بقلم د. سلطان العميري
كتبت تعليقا مختصرا عن التكفير بالانتساب , جاء فيه :”تكفير الأعيان بمجرد الانتساب إلى الطائفة المبتدعة ذات البدعة المكفرة من طوائف المسلمين خطأ مخالف للإجماع .
وذلك لأن التكفير بمجرد الانتساب يقوم على الظن والاحتمال ، فالمكفر ليس لديه يقين أو ما في حكمه بأن ذلك المعين وقع فيما هو فعل مكفر .
والتكفير بالظن والاحتمال محرم بإجماع العلماء .
ومثال التكفير بالانتساب : تكفير المعين بمجرد كونه من الرافضة أو الجهمية أو المعتزلة .
وهذا التقرير قد ترد عليه عدد من الإشكالات سأذكرها فيما بعد .
توضيح :
صورة المسألة : وجدت رجلا في السوق وقال لك أنا من الجهمية ، هل يصح لك أن تبادر إلى تكفير عينه بمجرد ذلك ؟ أم لا بد أن تتحقق من حاله هل يفعل شيئا من عقائدالجهمية أم لا ؟”
وسبب كتابة هذا التعليق أن هناك من أصل لهذا الخطأ , وأطلق بأن المعين يصح أن يكفر بمجرد الانتساب ما لم يعلن براءته من غير تفصيل ولا تفريق , فقال أحد المعاصرين في سياق كلامه عن الرافضة :”الانتماء إلى حزب أو طائفة ينتسب إليها الإنسان فله حكمها ما لم يتبرأ منها , وذلك لأن الاستدلال بالعلامة والحكم بما دلت عليه مقرر في الشرع والعقل”.
فكان القصد الأولي من ذلك التعليق بيان أن إطلاق التكفير بمجرد الانتساب مخالف لمسالك العلماء , وإثبات إطلاق التكفير بالانتساب والاعتماد على العلامة في باب تكفير الأعيان فيه خلط بين أبواب الشريعة ومسائلها .
وقد اختلف مواقف الإخوة الكرام من التعليق , فمنهم من وافق , ومنهم من خالف , ومنهم من فصل وفرق .
وقبل أن أذكر أصول الاعتراضات التي قدمها الإخوة على التعليق أود أن أنبه على تنبيهين :
التنبيه الأول : أن البحث ليس في حكم الإعذار بالجهل والتأويل بعد الوقوع في الفعل , وإنما البحث : هل وقع المسلم في الكفر أم لا , وهل مجرد الانتساب يستلزم الوقوع في الكفر أم لا ؟
وبناء عليه فكل الاعتراضات التي ذكرها الإخوة الكرام مما يتعلق بالعذر بالجهل والتأويل بعد الوقوع في الفعل لا أثر لها في البحث .
التنبيه الثاني : ذكر الطريقة الصحيحة للاعتراض على ما في ذلك التعليق , وهي تتحصل في أمرين :
الأمر الأول : إما أن ينازع في أن التكفير لا يشترط فيه اليقين أو ما قاربه , وإنما يصح أن يبنى على مجرد الظن والاحتمال والعلامة الظنية .
الأمر الثاني : إما أن يسلم بأن تكفير الأعيان يشترط فيه اليقين أو ما فيه حكمه ولكن ينازع في دلالة الانتساب عليه , فيقال : مجرد الانتساب يحقق اليقين أو ما قاربه في الدلالة على الوقوع في الكفر في كل الطوائف أو بعضها .
بهذين الطريقين يصح الاعتراض على ذلك التعليق , وإنما ذكرت ذلك تذكيرا لعدد من الإخوة الذين أوردوا اعتراضات عديدة لا علاقة لها بالموضوع ولا بأصله .
أصول الاعتراضات التي ذكرها الإخوة الكرام :
الاعتراض الأول : أن أئمة السلف كفروا الأعيان بمجرد الانتساب , فقالوا : الجهمية كفار والرافضة كفرا , ومنعوا من الصلاة خلفهم وغير ذلك , وكذلك ابن تيمية وغيره نص على كفر النصريية والإسماعلية والذروز ولم يفرقوا ولم يفصلوا .
وهذا الاعتراض غير صحيح ؛ لأن تلك الأحكام ليس فيها أن أئمة السلف كفروا بمجرد الانتساب , ولا يوجد دليل من كلامهم على أنه قصدوا ذلك .
فكلامهم ذلك له ثلاث احتمالات : الأول : أنهم كفروا بمجرد الانتساب , والثاني : أنهم كفروا بمجرد الوقوع المعين في المفكرات الموجودة عند تلك الطائفة , والثالث : أنهم كفروا بالوقوع في المكفرات الموجودة عند تلك الطائفة بعد قيام الحجة وإزالة الشبهة .
