بقلم حماد القباج
من الواضح الجلي أن الممارسة السياسية المعاصرة تكتنفها – في الغالب الأعم – مخالفات شرعية، وهو ما يدعو المسلم إلى تفادي تولي الولايات السياسية والوظائف التابعة لها؛ عملاً بالنصوص الشرعية في الأمر باجتناب المنكر والبعد عن مواطن المخالفات…
إلا أن هذا الاعتبار (اتقاء المخالفات) ليس هو الاعتبار الشرعي الوحيد في الباب (تولي الولايات والوظائف السياسية)؛ بل هناك اعتبار ثانٍ لا يجوز شرعاً إغفاله؛ ألا وهو النظر في ما يترتب على الزهد في تلك الولايات من مفاسدَ قد تكون أكبر من المفسدة المترتبة على توليها!
والحق أن تولي المسلم المتدين لوظائف تدبير الشأن العام ينبغي أن ينظَر إليه من وجهين:
الأول: وجوب اجتنابه إذا كان مشتملاً على فساد ومخالفات شرعية. وهذا الوجه أدلته معروفة مشهورة، وهو المتداول الذي يعرفه عموم المسلمين في الجملة.
الثاني: إذا كان توليه للوظيفة وسيلةً لرفع ذلك الفساد أو تخفيفه أو الحيلولة دون توسع دائرته؛ فهذا مطلوب شرعاً ممن كانت له هذه النية وغلب على ظنه أنه يمكن أن يحقق شيئاً من تلك المقاصد.
وهذا جارٍ على قاعدة الشرع: تحقيق المصالح أو تكثيرها وإعدام المفاسد أو تقليلها[1].
وفي هذه المسألة قواعد شرعية وتطبيقات قرآنية وحديثية كثيرة وفتاوى لفقهاء الاجتهاد في زماننا وقبله.
وقد بينت شيئاً من ذلك في كتابات متقدمة، وأضيف في هذه المقالة؛ تحريراً علمياً للمسألة من كلام العلامة الفقيه المجتهد محمد بن صالح بن عثيمين (ت 1421هـ) رحمه الله تعالى.
وقد ذكر هذا الكلام في شرحه لكتاب “السياسة الشرعية” لشيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ) رحمه الله؛ مما يؤكد أن هذا الفقه هو من صميم السياسة الشرعية، خلافاً لما يظنه بعض إخواننا من طلبة العلم وفقهم الله تعالى.
قال الإمام ابن تيمية – رحمه الله تعالى -: “الوَاجِب تَحْصِيلُ المصالح وتكميلها؛ وتعطيل الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِها؛ فَإِذَا تَعَارَضَتْ كَانَ تَحْصِيلُ أَعْظَمِ الْمَصْلَحَتَيْنِ بِتَفْوِيتِ أَدْنَاهُمَا وَدَفْعُ أَعْظَمِ الْمَفْسَدَتَيْنِ مَعَ احتمال أدناهما: هُوَ الْمَشْرُوعَ.
وَالْمُعِينُ عَلَى الإِثم وَالْعُدْوَان مَنْ أَعَانَ الظَّالِمَ عَلَى ظُلْمِهِ، أَمَّا مَنْ أَعَانَ الْمَظْلُومَ عَلَى تَخْفِيفِ الظُّلْمِ عَنْهُ، أَوْ عَلَى أداء الْمَظْلِمَةِ: فَهُوَ وَكِيلُ الْمَظْلُومِ؛ لَا وَكِيلُ الظَّالِمِ؛ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يُقْرِضُهُ، أَوْ الَّذِي يَتَوَكَّلُ فِي حَمْلِ الْمَالِ لَهُ إلَى الظَّالِمِ”[2].
قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى في شرحه:
“هذه الجملة تكتب بماء الذهب: “وَالْمُعِينُ عَلَى الإِثم وَالْعُدْوَانِ مَنْ أَعَانَ الظَّالِمَ عَلَى ظُلْمِهِ، أَمَّا مَنْ أَعَانَ الْمَظْلُومَ عَلَى تَخْفِيفِ الظُّلْمِ عَنْهُ”.
