اختلف الفقهاء في صحة خطبة الجمعة بغير العربية على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنها لا تصح بغير العربية لغير الحاجة، وتصح للحاجة.
وهو مذهب الحنابلة, وقول صاحبي أبي حنيفة, وقولٌ عند الشافعية[1].
القول الثاني: أنه تشترط الخطبة بالعربية, ولا تصح بغيرها.
وهو مذهب المالكية، والشافعية, ورواية عند الحنابلة[2].
القول الثالث: أنه يستحب الخطبة بالعربية, وتصح بغيرها.
وهو المعتمد عند الحنفية، وقول عند الشافعية[3].
مما استدل به أصحاب القول الأول[4]:
1- أن الخطبة لا تكون إلا بالعربية لمن يفهمها ويعرفها ويحصّل الفائدة المرجوة منها, فإذا تعذر الفهم وعُدِمت فائدة السماع لغير العربي جاز أن تكون بلسانه الذي يعرفه لا بالعربية.
2- أن الخطبة بالعربية ليست مقصودة لذاتها, بل هي مقصودة لما فيها من تعليم وتوجيه وإرشاد للمستمعين لها, فلا يشترط كونها بالعربية.
ومما استدل به أصحاب القول الثاني:
1- حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: أتينا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شَبَبَة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين يوما وليلة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما رفيقا، فلمّا ظنّ أنّا قد اشتهينا أهلنا -أو قد اشتقنا- سألَنا عمّن تركنا بعدنا، فأخبرناه، قال: “ارجعوا إلى أهليكم، فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم -وذكر أشياء أحفظها أو لا أحفظها- وصلوا كما رأيتموني أصلي، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم”[5].
ووجه الدلالة منه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن تكون صلاة المسلم كصلاته صلى الله عليه وسلم، وخطبة الجمعة جزء من الصلاة التي ينبغي أن يقتدي المسلم فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو صلى الله عليه وسلم لم يكن يخطب إلا بالعربية, فوجب الاقتداء به.
ونوقش: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يخطب بالعربية لأنه عربي ويخطب بقوم عرب, فلا حاجة للخطبة بغيرها، وهذا محل اتفاق عند عدم الحاجة للخطبة بغيرها، وأما إذا وجدت الحاجة للخطبة بغير العربية كأن يكون الذين تلقى عليهم الخطبة غير عرب ولا يفهمون العربية فإنه يصح أن يُخطب بهم بلغتهم ليحصل لهم المقصود من الخطبة.
2- أنه لم ينقل عن السلف الخطبة بغير العربية[6].
ونوقش: أن السلف إنما كانوا يخطبون بالعربية لأنهم كانوا يخطبون بأناس يعرفون العربية، وهذا مما لا شك فيه أنه ينبغي الخطبة في مثل هذه الحالة باللغة العربية لعدم الحاجة للخطبة بغيرها.
3- أن الخطبة ذِكْرٌ مفروض فيُشترَط فيها أن تكون باللغة العربية كتكبيرة الإحرام والتشهد ونحوها[7].
ونوقش: أنه يلزم من هذا القول إيجاب تعلم العربية على جميع المسلمين, وفي هذا مشقة كبيرة, ولا يستقيم هذا أيضا مع قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَآفَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة:122], ولا مانع يمنع من أن تكون بعض الأذكار بغير العربية عند الحاجة لذلك, ومنها الخطبة.
ومما استدل به أصحاب القول الثالث:
أن المقصود من الخطبة الوعظ وهو حاصلٌ بكلّ اللغات, فتصحّ الخطبة بأيّ لغة كانت[8].
ونوقش: أن الأصل في الخطبة أن تكون باللغة العربية إذا كان المستمعون يفهمونها ويعرفونها ولا تصح بغيرها؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده، وأما إن كان المستمعون لا يفهمون ولا يعرفون العربية فإنه لا بأس من الخطبة بغيرها للحاجة لذلك.
الترجيح:
بعد النظر في الأقوال الواردة في المسألة يتبين أن الراجح من الأقوال هو القول الأول؛ لقوة أدلته وسلامتها من المناقشة, وقد أفتت بهذا القول اللجنة الدائمة بالسعودية[9].
فالأصل في الخطبة أن تكون بالعربية ولا تصح بغيرها عند عدم الحاجة لذلك، وتصح بغيرها عند الحاجة لذلك بشرط قراءة الآيات باللغة العربية ثم ترجمة معانيها بلغة الخطبة.
ولأن المقصود من الخطبة الوعظ والإرشاد, فإن هذا المقصود قد يفوت إن كانت الخطبة بلغة لا يفهمها من ألقيت عليهم, بخلاف ما إذا كانت بلغة يفهمونها.
ثم إن كثيرا من المسلمين في العصر الحاضر لا يعرفون العربية, وفي إلزامهم بتعلم العربية مشقة كبيرة عليهم قد لا يقدرون عليها, وقد تكون سببا في صدّهم وإعراضهم عن الإسلام, كما أنه لا يلزم من الإسلام أن يكون الإنسان متقنا للغة العربية، فلا يعقل بعد هذا أن يمنع إلقاء الخطبة بغير العربية وتفويت فوائدها المرجوة منها بسبب أمر ليس في مقدور المسلم العجمي تعلمه وتحصيله.
———————————————
المراجع
[1] ينظر: البناية 2/206، نهاية المحتاج 2/317، الإنصاف 5/219.
[2] ينظر: الشرح الكبير 1/378، روضة الطالبين 2/26، شرح منتهى الإرادات 1/298.
[3] ينظر: شرح العناية 1/249, روضة الطالبين 2/26، الإنصاف 5/219.
[4] ينظر في ذلك: البناية 2/206، نهاية المحتاج 2/317، حاشية الروض المربع 2/450.
[5] رواه البخاري 1/128, رقم 631. ورواه مسلم 1/465, رقم 674. واللفظ للبخاري.
[6] ينظر: مغني المحتاج 1/286.
[7] ينظر: المجموع للنووي 4/522، مغني المحتاج 1/286.
[8] ينظر: المجموع للنووي 4/522.
[9] فتاوى اللجنة الدائمة 1/405.