والذي يرجحه ابن تيمية , فإنه قرر أن أئمة السلف لم يكفروا أعيان تلك الطوائف إلا بعد قيام الحجة عليهم , حيث يقول :”إذا رأيت إماما قد غلظ على قائل مقالته أو كفره فيها فلا يعتبر هذا حكما عاما في كل من قالها إلا إذا حصل فيه الشرط الذي يستحق به التغليظ عليه والتكفير له”.
وهناك عدد من التقريرات التي تدل على ذلك , ومنها : أن البخاري نص على كفر الجهمية كما هو مشهور عنه , ومع ذلك قال :”وكل من لم يعرف الله بكلامه أنه غير مخلوق فإنه يعلم، ويرد جهله إلى الكتاب والسنة، فمن أبى بعد العلم به، كان معاندا” , فلم يكفر بمجرد القول فكيف يكفر بمجرد الانتساب؟! , وهناك تقريرات عديدة لأبي عبيد القاسم بن سلام وابن المديني والإمام أحمد وابن أبي عاصم وعون الخزاعي وغيرهم على هذا المعنى .
وأما ابن تيمية فليس له نص صريح بأن مجرد الانتساب إلى النصيرية والدروز هو الموجب للكفر , وكلامه كان متوجها إلى كان منهم حقيقة , وأما من انتسب إليهم من غير معرفة بحالهم ولا وقوعا فيما عندهم من كفر فليس في كلام ابن تيمية ما يدل على كفر عينه .
ثم إن ابن تيمية له كلام آخر لا بد من اعتباره واستحضاره , ومن ذلك قوله :”والإمامية الاثنا عشرية خير منهم بكثير، فإن الإمامية مع فرط جهلهم وضلالهم فيهم خلق مسلمون باطنا وظاهرا ليسوا زنادقة منافقين، لكنهم جهلوا وضلوا واتبعوا أهواءهم، وأما أولئك فأئمتهم الكبار العارفون بحقيقة دعوتهم الباطنية زنادقة منافقون ، وأما عوامهم الذين لم يعرفوا باطن أمرهم فقد يكونون مسلمين” , فلم يجهل مجرد انتسابهم موجبا للكفر , وإلا لما تردد في هذا النص .
وقال :”وأما الشيوخ فليس لهم شفاعة كشفاعته ، والرجل الصالح قد يشفعه الله فيمن يشاء ، ولا شفاعة إلا في أهل الإيمان. وأما المنتسبون إلى الشيخ يونس-كان أتباعه يزعمون أنه يخلصهم يوم القيامة : فكثير منهم كافر بالله ورسوله لا يقرون بوجوب الصلاة الخمس وصيام شهر رمضان وحج البيت العتيق ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله؛ بل لهم من الكلام في سب الله ورسوله والقرآن والإسلام: ما يعرفه من عرفهم , وأما من كان فيهم من عامتهم – لا يعرف أسرارهم وحقائقهم – فهذا يكون معه إسلام عامة المسلمين الذي استفاده من سائر المسلمين لا منهم”.
فابن تيمية هنا لم يكفر بعض أتباع يونس بمجرد انتسابه إلى تلك الطائفة الكفرية , وحالهم لا يختلف عن حال النصيرية والدروز , وبنى قوله على أنهم لا يدرون ما عندهم من المكفرات , ولم يقعوا فيها , وهذا يدل على أن مجرد الانتساب ليس دليلا كافيا على وقوع المعين فيما عند الطائفة من كفر .
ولا يصح أن تغفل هذه التقريرات ويصور ابن تيمية وكأنه ليس له إلا تقرير واحد في هذه الطوائف , مع أنه ليس ظاهرا في تعلقه بالانتساب .
ثم على القول بأن كلام ابن تيمية وغيره يدل على تكفير النصيرية والدروز بمجرد الانتساب , فإن ذلك ليس مسوغا لإطلاق القول بأن مجرد الانتساب كاف في تكفير الأعيان في كل الطوائف كما يذهب إليه عدد من المعاصرين , وهذا هو محل الإشكال والدافع الأول لكتابة التعليق .
الاعتراض الثاني : أن هذا التقرير يلزم منه عدم تكفير أعيان اليهود والنصارى , لأنهم قد ينتسبون ولا يلزمون .
وهذا الاعتراض غير صحيح ؛ لأن البحث ليس في من لا ينتسب إلى الإسلام ولم يتخذه دينا كاليهود والنصارى , فكل من لم يتخذ الإسلام دينا فهو كافر , سواء انتسب إلى دين آخر أو لم ينتسب , فأحكام الإسلام لا ينظر في إعطائها لأحد إلا إذا انتسب إليه واتخذه دينا , مع البحث في حقيقة حاله وما يحتف به من أحوال .