مثال ذلك: الجمارك: المكوس عندنا؛ لو قال إنسان: أنا أريد أن أتوظف بها من أجل التخفيف على الناس لا من أجل ظلم الناس؟
قلنا: لا بأس؛ إذا أردت أن تتوظف من أجل التخفيف على الناس بدل من أن يجعلوا الضريبة – مثلاً – عشرة بالمائة، تأخذ أنت خمسة بالمائة مثلاً، أو تسمح عن بعض الأشياء التي يمكنك أن تسمح عنها؛ فهذا ليس معيناً للظالم على ظلمه بل هو معين للمظلوم على تخفيف الظلم عنه.
وكذلك على أداء المظلمة: إذا أعان على أداء المظلمة أيضاً لا بأس؛ إن عرف أن هذا الشخص لا بد أن يؤخذ منه هذا الشيء فأنا أعينه على أداء المظلمة ودفعها عنه بقدر الإمكان، هذا أيضاً لا بأس به.
وكثير من طلبة العلم تخفى عليهم هذه المسألة؛ يقول: “لا تفعل ولو كان ذلك لمصلحة المظلوم”.
وهذا في الحقيقة فيه قصور نظر: أنت لا تنظر إلى الشيء من جانب واحد؛ انظر إلى الشيء من الجانبين، صحيح أنك لا تحب أن يُظلَم الناس ولا بدرهم واحد، لكن إذا كان بدونك سيُظلم الناس بعشر دراهم وبوجودك بخمسة؛ صار في هذا تخفيف للظلم، ثم هو في الواقع مصلحة للظالم والمظلوم؛ الظالم تخفف عنه الإثم، والمظلوم تخفف عنه المظلمة، ولهذا قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) قالوا: يا رسول الله كيف ننصر الظالم؟ قال: (تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه).
فهذه المسألة يا إخواني طلبة العلم انتبهوا لها، لا تنظروا إلى الشيء من جانب واحد؛ لأننا لو نظرنا من جانب واحد لقلت: لا يمكن أن أكون في هذا المركز إطلاقاً لأني سأظلم، لكن نقول: انظر المصلحة إذا كنت فيه وكان عندك قدرة أن تخفف الظلم فهذه مصلحة للظالم ومصلحة للمظلوم.
سبحان الله! شيخ الإسلام أعطاه الله – سبحانه وتعالى – مع العلم حكمة وبعد نظر، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وفي الأحوال التي لا يستطيع الإنسان فيها أن يخفف الظلم؛ فلا يغتفر له هذا.
وإذا كان في بعض أحوال وظيفته، لا كلها؛ فلا بأس؛ إذا كان يستطيع ولو عشرة بالمائة.
وإذا لم يستطع فليترك العمل.
بل ويجوز الدخول في وظيفة بنيَّة تخفيف مظالِمها ولو كانت [نسبة الإصلاح] قليلة (واحد بالألف)، ينتفع الناس بذلك”.
قال: “وإذا كان توظف الشخص في عمل مختلط أو فيه فساد يؤدي إلى تخفيف الشر وأن المسألة كائنةٍ ولا بد؛ فلا شك أنه أحسن، والإنسان ينظر إلى المصلحة العامة” اهـ.
وبهذا يظهر أن المسلم يُطلَب منه أن ينخرط في مجال تدبير الشأن العام، ولا يمتنع بسبب ما يتخلله ويكثر فيه من أنواع الفساد من غش ومحسوبية وأكل أموال الناس بالباطل (اختلاس المال العام)… بل يُطلَب منه ذلك ليعين على تحقيق الإصلاح السياسي بتخفيف الفساد، ورفع الحرج عن المواطنين، وتحقيق مصالحهم المختلفة. وهذا عمل لا يقل أجراً عن العبادة في المسجد، بل قد يكون أكثر أجراً منها كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: (أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس… ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إليَّ من أن أعتكف في هذا المسجد ]يعني مسجد المدينة[ شهراً). سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/ 574).
ثم قال الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله -: “فما دام الأمر يخفف الشر؛ كلما كثر أهل الخير فهو أحسن لا شك. ومن قال: (لا أجد إلا هذه الوظيفة)، فإن الرزق على الله.
لكن لو قال: لو لم أتوظف فيها لتوظف فيها فاسق فاجر يفسد في الأرض بعد إصلاحها، فلا بأس.
