مقالاتمقالات مختارة

حكم التَّطبِيع مع العدو اليهودي المحتل لفلسطين وبيان مخاطره على المسلمين

حكم التَّطبِيع مع العدو اليهودي المحتل لفلسطين وبيان مخاطره على المسلمين

إعداد أ. د. صالح الرقب “غزة-فلسطين”

المقدمة…

     إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

   أمَّا بعــد:

     فاليهود من أشدِّ عداوة الإسلام وأهله؛ قال الله سبحانه عنهم: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا)، وقد وصفهم الله سبحانه في كتابه بأنهم قتلةُ الأنبياء والأولياء الذين يأمرون بالقسط من الناس، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)، وأنهم سماعون للكذب، (وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ)، (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) يتعاطون الربا وقد نهوا عنه، ينقضون المواثيق، ويحكمون بالطواغيت، ويصفون الله تعالى بالنقائص، (وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)، وغير هذا ممَّا هو مشهور عنهم. والخيانة من طبائع اليهود الملازمة لهم، والخيانة تكون في كل ما يُؤتمن عليه الإنسان من مالٍ وعرضٍ ودينٍ وعهدٍ وغير ذلك، وقد خانَ اليهودُ أمانتِهم في الأموال، فقال تعالى عنهم: (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً) آل عمران: 75.

– إنَّ تاريخ اليهود مليء بالمؤامرات والدسائس، فقد أرادوا قتل المسيح عيسى بن مريم عليه السلام فشبه لهم ورفعه الله تعالى، وأرادوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم مراراً فأنجاه الله منهم، وأرادوا أن يوقعوا الفتنة بين الصحابة فسلمهم الله، وأول فتنة فرّقت بين المسلمين كانت فتنة ابن سبأ اليهودي، واستمر كيدهم طوال التاريخ، فأثاروا فتناً، وأسقطوا دولاً، حتى تمكنوا أخيراً من اغتصاب فلسطين أراض المسلمين.

– ومطامع اليهود ليس لها حد، فهم لا يقيمون وزناً لعهدٍ ولا لميثاقٍ، فقد قال الله تعالى عنهم إنهم يقولون: (لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) آل عمران:75، وقال سبحانه: (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ) البقرة:100، وقال تعالى: (الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) الأنفال:56، جاء في سفر القضاة بالعهد القديم: (وأنتم فلا تقطعوا عهدا مع سكان هذه الأرض اهدموا مذابحهم ولم تسمعوا لصوتي فماذا عملتم).([1]) وجاء في التلمود: (على اليهودي أنْ يؤديَ عشرينَ يميناً كاذبةً، ولا يَعرِّضُ أحدَ إخوانه اليهودِ لضررٍ ما).

– ويهدف اليهود من خلال هذه العملية بالإضافة إلى تغيير عقلية المسلمين  إلى تأمين بلادهم من ضربات المجاهدين، وتعزيز اقتصادهم المنهار، وتهجير بقية اليهود إلى فلسطين، وإكمال بناء المستوطنات؛ تمهيداً لإكمال الهيمنة على المنطقة بأسرها. لذلك فالتصور الصحيح لهذا السلام المزعوم كافٍ في معرفة حكمه الشرعي، إذ هو مشتمل على منكرات كثيرة محرمة بإجماع المسلمين كما سيأتي معنا.

– ومدار شبهات من أجاز هذا السلام المزعوم إنما هي قائمة على جواز الهدنة والصلح مع الكافرين، وهذا الأمر لا نزاع فيه، فالهدنة جائزةٌ بشروطها، والأمر هنا ليس هدنةً، فالهدنة قائمةٌ أصلاً منذ القدم بين هذه الأطراف؛ إذ لا قتال بينهم، وإنَّما المرادُ من هذا أمرٌ آخر وراء الهدنة وهو: موالاةُ اليهود، والركونُ إليهم، وتطبيعُ العلاقات معهم، ونبذ معاداتهم وبغضهم، فهذا شيء، والصلح الشرعي شيء آخر.

– ومعلوم أنَّ أرض فلسطين وما حولها أرض مباركة، وصفها الله سبحانه بذلك في خمسة مواضع من كتابه، وفيها المسجد الأقصى: أولى القبلتين، وثالث المسجدين، ومسرى الرسول صلى الله عليه وسلم، افتتحها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وحرّرها صلاح الدين رحمه الله، فهي مملوكة للمسلمين، وأرضها وقفٌ عليهم، والحقُّ فيها لله عزَّوجلَّ، ليست حقاً شخصياً لأحدٍ كائناً من كان حتى يتنازل عن شيءٍ منها، وهناك فرق كبير بين ترك قتال اليهود لعدم القدرة، وبين إعطائهم صكاً بملكية الأرض وإضفاء شرعية مزعومة عليهم، فالأول من باب العجز المسقط للتكليف، والثاني من باب الخيانة الموجبة للعقوبة!.

المراد بالتَّطبِيع :

 مصطلح يهودي يراد منه أن تُقبل (إسرائيل) في المنطقة بكيان مستقل معترف به، وأن يكون لها الحق في العيش بسلام وأمن، مع إزالة روح العداء لهم من جيرانهم، ولا يكون هذا إلا عن طريق إحداث تغيير نفسي وعقلي جذري عند المسلمين، عن طريق القضاء على عقيدة الولاء والبراء وروح الجهاد، أو إضعاف تأثير ذلك عليهم.

التَّطبِيع هو مصطلح من مبتكرات الصراع العربي الإسرائيلي، يقصد به تحويل آليات الصراع إلى آليات للسلام، والمهادنة والتقارب بين الأطراف المتصارعة، وهو يعني: التبادل السلمي النشط في كافة المجالات.

مثلاً:

 – التسليم بشرعية وجود دولة الكيان الصهيوني المسماه بــــ “إسرائيل”. وهذا يعني إصباغ الشرعية على الاغتصاب الصهيوني لأراضي دولة فلسطين المسلمة التي فتحها الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وظلَّت تحت الحكم الإسلامي أكثر من ثلاثة عشر قرناً.

 – غزو العقل العربي المسلم الذي يناصبُ اليهودَ العداءَ، وتصحيح تصورات المسلمين في المزاعم اليهودية، وتصحيح تصوراتهم عن اليهود ليفهموهم من جديد، على أنهم شعب – كما يريد لهم اليهود أن يفهموا- شعب وديع محب للسلام.

 – إحداث تغيير في نمط السلوك الإسلامي تجاه اليهود وكيانهم المسمى “إسرائيل”.

 – التسليم بالمطالب الأمنية والإقليمية التي تحتِّمُ قيام علاقات دبلوماسية وتبادل سياسي واقتصادي وسياحي، وثقافي، وتكامل في كافة المجالات الحيوية بين اليهود وبين جيرانهم العرب والمسلمين.

    هذا هو المقصود بكلمة التَّطبِيع إذاً، وهي خلفية السلام الذي يتكلمون عنه، ويكون غطاءً لأمرٍ آخرَ أبعدُ منه.

    وأمَّا معاهدات السلام والاعتراف السياسي هو بوابة هذا التَّطبِيع، وأمَّا اتفاقيات النشاطات الاقتصادية، والثقافية، والإعلامية، والسياحية، والأمنية ونحوها بين إسرائيل وغيرها من الدول المجاورة لها فهي من وسائل تنفيذ مخطط التَّطبِيع. والتَّطبِيع الثقافي: هو بيت القصيد ومربط الفرس، فعن طريق هذا التَّطبِيع يحاول أعداء الله اليهود أن يهودوا عقلية المسلم، بأن يفسدوا عقائدَ المسلمين، بسعيهم لإزالة حواجز البراء عنهم، عن طريق إنشاءِ الأكاديميات العلمية اليهودية في بلاد الإسلام، ونشرِ كتبهم، وإقامة المؤتمرات، وبثِّ دعاة اليهود وعملائهم بين صفوف المسلمين، والسعي لتغيير مناهج التعليم، ونحو ذلك ممَّا شأنه زلزلةَ ثوابت المسلمين. ويقصدون بالتَّطبِيع الكامل إقامة علاقات تجارية وسياحية ودبلوماسية وثقافية.. الخ.

     وقد نصَّت اتفاقية السلام بين “إسرائيل” والإمارات على: “توقيع اتفاقيات ثنائية تتعلق بالاستثمار، والسياحة، والرحلات المباشرة، والأمن، والاتصالات، والتكنولوجيا، والطاقة، والرعاية الصحية، والثقافة، والبيئة، وإنشاء سفارات متبادلة، ومجالات أخرى ذات المنفعة المتبادلة، سيؤدي فتح العلاقات المباشرة بين اثنين من أكثر المجتمعات ديناميكية في الشرق الأوسط والاقتصادات المتقدمة إلى تغيير المنطقة من خلال تحفيز النمو الاقتصادي، وتعزيز الابتكار التكنولوجي، وإقامة علاقات أوثق بين الناس..” وجاء فيها: ستنضمُ إسرائيل والإمارات العربية المتحدة إلى الولايات المتحدة لإطلاق أجندة استراتيجية للشرق الأوسط لتوسيع التعاون الدبلوماسي والتجاري والأمني. إلى جانب الولايات المتحدة، تشترك إسرائيل والإمارات العربية المتحدة في نظرة مماثلة فيما يتعلق بالتهديدات والفرص في المنطقة، فضلاً عن الالتزام المشترك بتعزيز الاستقرار من خلال المشاركة الدبلوماسية، وزيادة التكامل الاقتصادي، والتنسيق الأمني ​​الوثيق”.