الاعتراض الثالث : أن هذا التقرير مخالف لعمل الصحابة , فإنه كفروا أعيان قبيلة بني حنيفة المرتدة من غيرة تفريق بين المنتسب وغير المنتسب .
وعند التأمل في هذا الاعتراض يظهر بأنه ليس مشكلا عن أصل التقرير ؛ لأمرين :
الأول : أن بني حنيفة ليسوا طائفة منتسبة إلى الإسلام وقعت فيما هو كفر , وإنما هي طائفة أعلنت خروجها من الإسلام جملة , فالنظر فيها يختلف عن موضوع بحثنا , وهو النظر في الطائفة المنتسبة إلى الإسلام وتلبست بعدد من المكفرات .
الأمر الثاني : أن بني حنيفة لم يحصل منهم انتساب فقط , وإنما حصل منهم انتساب وقتال , فحالتهم حالة مركبة , وليس حالة مجردة في الانتساب فقط , وبحثنا في حالة الانتساب المجرد وليس في حالة الانتساب المركب مع القتال .
فبناء على هذين الأمرين يضعف جدا الاعتراض بها المعنى على أصل التعليق .
الاعتراض الرابع : أن هذا التقرير يلزم منه عدم تكفير أعيان الطوائف الباطنية كالنصرية والدروز والإسماعيلية .
قيل القاعدة في ذلك : أن الطائفة التي اتخذت الإسلام دينا , فإنه لا يكفر أعيان المنتسبين إليها بمجرد الانتساب ؛ لأنه قد ينتسب إليها اسما لا اعتقادا ودينا , وهذا له شواهد في عدد من الطوائفلا , وقد يخرج عن هذا الأصل بقرائن وشواهد خاصة
إلا أن يقال إن تلك الطوائف لا يرون أنهم مسلمون ولا يرون أن الإسلام دينا لهم , وهذا الأمر ذكره عنهم عدد من الدارسين والمعاشرين لهم , فإذا الأمر كذلك فله بحث آخر .
فإن قيل : فلماذا انتقدت الشيح المغامسي إذن حين تحدث عن الإسماعيلية .
قيل : الشيخ المغامسي يتحدث عن مسألة اخرى , وهي أن ما عند الإسماعيلية يمكن أن يعذر فيه بالجهل والتأويل , وهي مسالة أخرى مختلفة عن مسألتنا , وأيضا الشيخ المغامسي وقع في عدة أغلاط أخرى .
الاعتراض الخامس : أن إطلاق عدم التكفير بالانتساب غير صحيح ؛ لأنه قد يكفر بعض الأعيان بمجرد الانتساب كالعلماء والعارفين بحقيقة المذهب .
ويقال في الجواب على هذا الاعتراض : نعم قد يكفر العلماء والعارفين بالمذهب , ولكن تكفير ليس قائما على مجرد الانتساب , وإنما هو قائم على كونهم علماء وعارفين بالمذهب , فخرجنا عن صورة المسألة .
الاعتراض السادس : أن الانتساب إلى الطائفة ذات البدعة المكفرة أصل قوي يدل على أن المعين وقع فيما هو كفر .
ويقال في الجواب على هذا الاعتراض : لا شك الانتساب على درجات وليس على درجة واحدة , ولا شك أن الانتساب يدل على قدر من العلم لا بد من اعتباره , ويجب ان يؤخذ به إذا لم يوجد ما يعارضه .
ولكن المسلم الجاهل الذي يلتزم بقدر من شعائر الإسلام , ومع ذلك ينتسب إلى طائفة ذات بدعة كفرية تعارض عندنا فيه أصلان : الأول : شواهد توجب وصف الإسلام له , والثاني : وشاهد يوجب وقوعه في المكفر , ولا شك أن الشواهد التي توجب وصف الإسلام له أقوى في الدلالة , فيجب أن يقدم .
الاعتراض السابع : أن البدع المكفرة أنواع , بعضها لا يعذر فيه بالجهل ولا بالتأويل , وبعضها يعذر فيها بذلك , فلا يصح التسوية بين الطوائف .
قيل هذا الاعتراض خارج عن محل البحث , فالتكفير بالانتساب لا علاقة له بمانع الجهل والتأويل , وإنما هو متعلق بمسألة أخرى , هي : هل وقع المسلم المعين في الكفر أم لا ؟ وهل مجرد انتسابه إلى الطائفة يستلزم وقوعه في الكفر أم لا ؟ ثم بعد ذلك نبحث في هل وقع مع الجهل والتأويل أم لا ؟
فهما مسألتان مختلفتان , الأولى : هل وقع المعين في الكفر أم لا , والثانية : هل يعذر المعين بالجهل والتأويل أم لا , وبحثنا في المسألة الأولى وليست في الثانية .
(المصدر: صفحة د. سلطان العميري على الفيسبوك)