والمصالح العامة يجب مراعاتها… نقول: هل أنت إذا امتنعت عن هذا؛ هل سيبقى الجو فارغاً؟ سيأتي أناس خبثاء يفسدون في الأرض بعد إصلاحها” اهـ[3]
قلت: ما قرره الفقيه ابن عثيمين نموذج تطبيقي لقول شيخ الإسلام في موطن آخر: “ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر، وإنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين، فإذا ازدحم واجبان لا يُمكن جمعهما، فقَدَّم أوكَدَهُما، لم يكن الآخر في هذه الحال واجباً، ولم يكن تاركُه لأجل فِعلِ الأوكد تارك واجب في الحقيقة.
وكذلك إذا اجتمع محرَّمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما، لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرماً في الحقيقة، وإن سمي ذلك تَرْكُ واجب، وسمي هذا فِعْلُ محرم، باعتبار الإطلاق لم يضر.
ويقال في مثل هذا: ترك الواجب لعذر، وفعل المحرم للمصلحة الراجحة أو للضرورة، أو لدفع ما هو أحرم”. اهـ[4]
إن هذا الفقه الذي تفتقت عنه عبقرية أئمة الاجتهاد والاستنباط، يمثل مرجعاً مهماً في التعامل مع نوازل ومستجدات واقعنا السياسي وما يتفرع عنه من نوازلَ في الاقتصاد والفن والأدب… وهو الفقه الذي سماه شيخ الإسلام: فقه الموازنة أو فقه الازدحام.
ومن الأخطاء الشائعة بين طلبة العلم أنهم ينظرون إلى تلك النوازل والمستجدات في ضوء فقه السعة والاختيار وما ينبغي أن يكون، فيبقون في انتظار هذا المأمول، ويزداد الشر، ويقوى نفوذ أهله وتعظُم هيمنتُهم في كل المجالات التدافعية، ثم ينقلبون على أهل العلم والصلاح بأنواع الأذى والمصادرة للحق والإكراه على الباطل، ونحو ذلك من المفاسد العظمى التي كان يمكن دفعها بما هو أدنى منها في الفساد والشر…
وهذا من آفات خوض عموم الطلبة في هذه الأمور الكبيرة؛ فإنهم يفسدون من حيث يظنون أنهم يصلحون، ويتسببون في الإضرار بالدين وأهله من حيث لا يشعرون.
وصدق ربنا إذ يقول: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) [النساء: 83]
قال الإمام رشيد رضا:
“فخوض العامة في السياسة وأمور الحرب والسلم، والأمن والخوف، أمر معتاد وهو ضار جداً إذا شُغلوا به عن عملهم… ومثل أمر الخوف والأمن وسائر الأمور السياسية والشؤون العامة، التي تختص بالخاصة دون العامة”. تفسير المنار (5/ 242)[5]
وخلاصة ما سبق: أن تولي مناصب التسيير والتدبير الجهوي أو الجماعي، وغيرها من الولايات السياسية، أمر مشروع بالضوابط المتقدمة، بل إن صاحبه يكون مأجوراً بقدر سلامة نيته وحُسنِ عمله وسعيه لتحقيق مقاصد الشرع؛ ومنها خدمة المصلحة العامة، وتخفيف الشر والفساد والظلم عن الناس.
والله تعالى أعلم.
فرع:
يتفرع عن الحكم المتقدم؛ حكم انتخاب من يتولى ذلك المنصب؟
فيشرع في ذلك اختيار الأصلح أو الأقل فساداً، وقد يكون ذلك واجباً من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
——————————————————
[1] وهكذا فإن الممارسة السياسية بتولي بعض الولايات لا ينظر إليها فقط: هل تؤدي إلى إقامة حكم إسلامي ملتزم بالأصول والمبادئ الشرعية أو لا تؤدي إلى ذلك؟ بل النظر الشرعي يستلزم النظر في إمكانية تخفيف الشر أو منع الأكثر شراً.
[2] السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية (ص: 40).
[3] من كتاب “شرح السياسة الشرعية” (ص: 146- 149).
[4] من رسالة “الحسبة” (ص: 184).
[5] فإن قيل: ألست أنت من هؤلاء الطلبة؟
قلت: بلى؛ ولكنني باحث يتحرى استنباطات أهل الاجتهاد، ثم يبني عليها تحليلاته ومواقفه.
المصدر: مركز البيان للبحوث والدراسات.