أهم أهداف التَّطبِيع:

    وممَّا سبق توضيحه عن التطبيع يتبين أن التطبيع يهدف إلى تحقيق ما يلي:-

الهدف الأول: كسر الحاجز النفسي بين المسلمين واليهود: بحيث يتقبل المسلمون وجود إسرائيل كما يتقبلون وجود أي دولة أخرى إسلامية غير عربية، أو حتى غير إسلامية مثل تركيا وإيران وأثيوبيا وغيرها، ومثلما تقبلوا أي دولة ذات أقلية في المنطقة.

الهدف الثاني: إلغاء المقاطعة العربية: حيث أفقدت هذه المقاطعة اليهود إلى حد ما مزايا التعامل التجاري مع جيرانها العرب، ويقدر بعض الخبراء خسائر إسرائيل من جراء القطيعة بينها وبين العرب في الحدود بأكثر من عشرة بالمائة من الناتج القومي، وهذا يعتبر عبئاً على الاقتصاد الإسرائيلي.

الهدف الثالث: تهيئة الظروف لاستقبال ملايين آخرين من اليهود: وذلك من خلال توفير واستثمار مصادر المياه الضرورية للحياة وللزراعة في إسرائيل، ومن ذلك -مثلاً- تصريف مياه نهر الأردن فقد سعت إسرائيل منذ زمن بعيد إلى الاستفادة من مياه نهر الأردن، بل وبيع مياه نهر النيل التي أعلنها رئيس مصر السابق، فقد أعلن في أكثر من مناسبة الاستعداد لبيع كمية من مياه نهر النيل إلى إسرائيل، وقد بدأت دراسات وبحوث لمثل هذا الأمر ربما توقف العمل بها لظروف خاصة، ولكن يبدو أن هذه الخطة كانت من ضمن الخطط الأساسية المدروسة بين مصر وإسرائيل.

الهدف الرابع : إزاحة العقبات التي تكدِّرُ الحياةَ اليهوديةَ: وذلك تمهيداً لتحقيق الحلم الكبير بإسرائيل الكبرى، وأرض الميعاد، فمثلاً يجب أنْ نعلمَ أنَّ عددَ اليهود الذين يقطنون فيما بـ “إسرائيل” إلى الآن أقل من (30%) من يهود العالم، واليهود يحاولون تهيئةَ كيانهم لاستقبال اليهود من العالم كلِّه تمهيداً لإقامة الحلم الكبير بإسرائيل الكبرى، وذلك يستدعي ضرورةَ ضبطِ الوضعِ الأمني والاقتصادي في إسرائيل.

الهدف الخامس: فتح مجالات وآفاق جديدة للتعاون بين الأصدقاء الجدد: أي إسرائيل وجيرانها، وذلك في مجالات الطاقة وإقامة المشاريع المشتركة مثل مصانع البتروكيماويات، والتنقيب عن النفط واستخراجه، وإلغاء العقوبات ضد الشركات والسفن التي تتعامل مع الكيان اليهودي المحتل. وإيجاد مجالاتٍ للتواصل مع بعض التيارات الفكرية والسياسية في المنطقة العربية من منطلق التخصصات أو المهن، أو الهموم المشتركة، فالأطباء اليهود يلتقون بالأطباء المسلمين، والفنانون يلتقون بالفنانين، والبرلمانيون يلتقون بالبرلمانيين، وهكذا تسعى إلى إيجاد روابط فكرية وسياسية وثقافية مع نظرائهم في المنطقة العربية. وهذا ينتج عنه ولابدَّ نوعٌ من التغيير العقدي للمسلمين، يسبقه تغيير العقول وتغيير القلوب، وتغيير الثقافة الإسلامية.

الهدف السادس الأمني: إنَّ دولة العدو الصهيوني تسعى من هذا التَّطبِيع إلى توسيعِ نطاقِ التَّجَسس لصالحها، ولا شكَّ أنَّ سفارات العدو الصهيوني في الدول التي طبَّعت معها هي عبارةٌ عن أوكارٍ للتجسس وتجنيد العملاء، وقد ثبت ذلك بما لا يدع مجالاً للشكِّ، ولعلَّ من الطريف أنَّ إحدى البلاد العربية – هذا ذكرته مصادر لا بأس بها- زوَّدت دولة العدو الصهيوني بمحاضر ووثائق اجتماع على أعلى المستويات عُقدت في ذلك البلد، فقامت بتصوير محاضر ذلك الاجتماع على مستوى القمة، وزودت بها دولة العدو لتستفيد منها في مجال رسم سياساتها. وإن دولة العدو الصهيوني وبعض هذه الأنظمة تعتبر أنَّ هناك عدواً مشتركاً، وهذا العدو المشترك هو ما يمكن أن يعبروا عنه جميعاً باسم “الأصولية الإسلامية” التي هي العدو المشترك لليهودٍ ولكثيرٍ من العرب الذين ضَلُّوا وأصبحوا الآن مع اليهود في خندقٍ واحدٍ، ولهذا قلا غرابةَ أن تتعهدَ عددٌ من الدول التي لها حدود مع دولة العدو الصهيوني بحماية حدودها، ومنع التسلل إليها، بل تتعهدُ بأكثرَ من ذلك، فهي تتعهدُ بمحاربة كلِّ من يقفُ ضدَّ عملية السلام ومحاكمته، وقد تمنعِ إقامةِ أي حزب – في بعض هذه البلاد التي تسمح بقيام الأحزاب- إلاَّ بعد أنْ يعترفَ بمعاهدة السلام ويؤمنَ بها على أنَّها ضرورةٌ لابدَّ أنْ يقتنعَ بها من قبل.

حكم مظاهرة ومعاونة العدو المحتل أمنياً:

1- التعاون الأمني مع العدو هو عين التجسس وذاته، وهو نوع من السعي بالفساد في الأرض: قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا) الحجرات: 12. قال الطبري: وَقَوْله: (وَلَا تَجَسَّسُوا)، يَقُول: ولَا يَتَتَبَّع بَعْضكُمْ عَوْرَة بَعْض, وَلَا يَبْحَث عَنْ سَرَائِره, لَا عَلَى مَا لَا تَعْلَمُونَهُ مِنْ سَرَائِره. قال ابن كثير في تفسير الآية: (وَلَا تَجَسَّسُوا) أَيْ عَلَى بَعْضكُمْ بَعْضًا، وَالتَّجَسُّس غَالِبًا يُطْلَق فِي الشَّرّ، وَمِنْهُ الْجَاسُوس. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِيَّاكُمْ وَالظَّنّ فَإِنَّ الظَّنّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَنَافَسُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَاد اللَّه إِخْوَانًا”.([2])

      والتجسس هو: نوع من السعي بالفساد، وعمل يعرِّض مصالح المسلمين وبلادهم للضرر، وقد نزلت الآية الكريمة في عقاب من يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا وهى قوله تعالى في سورة المائدة: (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) المائدة:33. ومن يتجسس على المسلمين ويتصل بأعدائهم ويعطيهم معلومات بأسرار عسكرية سرية لينتفعوا بها في البطش بالمجاهدين وقدراتهم العسكرية، وإلحاق الأذى والضرر بالبلد، وهذا جدير بأن يعامل معاملة من يحارب الله ورسوله ويسعى في الأرض فسادًا، فالمقاومة لها رجالها ونظمها ومقدراتها العسكرية. والمصلحة العامة تستلزم أن تحتفظ لنفسها بأسرار تخفيها عن أعدائها، ولا يعلمها إلا أهلها المتصلون بحكم عملهم بها. فإذا أجهزة أمن عباس مكلفة بأن تستطلع أمر هذه الأسرار بطرقها المختلفة، وتنقلها إلى العدو المحتل كما تفرض عليها خارطة الطريق وقد نفذت ذلك بإخلاص كان فعلها هو عين التجسس، وكانت ممن يسعى في الأرض بالفساد، فشأن إطلاع العدو على هذه الأسرار كما هو معلوم يسهل عليه محاربة المجاهدين وتوهين قواهم.

