنه يصوم فإنه داخلٌ في عموم: «ما من أيام العمل الصالح فيهنّ أحبّ إلى الله من هذه الأيام العشر».
«اللقاء الشهري، لابن عثيمين،(34)»
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى:«ولكنّ عدم صومه ﷺ العشر لا يدل على عدم أفضلية صيامها؛ لأنّ النبي ﷺ قد تعرض له أمور تشغله عن الصوم. وقد دلَّ على فضل العمل الصالح في أيام العشر حديث ابن عباس المخرّج في صحيح البخاري، وصومها من العمل الصالح، فيتّضح من ذلك استحباب صومها في حديث ابن عباس، وما جاء في معناه». «مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز (15/417)».
وأما الاستدلال بما رواه مسلم بإسناده عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَائِمًا فِي الْعَشْرِ قَطُّ)، فقد أجاب عنه أهل العلم، كما ذكر الإمام النووي رحمه الله تعالى: “قول عائشة: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما في العشر قط)، وفي رواية لم يصم العشر، قال العلماء: هذا الحديث مما يوهم كراهة صوم العشر، والمراد بالعشر هنا الأيام التسعة من أول ذي الحجة، قالوا: وهذا مما يتأول فليس في صوم هذه التسعة كراهة، بل هي مستحبّة استحباباً شديداً، لاسيّما التاسع منها وهو يوم عرفة، وقد سبقت الأحاديث في فضله…، فيتأول قولها لم يصم العشر أنّه لم يصمه لعارض مرض أو سفر أو غيرهما، أو أنّها لم تره صائماً فيه، ولا يلزم من ذلك عدم صيامه في نفس الأمر، ويدلّ على هذا التأويل حديث هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر الاثنين من الشهر والخميس. ورواه أبو داود وهذا لفظه وأحمد والنسائي”[شرح النووي على مسلم 8/ 71].
وقد يترك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم صيام العشر الأول من شهر ذي الحجة لعارض يعرض له من سفر أو مرض أو غيرهما من الأعذار.
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى:
«وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ قَالَتْ: “مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَائِمًا فِي الْعَشْرِ قَطُّ “، وَفِي رِوَايَةٍ “لَمْ يَصُمْ الْعَشْرَ ” رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، فَقَالَ الْعُلَمَاءُ: وَهُوَ مُتَأَوِّلٌ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَرَهُ، وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ تَرْكُهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَكُونُ عِنْدَهَا فِي يَوْمٍ مِنْ تِسْعَةِ أَيَّامٍ، وَالْبَاقِي عِنْدَ بَاقِي أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنهن، أَوْ لَعَلَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصُومُ بَعْضَهُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَكُلَّهُ فِي بَعْضِهَا، وَيَتْرُكُهُ فِي بَعْضِهَا لِعَارِضِ سَفَرٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ». «المجموع، للنووي، (6/441)».
وقال الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى:«تَقَدَّمَت أَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى فَضِيلَةِ الْعَمَلِ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ عَلَى الْعُمُومِ، وَالصَّوْمُ مُنْدَرِجٌ تَحْتِهَا. وَأَمَّا مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَائِمًا فِي الْعَشْرِ قَطُّ ” فَقَالَ الْعُلَمَاءُ: الْمُرَادُ أَنَّهُ لَمْ يَصُمْهَا لِعَارِضِ مَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، أَوْ أَنَّ عَدَمَ رُؤْيَتِهَا لَهُ صَائِمًا لَا يَسْتَلْزِمُ الْعَدَمَ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ مِنْ قَوْلِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ صَوْمِهَا كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ فَلَا يَقْدَحُ فِي ذَلِكَ عَدَمُ الْفِعْلُ» «نيل الأوطار، للشوكاني، (4/283)».
وربما يترك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم العمل وهو يحبّ أن يعمله؛ خشية أن يُفرض على أمته.
قال الإمام ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى:«لاحتمال أن يكون ذلك، لكونه كان يترك العمل وهو يحبّ أن يعمله؛ خشية أن يفرض على أمته”.
[فتح الباري، لابن حجر العسقلاني، (2/460)].
مختصر المسألة:«يُشرع ويُستحبّ صيام الأيام التسع الأول من شهر ذي الحجة، لكونها من جملة الأعمال الصالحة الواردة في حديث:«ما مِن أيّامٍ العَمَلُ الصّالِحُ فيها أحَبُّ إلى اللهِ عَزَّ وجَلَّ مِن هذه الأيّامِ -يَعني أيّامَ العَشرِ…» وهي من الأزمنة التي تفضل فيها الأعمال بشتى أنواعها وصورها، والله تعالى أعلى وأعلم».
هذا ما تيسر ايراده، نسأل الله جل وعلا أن ينفع به، وأن يجعله من العلم النافع والعمل الصالح، والحمد لله ربّ العالمين.