2- مظاهرة ومعاونة العدو المحتل كفر وردة عن الدين: إن من يظاهر الكافرين ويعاونهم على المؤمنين لأجل طمع في الدنيا يرجى، أو رياسة وغيرها، كفر وردة عن الدين، وقد أجمع أهل العلم على أن من ظاهر الكفار من أهل الكتاب وغيرهم من الملل الكفرية على المسلمين وساعدهم بأي نوع من المساعدة فهو كافر مثلهم، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) المائدة51، فقوله تعالى: (ومن يتولهم منكم) معناه: فإنِّه يصير من جملتهم، وحكمه حكمهم. قال الإمام الطبري في تفسير هذه الآية: “والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره، نهى المؤمنين جميعاً أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصاراً وحلفاء على أهل الإيمان بالله ورسوله، وأخبر أنه من اتخذهم نصيراً وحليفاً وولياً من دون الله ورسوله والمؤمنين، فإنِّه منهم في التحزب على الله وعلى رسوله والمؤمنين، وأن الله ورسوله منه بريئان”.([3])

     وهذه الموالاة تدلُّ على فساد في اعتقاد صاحبها، خاصة من جهة منافاتها لعمل القلب من الحب والبغض، فالحب والبغض – كما هو معلوم- أصل الولاء والبراء، فمحبة المؤمنين تقتضي موالاتهم ونصرتهم، وبغض الكافرين يقتضي البراءة منهم ومن مذاهبهم وعداوتهم ومحاربتهم، فإذا عادى المرء المؤمنين وأبغضهم، وظاهر الكافرين وناصرهم على المؤمنين فقد نقض أصل إيمانه، قال ابن حزم: “صحَّ أنَّ قول الله تعالى: (وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) إنما هو على ظاهره: بأنه كافر من جملة الكفار، وهذا حق لا يختلف فيه اثنان من المسلمين”.([4])  فكل من ساعد ظالمًا أو قدَّم له عوناً أو دعماً أو تأييداً لظلمِه هو ظالمٌ مثلُه، وشريكٌ له في الإثمِ والوزرِ بقدر ما قدَّم، وبقدر ما أيَّد وساند.

      قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “فَذَكَرَ “جُمْلَةً شَرْطِيَّةً” تَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ وُجِدَ الْمَشْرُوطُ بِحَرْفِ “لَوْ” الَّتِي تَقْتَضِي مَعَ الشَّرْطِ انْتِفَاءَ الْمَشْرُوطِ فَقَالَ: (وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ). فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ الْمَذْكُورَ يَنْفِي اتِّخَاذَهُمْ أَوْلِيَاءَ وَيُضَادُّهُ وَلَا يَجْتَمِعُ الْإِيمَانُ وَاِتِّخَاذُهُمْ أَوْلِيَاءَ فِي الْقَلْبِ. وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ اتَّخَذَهُمْ أَوْلِيَاءَ؛ مَا فَعَلَ الْإِيمَانَ الْوَاجِبَ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ. وَمِثْلُهُ قَوْله تَعَالَى {لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} . فَإِنَّهُ أَخْبَرَ فِي تِلْكَ الْآيَاتِ أَنَّ مُتَوَلِّيَهُمْ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا. وَأَخْبَرَ هُنَا أَنَّ مُتَوَلِّيَهُمْ هُوَ مِنْهُمْ؛ فَالْقُرْآنُ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا”.([5])

3- إنَّ موالاة ومساعدة العدو الصهيوني أمنياً فسق وضلال كبير: قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ) الممتحنة:12-. إنَّ الإسلام لا يقبل أن يقف المسلم في خندق واحد مع العدو الصهيوني المحتل لأرض فلسطين المسلمة ضد إخوانه المسلمين، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا) النساء:144، وقال تعالى: (ترى كثيرًا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه اتخذوهم أولياء ولكن كثيرًا منهم فاسقون) المائدة:81.

4- مظاهرة الكافرين ومعاونتهم على المؤمنين من أخص صفات المنافقين، فهم في الظاهر مع المؤمنين، لكنهم في الحقيقة مع الكفار عيوناً وأعواناً لهم، يكشفون لهم عورات المسلمين وأسرارهم ويتربصون بالمؤمنين الدوائر. قال تعالى: (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً) النساء 138-139. وقال تعالى: (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دائرة فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ) المائدة52، والمرض هنا مرض القلب، وهو النفاق، وقوله تعالى: (تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) قال الفخر الرازي: “اعلم أنَّ التظاهر هو التعاون…”.([6]) وقال صلى الله عليه وسلم: “من حمى مؤمناً من منافقٍ بعث الله ملكاً يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم، ومن رمى مسلماً بشيءٍ يُريد شَينَه به حبسَه الله على جسر جهنم حتى يخرجَ مما قال”.([7])

5- من يتعاون مع العدو الصهيوني المحتل أمنياً برأت منه ذمة الله تعالى وذمة رسوله عليه السلام: التعاون الأمني القائم بين دولة العدو الصهيوني وأجهزة أمن الدول العربية المطبعة معه هو إعانة للظالم على ظلمه، ومن يفعل ذلك برئت منه ذمة الله تعالى ورسوله عليه السلام: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ أَعَانَ ظَالِماً لِيُدْحِضَ بِبَاطِلِهِ حَقّاً فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ الله وَذِمَّةُ رَسُولِهِ”.([8]) وكما حرَّم الله الظلم حرَّم إعانة الظالم على ظلمه، بل حرَّم مجرد الركون إلى الظالم، فقال تعالى: (وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ) هود: 113، وقال الله جل وعلا على لسان موسى عليه السلام: (قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ) القصص:17، ومعنى ظهيرا يعني معيناً، فالتعاون الأمني يكون على الظلم والإثم والعدوان، ولا يكون على البر والتقوى، ونصرة الحق ونصرة المظلوم، قال تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) المائدة:2.

6- من يتعاون مع العدو المحتل أمنيا يلزمه أنْ يتتبع عورات المؤمنين، لذا فهو منافق خسيس عريق في النفاق والخداع..! وسيتتبع الله عورته ويفضحه في بيته: قال صلى الله عليه وسلم: “يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإِيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنَّ من اتبع عوراتهم يتبع اللّه عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته”. رواه أبو داود بإسناد حسن.

فتاوى العلماء  في مظاهرة الكفار ومعاونتهم على المسلمين:

   لقد صدرت فتاوى عديدة من كبار العلماء المسلمين يبينون فيها الحكم الشرعي فيمن يظاهر الكافرين ويواليهم ويساعدهم، وقد عدّو فعله ناقضاً من نواقض الإسلام، وحكموا بكفره وردته، ما دام عمله فيه مناصرة ومعاونة للكفار في تحقيق أهدافهم، وأنَّ حكمه القتل كفراً لتوليه الكفار.

– جاء في موسوعة المفاهيم لمجمع البحوث التابع للأزهر الشريف: “… والذي يدلُّ اليهود على عورات المسلمين، ويتسبب في قتل الأبطال على أيدي اليهود يعد محاربا، يستوجب قتله؛ لأنّه تسبب في قتل المسلمين، وسبب السبب يأخذ حكم السبب، ومن أعان على القتل ولم يباشره كان قاتلاً أيضاً، على أن هذا الأمر الذي قام به من التعاون مع الأعداء يعد خيانة لله وخيانة لرسوله صلى الله عليه وسلم، وخيانة لهذا الدين، وخيانة للمسلمين، وقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “من أعان ظالماً بباطل ليدحض بباطله حقاً فقد برئ من ذمة الله تعالى وذمة رسوله”.([9])

– قال الشيخ العلامة المحقق أحمد شاكر: “أما التعاون مع الإنجليز بأي نوع من أنواع التعاون، قلّ أو كثر، فهو الردّة الجامحة، والكفر الصّراح، لا يقبل فيه اعتذار، ولا ينفع معه تأول، ولا ينجي من حكمه عصبية حمقاء، ولا سياسة خرقاء، ولا مجاملة هي النفاق، سواء أكان ذلك من أفراد أو حكومات أو زعماء. كلهم في الكفر والردة سواء، إلا من جهل وأخطأ، ثم استدرك أمره فتاب وأخذ سبيل المؤمنين، فأولئك عسى الله أن يتوب عليهم، إن أخلصوا من قلوبهم لله لا للسياسة ولا للناس…… ولا يجوز لمسلم في أي بقعة من بقاع الأرض أن يتعاون معهم بأي نوع من أنواع التعاون، وإن التعاون معهم حكمه حكم التعاون مع الإنجليز الردة والخروج من الإسلام جملة, أيا كان لون المتعاون معهم أو نوعه أو جنسه. وما كنت يوما بالأحمق ولا بالغر… ولكني أراني أبصر المسلمين بمواقع أقدامهم, وبما أمرهم الله به, وبما أعدّ لهم من ذل في الدنيا وعذاب في الآخرة إذا أعطوا مقاد أنفسهم وعقولهم لأعداء الله, وأريد أن أعرفهم حكم الله في هذا التعاون مع أعدائهم, الذين استذلوا وحاربوهم في دينهم وفي بلادهم, وأريد أن أعرفهم عواقب هذه الردة التي يتمرغ في حمأتها كل من أصر على التعاون مع الأعداء.([10])

– قال الشيخ سليمان العلوان تحت (فصل: الناقض الثامن من نواقض الإسلام؛ مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين): “ومظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين فتنة عظيمة قد عمَّت فأعمَت، ورزيِّة رمت فأصمَّت، وفتنة دعت القلوب فأجابها كل قلب مفتون بحب المشركين، ولا سيما في هذا الزمن، الذي كثر فيه الجهل، وقلَّ فيه العلم، وتوفَّرت فيه أسباب الفتن، وغلب الهوى واستحكم، وانطمست أعلام السنن والآثار”.([11])

– وقال الشيخ الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي: “هؤلاء الخونة، الذين يعاونون أعداء أمتهم على الإثم والعدوان. هؤلاء حكمهم حكم اليهود المحتلين، لأن ولاءهم لهم، وعونهم لهم، والله تعالى يقول: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) المائدة:51. بل الحق أني أرى هؤلاء شرا من اليهود الغزاة المعتدين، فإن اليهودي عدو واضح معروف، وهذا عدو من جلدتنا، ويتكلم بلساننا، فهو من المنافقين الذين قال الله عنهم: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا) النساء: 145. فالمنافق شر من الكافر”.

الهدف السابع التَّطبِيع الثقافي: من الأشكال التَّطبِيعية الخطيرة التي يحرص عليها الصهاينة، وتجد استجابة لدى بعض العناصر المغفلة أو العميلة التَّطبِيع الثقافي، الذي يرمي إلى فتح العقول والقلوب أمام الاختراق الصهيوني الذي يوظف وسائل الإعلام والإصدارات والكتابات والأعمال الأدبية والمنتديات العلمية والثقافية وملتقيات حوار الأديان والثقافات والحضارات.

     وفي شكل تعاون بين الجامعات، والملتقيات الفنية أو عن طريق استقطاب بعض الجمعيات أو الجماعات من هذا البلد أو ذاك من أجل تذليل العقبات أمام تقبل الهيمنة والاستسلام لواقع الاحتلال في فلسطين وإعادة تشكيل المنطقة ثقافياً، بتعزيز عناصر قوة المشروع الصهيوني مع إضعاف الانتماء القومي والشعور الوطني وتدمير مقومات ثقافة الأمة العربية بما تحمله من قيم وباعتبارها مخزوناً روحياً ووعاء للتراث الحضاري لهذه الأمة، وكلما فتحت نوافذ وجسور للتبادل الثقافي تحت أي غطاء إلا وتتعبد الطريق أكثر نحو تحقيق الهدف الأساسي للعدو المحتل وهو بسط الهيمنة الصهيونية على المحيط العربي ومنه إلى باقي العالم الإسلامي.
أهداف التَّطبِيع الثقافي التي يريد العدو الصهيوني تطبيقها:

 -1 إعادة كتابة التاريخ الحضاري للمنطقة العربية، عبر تزييف الحقائق والبديهيات التاريخية المتعلقة بالطريقة الاستعمارية الاستيطانية التي أقحمت الكيان الصهيوني في الوطن العربي.

 -2 التوقف عن تدريس الأدبيات والوثائق والنصوص المعادية للكيان، بما في ذلك الوارد منها في بعض الكتب المقدسة كالقرآن الكريم.

 -3أن تصبح الجامعات ومراكز الأبحاث الصهيونية مرجعية علمية للمنطقة بأسرها.
4- تدمير المقومات الذاتية للثقافة والحضارة العربية.

 -5يستهدف إعادة صياغة المفاهيم ومناهج التفكير، بما ينسجم مع المتغيرات الإقليمية والدولية، وإعادة النظر في الكثير من قضايا التاريخ العربي.
ويعتبر التَّطبِيع الدعامة الرئيسية للتغلغل الصهيوني في المنطقة العربية، لأنه أعمق وأكثر استقراراً من أي ترتيبات أمنية كالمناطق المنزوعة السلاح، أو وضع قوات دولية وغيرها من الترتيبات الأمنية.

آثار أخرى خطيرة للتطبيع:

   إن التَّطبِيع مع العدو أو مع فئات من مجتمعه قد يشجع فئات مجتمعية أخرى، في الدول العربية والإسلامية، على انتهاج هذا المسار، بحجة البحث عن السلام والتعايش بين الشعوب، وبالتالي التخلي عن الحس العربي والإسلامي الأصيل في التعامل مع العدو ومجتمعه، والذي تبلور على مر التاريخ. فالزيارات المتكررة من قبل فئات فلسطينية وعربية مهنية أو سياسية الى الكيان ولقاءاتها مع المؤسسة الصهيونية تحت شعار “السلام” أو غيره، تمنح الكيان الصهيوني مخرجاً لأزمته التي وضعته فيه المقاومة والانتفاضة، وتشجعه على قتل الفلسطينيين وتساهم في تغلغل ثقافته العنصرية والإلغائية الى الدول العربية والإسلامية والى العالم.

حكم التَّطبِيع:

  من المعلوم أنَّ لفلسطين مكانة عظيمة في قلب كل مسلم، فهي الأرض المقدسة والمباركة بنص القرآن الكريم، يقول تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير) الإسراء:1. وقال تعالى في قصة إبراهيم ولوط عليهما السلام: (ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين) الأنبياء:71. وقال تعالى: (ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين) الأنبياء:81. والأرض المباركة هي فلسطين أي ما حول المسجد الأقصى وذلك باتفاق الآراء.

     وقال تعالى في قصة سبأ: (وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياماً آمنين (سورة سبأ: 18. وفيها المسجد الأقصى أول قبلة للمسلمين، وثاني مسجد بُنِي لله في الأرض، وفيها ثالث المساجد مكانة في الإسلام. وهي أرض الإسراء والمعراج، وهي أرض الأنبياء عليهم السلام، وهي مهاجر نبي الله إبراهيم عليه السلام، وهي أرض المحشر والمنشر، وعقر دار الإسلام، والمرابط المحتسب فيها كالمجاهد في سبيل الله، وفيها الطائفة المنصورة الثابتة على الحق إلى يوم القيامة، وتتجلى فيها ثوابت المسلمين الشرعية، والتَّطبِيع مع العدو اعتراف بشرعية وجود والتفريط في فلسطين تفريط في هذه الثوابت، ومن يفرط فيها يعد مرتكبا لجريمة كبرى وخائناً لله ورسوله وللمسلمين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) الأنفال:27,

     والتَّطبِيع يعني الاستسلام للكفار وعلو شأنهم، وإضاعة للدين، وللأراضي الإسلامية، وإذا عرفنا ذلك فإنَّ التَّطبِيع مع اليهود محرمٌ شرعا، ولا يجوز لأحد كائنا من كان أن يعقده بتلك الصورة، وإذا وقع كذلك فإنَّه يقعُ صلحًا باطلًا. وهو يتضمن عدَّةَ منكراتٍ مُحرمةٍ، بل من هو كبائر الذنوب، وبعضها قد يصل للكفر، والعياذ بالله تعالى.

أدلة التحريم والمنع من الكتاب والسنة والإجماع وباعتبار المفاسد والمآل:

أولاً: الأدلة من الكتاب:

1- قال تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُون) التوبة:29. وهذا التَّطبِيع يُعطِّلُ هذه الآية. وقال تعالى: (وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا) النساء:75، وإذا كان الله قد أوجبَ القتالَ لإنقاذ المستضعفين فكيف نصالِحُهم صلحًا يُمَكِنَهم من المستضعفين من المسلمين في فلسطين، وهذا ممَّا يتضمنه التَّطبِيع.

2- قال تعالى: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) سورة الممتحنة:08، 09. والتَّطبِيع مع اليهود يعني وقف قتالهم وجهادهم، وهم يقاتلوننا في الدين، وقد أخرجوا ملايين المسلمين من أرضهم فلسطين، وما زالوا يخرجون من شعب فلسطين من ديارهم، ويمنعون عودتهم.(مصادرة حق اللاجئين وطرد غيرهم)

3- قال تعالى: (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) التوبة:12. فأمر بمقاتلة الناقض والطاعن في الدين، فكيف نعقدُ معهم ما يسمونه صلحًا في الوقت الذي يحرم عقده كما في الآيات السابقة.

4- لا يؤمن اليهود بالمعاهدات والمواثيق مع غيرهم ودينهم نبذها والضرب بها عرض الحائط. قال تعالى عنهم: (كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) المائدة:64. (أَو َكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) البقرة:100. وقوله سبحانه: )فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ (المائدة: 13، (الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُون (الأنفال: 56. وتقول توراتهم”: لا تصنعوا سلاما هكذا يقول الرب مع الأشرار”.

 5- إنَّ اليهود أشد الناس عداوة وكرهاً لهذه الأمة، قال تعالى عنهم: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا). المائدة:82. وقال تعالى عنهم: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) البقرة:120. قال مناحيم بيغن – رئيس وزراء العدو السابق- في كتابه (الثورة): “ينبغي عليكم أيها الإسرائيليون أنْ لا تلينوا أبداً عندما تقتلون أعداءكم، ينبغي أنْ لا تأخذَكُم بهم رحمةً، حتى نُدمِّرَ ما يُسمَّى بالثقافة العربية التي سَنبنِي على أنقاضِها حضارتَنَا”.

6- أثبت اليهود أنَّهم لا يستجيبون لمنطقِ الشجب والاستنكار أو المطالبة، وأنَّ ما اغتصبوه من الأمة لا يمكن أن يُردوا شيئًا منه إلاَّ بالقوة، لا بإقامة علاقاتِ سلامٍ وتطبيعٍ معهم، وتاريخهم كله قديما وحالياً ينطق بهذه الحقيقة الثابتة، والقرآن الكريم يُشير إليها بقوله تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) آل عمران:75.

الأدلّة العقلية على حرمة التَّطبِيع:

    إنَّ اليهود في فلسطين غرباء ودخلاء، قد جلبوا من أطراف وبلدان عدة، ولا علاقة لهم ولا لآبائهم وأجدادهم بأرض فلسطين، ولا علاقة لهم بأحد من الأنبياء عليهم السلام. ومعلوم أنَّ حكم أرض فلسطين ينطبق على حكم الأرض المفتوحة عنوةً أو صلحاً من أراضي المسلمين، وقد اتفق السلف من علماء الأمة الاسلامية على أنها تعتبر داخلة في دار الإسلام، وبالتالي لا يجب التنازل عنها، بل يجب الدفاع عنها والقتال دونها، يقول أستاذ الفقه الدكتور عثمان شبير: “وبناء على هذا الحكم الذي قرره الفقهاء فإن أرض فلسطين التي فتح بعضها عنوة وبعضها صلحاً قد دخلت في دار الإسلام منذ ذلك الفتح، وطبقت عليها أحكام الإسلام، وأمَّر عليها عمر بن الخطّاب يزيد بن أبي سفيان، وحافظ المسلمون على إسلاميتها، وبقوا يجبون من أهلها الخراج”.

    وهو يضاد مقاصد الجهاد الشرعي الثابت في الكتاب والسنة والإجماع. وهو صلح باطل لما فيه من الشروط الباطلة المضادة للإسلام، وقد جاء في حديث عائشة مرفوعا: (ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط).

   واعلم أنَّه لا يجوز الاحتجاجُ بقوله تعالى: (وإن جَنَحوا للسَّلْمِ فاجْنَحْ لَهَا) يقال للمحتجِّين أكملوا الآيات! تجدوا أن المخادع الخائن في العهد لا يُصالح، بل يُحرَّضُ المسلمون على قتاله، والله ناصرنا عليه وهو حسبنا: (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ – أي اليهود – فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِين) الآية، ثم قال بعدها: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ) الآيات. فكيف يُستدلُّ بأول الآيات ويتركُ آخرها؟. ويدلُّ على هذا المعنى مفهوم المخالفة في قوله تعالى في شأن المعاهدين: (فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)، فإنْ لم يستقيموا لنا كما هو حال اليهود الخائنين للمواثيق الناقضين للعهود، ثم كيف تكون مصالحتهم؟ مع أن القضية في حقيقتها تطبيع وليست صلحاً.

ثانياً: من السنة النبوية:

    لم يثبت أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم أو الخلفاء الراشدين صالحوا كفارا سيطروا على أرض إسلامية فصالحوهم على أن يأخذ المسلمون جزءا من هذه الأرض التي سيطَّر عليها الكفار ليقيموا عليها حكما علمانيا أو دينيا يهوديا؟.

    وهو يضاد الأحاديث الصحيحة التي تأمر بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، وبالصلح المزعوم اليوم أدخلوا اليهود والنصارى إلى جزيرة العرب. وقد جاءت عدة أحاديث، تدلُّ على هذا المعنى ومنها :

1- عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (لأخرجنَّ اليهود والنصارى من جزيرة العرب، حتى لا أدعُ إلا مُسلماً) أخرجه مسلم 2- عن أبي عبيدة بن الجرَّاح رضي الله عنه قال : آخرُ ما تكلَّم به النبيُّ صلى الله عليه وسلم: “أخرجوا يهودَ أهل الحجاز، وأهل نجران من جزيرة العرب، واعلموا أنَّ شرارَ النَّاسِ الذين اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجدَ”.([12]والمراد بجزيرة العرب في هذه الأحاديث: الجزيرة العربية كلها، التي يحيط بها البحر الأحمر والخليج العربي والمحيط الهندي ، وتنتهي شمالا إلى أطراف الشام والعراق .

 وهذه الاتفاقات التطبيعية مع العدو المحارب باطلةٌ لحديث: “من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد”، رواه الشيخان من حديث عائشة واللفظ لمسلم، وهذا الصلحَ المزعوم المذموم ليس عليه أمرُ الرسول صلى الله عليه وسلم بل هو مضادٌ له .

لماذا التَّطبِيعُ خيانةً وجريمةً كبرى:

   يعدُّ التَّطبِيعُ مع العدو اليهودي المحتل لأرضِ فلسطين المسلمة خيانةً وجريمةً كبرى لعدة أمورٍ، نذكرُ منها ما يلي:

أولاً: الاتفاقات تملك اليهود أرض الإسلام وتقر بشرعية وجود كيانهم فوق أرض مسلمة:

    التطبيع فيه الاعتراف والإقرار الصريح بملكية اليهود لأرض فلسطين الإسلامية المباركة والمقدسة من الله تعالى، وهذا يؤكد مقولات اليهود التوراتية، ويدمر ملكية المسلمين لفلسطين، وهذا من أعظم الخيانات لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وخيانة للأمة المسلمة، وفرقٌ كبيرٌ بين تركِ قتالهم والهدنة معهم، لوجود الضعف للإعداد لهم، وبين الاعتراف بهم، وإقرارِ مشروعية وجودهم على أراضٍ إسلاميةٍ، فالأوَّلُ جائزٌ بالإجماع، والثاني محرمٌ بالإجماع. وقد أفتى جمع من العلماءِ في منتصف القرن الرابع عشر بأنَّ بيع شيء من أراضي فلسطين خيانة لله ولرسوله وللإسلام، فكيف بمن يبيع فلسطين كلها؟. بل ويزيد على البيع: حماية الحدود للكيان المصطنع، والتعهد بترك قتاله، واعتبار من يقاتله إرهابياً خارجاً على دولة شرعية، ويعمل على تقوية اقتصاده، ويدعو إلى تطبيع العلاقات معه؟!. كما هو خيانة للشهداء وآلاف المعتقلين وملايين اللاجئين المشردين، إذا بيننا وبين العدو الصهيوني الجاثم على أرضنا وشعبنا قوافل من الشهداء، وأنهارا من الدماء، وآلافا من السجناء، وملايين اللاجئين المشردين في الأرض، وهي كلها تستنطق ضمائرنا بأن التطبيع مع العدو خيانة وجريمة.

ومن هذه الفتاوى: 1– فتوى علماء وقضاة وخطباء فلسطين الذي انعقد في القدس عام 1355هـ الموافق 1935م، وأصدروا فتوى بحرمة بيع الأراضي الفلسطينية على اليهود، لأنه يحقق المقاصد الصهيونية في تهويد أرض فلسطين، وأن من باع الأرض عالما بنتيجة ذلك راضيا به فهذا يستلزم الكفر والردة، وأشاروا إلى فتاوى علماء المسلمين في العراق ومصر والهند والمغرب وسوريا والأقطار الأخرى بأنها أيضا تحرم بيع الأرض في فلسطين لليهود، ثم ذكروا الأدلة في ذلك.

2- فتوى علماء الأزهر في إقامة الصلح والسلام مع اليهود والاعتراف بدولتهم عام 1956م: “إن الصلح مع إسرائيل لا يجوز شرعاً لما فيه من إقرار للغاصب على الاستمرار في غصب ما اغتصبه وتمكينه، والاعتراف بحقية يده على المعتدي من البقاء على عدوانه، فلا يجوز للمسلمين أن يصالحوا هؤلاء اليهود الذين اغتصبوا أرض فلسطين واعتدوا فيها على أهلها وعلى أموالهم، بل يجب على المسلمين أن يتعاونوا جميعاً على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وأجناسهم لرد هذه البلاد إلى أهلها، ومن قصر في ذلك أو فرط فيه، أو خذل المسلمين عن الجهاد أو دعا إلى ما من شأنه تفريق الكلمة وتشتيت الشمل والتمكين لدول الاستعمار من تنفيذ مخططهم ضد العرب والإسلام وضد فلسطين فهو في حكم الإسلام : مفارق جماعة المسلمين، ومقترف أعظم الآثام”.

3- وفتوى علماء المؤتمر الدولي الإسلامي المنعقد في باكستان عام1388هـ، 1968م.

4-  فتوى لجنة الفتوى في الأزهر الصادرة عام 1375هـ بتحريم التَّطبِيع مع اليهود.

5- أصدر مجموعة من العلماء عام1409هـ، 1989م، بلغ عددهم (63) عالما من ثماني عشرة دولة فتوى بتحريم التنازل عن أي جزء من فلسطين.

6- أصدر مجموعة كبيرة جدا من علماء اليمن فتوى في تحريم التَّطبِيع مع اليهود.

7- وفتوى مؤتمر علماء فلسطين المنعقد في 1412هـ أفتوا بحرمة المشاركة في مؤتمر مدريد وأفتوا أيضا بحرمة التَّطبِيع مع اليهود ثم ذكروا الأدلة الشرعية في ذلك.

ثانياً: الاتفاقات التطبيعية تلغي الجهاد في سبيل الله:

   هذه الاتفاقيات تتضمن اشتراط السلام الدائم، والاحترام المتبادل، وترك القتال إلى الأبد، ولا شك أن هذا يؤدي إلى إلغاء لشريعة الجهاد في سبيل الله، بل وزادوا على ذلك المعاقبة عليه، وتسمية أهله بالإرهابيين!. وإبطال شريعة الجهاد مطلقاً، والسعي إلى إلغائه كفر كما بيَّنه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في الطائفة الممتنعة عن شيء من شرائع الإسلام الظاهرة – ومنها الجهاد في سبيل الله -.([13])

   ومعلوم أنَّ الجهاد ذروة سنام الإسلام، شرعه الله سبحانه في كتابه، وحث عليه النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة، وجاهد بنفسه، وجاهد الصحابة وأئمة الدين من بعده، فلا يبطله حكم حاكم، ولا عقد جائر.

ثالثاً: الاتفاقات فيها تولٍ لأعداء الله ومظاهرة لهم على المجاهدين:

  من أهم قواعد الدين ومقتضى شهادة التوحيد: موالاة الإسلام وأهله، ومحبتهم، والبراءة من الكفر وأهله، ومعاداتهم، كما قال تعالى (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ).

   وفي هذه الاتفاقات التعاون بين الطرفين في مجال مكافحة الجريمة، ومن الجرائم الجهاد ضد اليهود؛ لأن دولة اليهود أصبحت – بهذه الاتفاقات- دولة شرعية معترفاً بها، فيصبح من يجاهدها من الإرهابيين، لذلك يتعاون جميع المتفقين في هذه المعاهدات على ضرب هؤلاء، والاتفاق على مثل هذا الأمر من نواقض الإسلامكما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) المائدة:51.

رابعاً: هذه الاتفاقيات فيها تسليط لليهود على المسلمين:

   حيث ستفتح هذه الاتفاقات بلاد المسلمين لليهود ليدخلوها، فوضعت لهم السفارات، ورفعت رايتهم اليهودية، واستقبلت وفودهم السياسية والاقتصادية والثقافية والإعلامية والسياحية وغيرها، ومكّنوا من ديار الإسلام، وصارت لهم حصانة، وهذا فيه من البلاء العظيم ما يعرفه كل من يعرف اليهود وخبثهم، وقد ركَّز اتفاق التطبيع بين دولة الكيان الصهيوني والإمارات بالإضافة إلى أمريكا على توسيع التعاون والأمني. والنظرة المماثلة بينهم فيما يتعلق بالتهديدات، والالتزام المشترك بتعزيز الاستقرار من خلال المشاركة الدبلوماسية، والتنسيق الأمني ​​الوثيق” .وهذا يعني محاربة المقاومة الفلسطينية وتبادل المعلومات عنها، لتصبح من مهام أجهزة أمن دولة الإمارات جمع المعلومات الأمنية وتبادلها مع الكيان اليهودي الجاثم على أرض فلسطين.

خامسا: أَنَّ دولة الخلافة الراشدة القادمة ستكون في آخر الزمان بِبيت المقدس:

    إن دولة الخلافة الراشدة القادمة ستكون في آخر الزمان بِبيت المقدس، فالتَّطبِيع العدو المحتل لبيت المقدس يضاد قيامها، قال شيخ الإسلام بن تيمية: “وَقَدْ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَمَا رُوِيَ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ مَعَ مَا عُلِمَ بِالْحِسِّ وَالْعَقْلِ وَكُشُوفَاتِ الْعَارِفِينَ: أَنَّ الْخَلْقَ وَالْأَمْرَ ابْتَدَآ مِنْ مَكَّةَ أُمِّ الْقُرَى فَهِيَ أُمُّ الْخَلْقِ وَفِيهَا ابتدأت الرِّسَالَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ الَّتِي طَبَقَ نُورُهَا الْأَرْضَ وَهِيَ جَعَلَهَا اللَّهُ قِيَامًا لِلنَّاسِ: إلَيْهَا يُصَلُّونَ وَيَحُجُّونَ وَيَقُومُ بِهَا مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ مَصَالِحِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ. فَكَانَ الْإِسْلَامُ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ ظُهُورُهُ بِالْحِجَازِ أَعْظَمَ وَدَلَّتْ الدَّلَائِلُ الْمَذْكُورَةُ عَلَى أَنَّ مُلْكَ النُّبُوَّةِ ” بِالشَّامِ وَالْحَشْرَ إلَيْهَا. فَإِلَى بَيْت الْمَقْدِسِ وَمَا حَوْلَهُ يَعُودُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ. وَهُنَاكَ يُحْشَرُ الْخَلْقُ. وَالْإِسْلَامُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَكُونُ أَظْهَرَ بِالشَّامِ. وَكَمَا أَنَّ مَكَّةَ أَفْضَلُ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَأَوَّلُ الْأُمَّةِ خَيْرٌ مِنْ آخِرِهَا. وَكَمَا أَنَّهُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَعُودُ الْأَمْرُ إلَى الشَّامِ كَمَا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى..”.([14])

الفرق بين صلح النبي صلى الله عليه وسلم مع الكفار والتَّطبِيع مع الكيان اليهودي المحتل:

– معنى الصلح الشرعي المجمع عليه:([15])

الصلح الجائز مع الكفار هو إذا ما دعت المصلحة على وضع الحرب مدة معلومة إن كان عقدا لازمًا، أو مدةً مطلقةً إنْ كان عقدًا جائزًا ممكن الفسخ وقت الحاجة، هذا هو حدودُ الصلح الشرعي بالإجماع، أمَّا المصالحة المتضمنة تنازلات عقدية وإلغاء لأحكام شرعية فهذا صلح باطلٌ شرعُا بالإجماع ولا يجوز، وليس هو صلحًا مسموحًا بهِ شرعًا، بل حقيقته استسلام ونكوص عن الشريعة، وتخل عن بعض أحكامها وشرائعها، وهذا لم يحصل من الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن اعتقد أنَّ ذلك حدث من الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كافر مرتد.

    ثمَّ لابد من طرح السؤال التالي: هل صالح النبي صلى الله عليه وسلم الكفار على عدم تعرضه لديانة الكفار وآلهتهم، وإذا كان لم يقبل ذلك منهم والدعوة في بدايتها في مكة (كما صحَّ ذلك في السيرة) لما عرضت عليه قريش أن يترك سب دينها وآلهتها مقابل أن يعطوه السيادة أو الملك أو المال ومع ذلك لم يقبل وهو في أمس الحاجة لمهادنتهم ، فكيف يقبل ذلك وهو في دولة ذات شوكة وقوة!. وهل صالحهم على أن لهم حق حكم المسلمين المستضعفين في مكة بشريعة الكفار، أو أن تبقى زمام الكعبة بأيديهم كيف شاءوا، ولو كانت قريش تخطط لقتل المسلمين هل كان يصالحهم؟ وهو الذي بايع الصحابة في الحديبية تحت الشجرة لما قيل إن عثمان رضي الله عنه قُتل ، فأصبح القتل مانعا من المصالحة . ولو كانت قريش تنتهك أعراض المسلمين، وتخطط لهدم الكعبة وبناء أصنام العزى وهبل ومناة الثالثة الأخرى هل كان يصالحهم؟ .

     وهل يصحُّ صلح يمكّن اليهود من المقام في جزيرة العرب باسم السياحة أو إدارة اقتصادهم وأموالهم وشركاتهم وتمكينهم من إقامة معابد لهم؟. إنَّ من تأمل الإجابة على هذه الأسئلة يدرك بعين البصيرة شناعة ما يُسمى بالصلح والتَّطبِيع مع اليهود ومضادته المضادة الصريحة للإسلام.

– ويقال أيضا: إنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قاتل قريشا قتال طلب فقد ذهب إليهم في أرضهم ثم صالحهم، فصلحه معهم في حكم جهاد الطلب فهو صلح طلب، بخلاف قتال اليهود اليوم فهو جهاد دفع، وأحكام جهاد وصلح الطلب يختلف عن جهاد وصلح الدفع فكيف يُقاس هذا على هذا؟. ونناقشهم أيضا ونقول هاتوا دليلا على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أو الخلفاء الراشدين صالحوا كفارا على التنازل لهم عن أرض إسلامية؟.

 وهاتوا دليلا: على أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم أو الخلفاء الراشدين صالحوا كفارا سيطروا على أرض إسلامية فصالحوهم على أن يأخذ المسلمون جزءا من هذه الأرض التي سيطر عليها الكفار ليقيموا عليها حكما علمانيا ديمقراطيا لا دينيا؟.

– ويقال لهم هل: تجوز المصالحة بهدف إقناع الشعب اليهودي أن العرب لا يرفضونهم ولا يكرهونهم كما جاء في حيثيات إحدى المبادرات. وهل: هدف المصالحة الإثبات لليهود أنَّنا نُحبُّهم، أليس هذا يصادم القرآن والسنة والإجماع لأنَّه صلحٌ وتطبيعٌ يريد إزالة العداوة والبغضاء بين المسلمين واليهود، وهذا مضاد لعقيدة الولاء والبراء في الإسلام كما بينَّا سابقًا.

– ثمَّ ما حكمُ الصُّلح لو كان ركونًا للدنيا وكراهيةً لجهاد الدفع ؟ وما حكم الصلح لو كان ينتج عنه دولة علمانية لا دينية في الأراضي التي سوف ينسحب منها يهود إن صدقوا في الانسحاب؟ وهل من المناسب أن يُفرض التَّطبِيع الآن بعد أن اشتد رعبهم وهلعهم وبعد أن قويت شوكة المجاهدين وفقهم الله في فلسطين؟ وما حكم الصلح إذا كان فيه شروط باطلة تخالف أصول العقيدة. ثم يقولون إن الضرورة أباحت الصلح! فنقول وهل تبيح الضرورة الكفر والشرك المتعدي وهل تبيح إلغاء أصول الشريعة.

     وإنَّ الاستِدلالَ بتَعامُلِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مع يهود، على جوازِ التطبيعِ؛ لا يَصِحُّ لأوجُهٍ عَديدةٍ: منها([16]):

1- أنَّ اليهودَ في العَهدِ النَّبويِّ لم يكونوا محتَلِّينَ لبلادِ المُسلِمينَ، وإنَّما مُعاهَدونَ، سواءٌ كان ذلك بصُلحٍ مُؤقَّتٍ ينتهي بانتهاءِ وَقتِه، أو صُلحٍ مُطلَقٍ ينتهي متى أرادَ المُسلِمونَ إنهاءَه بشَرطِ إعلامِ المُصالَحينَ بذلك، وإمَّا أنَّهم صاروا رعايا مِن رعايا الدَّولةِ الإسلاميَّةِ بدُخولِهم في عَقدِ الذمَّة، كما في صُلحِ أهلِ نَجرانَ، وقِصَّةِ خَيبر، فمنها ما فُتِحَ عَنوةً بالقُوَّةِ العَسكريَّة، ومنها ما فُتِحَ صُلحًا، وعُلِّقَ فيه بقاؤُهم في خيبرِ بحاجةِ المُسلِمينَ؛ قال ابن عبد البرِّ: “أجمع العُلَماءُ من أهلِ الفِقهِ والأثَرِ وجماعةِ أهلِ السِّيَرِ على أنَّ خيبرَ كان بعضُها عَنوةً وبَعضُها صُلحًا”.([17])  وقال أبو العباس ابنُ تيميَّةَ عن أهلِ خيبرَ وفَتحِها: “فإنَّها فُتِحَت سنةَ سَبعٍ قبل نزولِ آية الجِزيةِ، وأقرَّهم فلَّاحينَ وهادَنَهم هُدنةً مُطلَقةً، قال فيها: “نُقِرُّكم ما أقَرَّكم اللهُ”.([18]) قال ابن القيم: “ولهذا أمَرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عند موتِه بإخراج اليهودِ والنَّصارى مِن جزيرةِ العَرَبِ، وأنفذ ذلك عُمَرُ رَضِيَ الله عنه في خلافتِه”.([19]) فاليهودُ الذين تعاملَ معهم النبيُّ صلَّى اللُه عليه وسلَّم لم يكونوا مُحارِبِين ولا مُحتَلِّينَ، بل كانوا مُسالِمينَ خاضعينَ للشروطِ الإسلاميَّة بالعهد، وقد قال اللهُ عزَّوجَلَّ: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) الممتحنة:8.

 2- إنَّ اليهود في المدينة في حالةِ ضَعفٍ لا يَقدِرونَ على نَشرِ ما يُريدونَ من ثقافةٍ وفِكرٍ، بعَكسِ واقِعِ اليهودِ اليومَ فهم محارِبونَ غيرُ مُسالِمينَ! وهم يَفرِضونَ رُؤاهم الفِكريَّةَ والثَّقافيَّةَ وقناعاتِهم الباطلةَ؛ لِيُسَلِّمَ لهم بها الآخَرونُ رَغمًا عنهم! وقد قال الله عزَّوجَلَّ: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الممتحنة:9.

3- إنَّ هناك فرق شاسع (الصُّلحُ) و(التَّطبيعُ): وببَيانِ مَدلولِ كُلٍّ منهما يظهَرُ الفَرقُ بينهما في الحُكمِ. فمُصطلح (الصُّلح) في كتُبِ الفِقهِ يُطلَقُ على مُعاهدةِ الكُفَّارِ، بما في ذلك عَقدُ الذِّمَّةِ الذي يَدخُلُ به غيرُ المُسلِمِ في رعايةِ الدَّولةِ الإسلاميَّةِ على الدَّوام، والغالِبُ استِعمالُ لَفظِ الصُّلحِ رديفًا لمصطَلَح (الهُدنة) عند عُلماء الإسلام، والهُدنة هي: المُعاقَدةُ بين إمامِ المسلمين أو مَن يُنيبُه، وبين أهلِ الحرب، على المسالَمة مُدَّةً مَعلومةً أو مُطلَقةً، ولو لم يدخُلْ أحَدٌ منهم تحتَ حكم دارِ الإسلام؛ فهي تعني المُسالَمةَ المؤقَّتةَ عند جميع الفُقَهاء، وتشمَلُ المسالَمةَ المُطلَقةَ غيرَ المُؤَبَّدةِ على رأيِ عددٍ مِن المحقِّقينَ مِن أهلِ العِلمِ، وهو الذي تَسندُه الأدلَّةُ الشرعيَّةُ، ومرادُهم بالمُطلَقةِ: التي لا يُصرَّحُ عند الاتفاقِ عليها بمدَّةٍ محدَّدةٍ، بل تبقى دونَ مدَّةٍ، ويكونُ العَقدُ فيها جائزًا، أي: إنَّ لكُلٍّ مِن الطَّرَفَينِ أن يُعلِنَ انسِحابَه منها بعد إشعارِ الطَّرَفِ الآخَرِ بمُدَّةٍ كافيةٍ؛ لأخذِ الحَذَرِ منه، فهي مُطلَقةٌ لا مُؤبَّدةٌ.([20]) بخلاف المؤقَّتة؛ فالعَقدُ فيها واجِبٌ، بمعنى أنَّه لا يجوزُ لأحَدِ الطَّرَفَينِ أن ينقُضَها قبل انتهاء المدَّةِ، ولو فعل ذلك أهلُ الكُفرِ، فإنَّ تصَرُّفَهم هذا يُعَدُّ نقضًا للعهدِ؛ ومِن ثَمَّ ينتهي تمتُّعُهم بآثار عَقدِ الهُدنة، ويتحَوَّلونَ مِن مُعاهَدينَ إلى مُحاربينَ، كما كانوا قبل الهُدنة؛ فالهُدنةُ والصُّلحُ عند الفُقَهاءِ في كتابِ الجهادِ شَيءٌ واحدٌ؛ ولذلك يُعَرِّفونَ أحَدَهما بالآخَرِ، فليس هناك صلحٌ دائِمٌ إلَّا مع الذِّمِّيينَ الذين هم في الحقيقةِ مِن رَعايا دولةِ الإسلامِ. أمَّا الصُّلحُ في القانونِ الدَّوليِّ، وفي اللُّغةِ السِّياسيَّةِ الدَّارجة، فالمرادُ به السَّلامُ الدَّائِمُ! فالقانونيُّونَ الدَّوليونَ يرَونَ أنَّ الهدنةَ مُدَّةٌ تَسبِقُ الصُّلحَ مهما طالت مُدَّتُها، كما هي الحالُ بين شَطرَي كوريا، فهما متهادِنانِ منذ تقسيمِها، وأمَّا الصلحُ عندهم فهو تسويةٌ نِهائيَّةٌ، أي: إيقافُ القِتالِ بصِفةٍ نِهائيةٍ دائِمةٍ.([21])

4- إنَّ معاهدات التطبيع تُعَدُّ مِن المُعاهَداتِ المحرَّمةِ بالإجماع، وشدَّد العُلَماءُ في إنكارِه؛ لأنَّه يؤدِّي إلى إبطالِ ما عُلِمَت شرعيَّتُه بالضَّرورةِ، وهو جِهادُ العَدُوِّ، بل غلَّظَ بعضُ الفُقَهاءِ في إنكارِه، حتى حكى بعضُهم رِدَّةَ مَن قال بمشروعيَّتِه!  ومع ذلك شذَّ بعضُ فُقَهاءِ العَصرِ- مِن الفُضَلاءِ- فأجازوا الصُّلحَ المؤبَّدَ، بتأويلاتٍ مَردودةٍ بالأدلَّةِ الشَّرعيَّة الواضحةِ، وقد ردَّ قَولَهم عددٌ مِن العُلَماءِ، وكشفوا ضَعفَ هذا الرأيِ المردودِ بالإجماعِ. فالصُّلحُ الدَّائمُ لا يجوزُ مع غيرِ المحتَلِّ بالإجماعِ، فكيف يجوزُ مع المحتَلِّ؟! ولهذا اتَّفق فُقَهاءُ العَصرِ الأجلَّاءُ على تحريمِ الصُّلحِ الدَّائمِ مع الكيانِ الصهيونيِّ اليهوديِّ، حتى مَن شذَّ في القَولِ بالصُّلحِ الدائِمِ حرَّم الصُّلحَ مع اليهودِ.([22]) وأمَّا التَّطبيعُ فيُرادُ به: الصُّلحُ الدَّائِمُ الذي يتِمُّ بمُقتَضاه الدُّخولُ في جملةٍ مِن الاتِّفاقاتِ مُتنوعةِ الجوانِبِ، بما في ذلك الجانِبُ الثَّقافيُّ، والاقتِصادي، والأمني، وغيرها، حتى غُيِّرَت مناهِجُ التعليمِ في بعضِ بلاد المُسلِمينَ وحُذِفَت نصوصٌ قُرآنيَّةٌ منها؛ رُضوخًا لمتطَلَّباتِ التَّطبيعِ!! فهو في التكييفِ الفِقهيِّ الشَّرعيِّ صُلحٌ مُؤبَّدٌ مُضافٌ إليه جملةٌ مِن الشروطِ التي يَحرُمُ قَبولُها في شريعة الإسلامِ .. فلا يقولُ بجوازِ التَّطبيعِ  شرعًا مَن عَرفَ حقيقتَه مِن عُلَماءِ الإسلامِ، ولا سيَّما أنَّ الكِيانَ اليهوديَّ لا يَقبَلُ بأقَلَّ مِن بقائِه على الدَّوامِ في قَلبِ العالَمِ الإسلاميِّ، بزَعمِ أنَّ الأرضَ لهم!.

 5- إنَّ آثارُ التطبيعِ على الحكوماتِ التي ارتضَته ظاهِرةٌ في انتهاكِ سيادتِها، والعَبَثِ بخَيراتها؛ ولذلك رفضَتْه الشُّعوبُ المُسلِمةُ، وكوَّنَت لأجلِ ذلك لجانًا وجَمعياتٍ كثيرةً.  ومن المؤسِفِ أنَّنا نرى التطبيعَ الإعلاميَّ في إعلامِ العَرَب والمُسلِمين يُسابِقُ التَّطبيعَ السياسيَّ! ومِن ذلك: كَثرةُ تَردادِ الأسماء والمُصطَلحات العِبريَّة، مثل: (حاجز إيريز) بدل مَعبَر بيت حانون، و(حائط المَبكَى) بدل حائط البُراق، و(إيلات) بدل أم الرَّشراش، و(أشكيلون) بدل عَسقلان، و(تل أبيب) بدل تل الربيع .. و(الأراضي الفلسطينيَّة) بدل فلسطين، وفيه الإقرارُ بأنَّ ما تبقَّى حَقٌّ ليهودَ! و(إسرائيل) للإشارةِ للكيان اليهوديِّ الصهيوني المحتَلِّ أو للأراضي المحتَلَّة عام 1948م، والإيحاء بأنَّ هذا الجزءَ المحتَلَّ صار حقًّا ليهود، لا يجوز حتى التفاوضُ عليه، بخلاف الأراضي المحتلَّة عام 1967م فما زالت تستَحِقُّ أن يُتفاوَضَ عليها!.([23])

6- إنَّ التطبيع بالنسبة لدولة اليهود “إسرائيل” لا يعني مجرد إقامة علاقات تجارية أو مفوضيات أو سفارات، وإنَّما يشمل مراجعة لمفاهيم الصراع ولفهم التاريخ والأسس الدينية.. الخ. أي يجب أن يكون عملية قلب جذرية للنظرة العربية والإسلامية تجاه دولة الكيان “إسرائيل” واليهود الذين هم أشدُّ الناس عداوةً للمسلمين، بحيث ينشأ عربي مسلم جديد، وبمفاهيم جديدة تنسف كلَّ ما سبق بخلفياته وحيثياته. وعليه  فالتطبيع يجب أن يكون منهاجًا حياتيًا جديدًا، ومبرمجًا بطريقةٍ مؤثرةٍ توجدُ قيمًا تربويةً وأخلاقيةً جديدةً متناسبةً مع المرحلة الجديدة، وتشكِّلُ أساس المستقبل المنشود وراء اتفاقيات التطبيع.

    وممَّا ينبغي التنَبُّهُ له أنَّ هناك من غَلِطَ على الشيخ العلَّامة عبد العزيز بن باز رحمه الله حين نَسَبَ إليه جوازَ الصُّلحِ مع أعداء الله اليهود بالمفهومِ العُرفيِّ الدَّوليِّ- الصلح المؤبَّد مع أنَّه رحمه الله قد أوضح ما عناه وبيَّنه بقَولِه: “الصلحُ بين وليِّ أمرِ المُسلِمينَ في فلسطين وبين اليهودِ لا يقتضي تمليكَ اليهودِ لِما تحت أيديهم تمليكًا أبدِيًّا، وإنَّما يقتضي ذلك تمليكَهم تمليكًا مُؤَقَّتًا حتى تنتهيَ الهُدنةُ المُؤقَّتةُ، أو يَقْوَى المُسلِمونَ على إبعادِهم عن ديار المُسلِمينَ بالقُوَّة في الهُدنة المُطلقَة، وهكذا يجِبُ قِتالُهم عند القدرةِ حتى يدخُلوا في الإسلامِ أو يُعطُوا الجِزيةَ عن يدٍ وهم صاغِرونَ.”([24]) فالصُّلحُ مع العدُوِّ على أساسِ تثبيتِ الاعتداءِ؛ باطِلٌ شَرعًا، بخلافِ الصُّلحِ على أساسِ رَدِّ ما اعتدى عليه العدوُّ إلى المسلمينَ. والخُلاصةُ: أنَّ الاستِدلالَ بتعامُلِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مع يهودَ، على مَشروعيَّةِ التَّطبيعِ مع الكِيانِ الصهيونيِّ- استِدلالٌ لا يستقيمُ، بلْهَ أن يَصِحَّ؛ لأنَّ اليهودَ في فلسطينَ مُحتلُّون محارِبونَ كما يشاهِدُ العالَمُ، لا يَرقُبونَ في صغيرٍ ولا كبيرٍ إلًّا ولا ذمَّةً، بخلافِ مَن كان يتعامَلُ معهم النبيُّ صلَّى اللُه عليه وسلَّم؛ فقد كانوا معاهَدينَ خاضعينَ لحُكمِ الإسلامِ، أو مُوفِينَ بعَهدِهم مع النبيِّ صلَّى اللُه عليه وسلَّم حينَها.



[1]– سفر القضاة بالعهد القديم: الاصحاح الثاني العدد:2.

[2]– رَوَاهُ الْبُخَارِيّ (6064)، وَمُسْلِم (2563).

[3]-جامع البيان في تأويل القرآن: بن جرير أبو جعفر الطبري، تحقيق أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420هـ- 2000م، 10/398.

[4]– المحلى:13/35.

[5]– مجموع الفتاوى: بن تيمية 7/17، وانظر الإيمان لابن تيمية ص14.

[6]– التفسير الكبير: فخر الدين الرازي، دار إحياء التراث العربي– بيروت- الطبعة الثالثة، 1420هـ،592/3.

[7]– صحيح سنن أبي داود: رقم4086.

[8]– أخرجه الحاكم وقال: صحيح الإسناد، وقال محمد ناصر الدين الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة، مكتبة المعارف- الرياض رقم 1020.

[9]– أخرجه الطبراني، والألباني في السلسلة الصحيحة: رقم 1020.

[10]– كلمة الحق: العلامة المحقق أحمد شاكر ص 126-137، تحت عنوان :”بيان إلى الأمة المصرية خاصة وإلى الأمة العربية والإسلامية عامة”.

[11]– التبيان شرح نواقض الإسلام: الشيخ سليمان العلوان ص 49.

[12]– رواه أحمد، وصحَّحه ابن عبد البر في “التمهيد”، ومحققو المسند، والألباني في “السلسلة الصحيحة”.

[13]– مجموع الفتاوى 28/503، 554.

[14]– مجموع الفتاوى: بن تيمية، تحقيق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، 1416هـ-1995م 27/37-38.

[15]– انظر بيان في حكم التطبيع مع اليهود: توقيع مجموعة من علماء المملكة العربية السعودية، وهم محمد بن فهد العلي الرشودي، علي بن خضير الخضير، حمد بن ريس الريس، صالح العبد الله الرشودي، أحمد بن صالح السناني، ناصر بن حمد الفهد، حمد بن عبد الله بن إبراهيم الحميدي، عبد الله بن عبد الرحمن آل سعد. موقع صيد الفوائد: http://www.saaid.net/fatwa/f20.htm.

[16]– مقال بعنوان “ما حكم الاستدلال بتعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع اليهود، على التطبيع؟” الدكتور سعد بن مطر العتيبي http://iswy.co/e259f

[17]– التمهيد، لابن عبد البر:645.

[18]– الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح :1/216-217.

[19]– أحكام أهل الذمة، لابن القيم: 2/478.

[20]– انظر: العقود، لابن تيمية: 219، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام:29/140، وأحكام أهل الذمة، لابن القيم: 2/476 وما بعدها.

[21]– انظر على سبيل المثال: القانون بين الأمم، لجيرهارد فان غلان:3/72.

[22]– انظر موسوعة الأسئلة الفلسطينية، إصدار مركز بيت المقدس للدراسات التوثيقية:220- 269، ففيها العديدُ من الفتاوى الجماعيَّة والفردية.

[23]– انظر للمزيد: مصطلحات يهودية احذروها- من إصدارات مركز بيت المقدس.

[24]– مجلة البحوث الإسلامية: العدد (48) ص 130-132.

(المصدر: موقع أ. د. صالح الرقب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى