أولا: تحريم الإجهاض: وهو إسقاط الجنين عن عمد قبل تمام الحمل بقصد التخلص منه ، وقد حرَّمه الإسلام وشدَّد بتحريمه ، ما لم تدع حاجة طبية معتبرة إليه ، كأن يشكل استمرار الحمل خطراً على حياة الحامل فعندئذ يجوز إسقاطه ، فإن الحفاظ على حياتها مقدَّم على حياة جنينها ، لأن حياتها محققة أما حياته فمحتملة ، ومن المعلوم أن الإجهاض في الجاهلية قبل الإسلام لم يكن شائعاً كما هو شائع اليوم ، وإنما كان عندهم في أيام الجاهلية عادة قتل الأولاد الصغار بعد ولادتهم ، وهو ما يعرف باسم “الوَأد” الذي ورد ذكره في قوله تعالى : ((وإذا المَوْءودةُ سُئِلَتْ . بأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ)) سورة التكوير 8 ـ 9 ، وقد كانوا يئدون أولادهم خشية الفقر ، ويئدون بناتهم خشية السَّبي والفضيحة ، فلما جاء الإسلام حرَّم هذه العادة الجاهليَّة واعتبر قتل الأولاد من الكبائر ، فقال تعالى : ((ولا تقتلوا أولادَكُمْ خشيةَ إملاقٍ ، نحنُ نرزقُهم وإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كان خِطْأً كبيراً)) سورة الإسراء 31 ، وهكذا اختفت عادةُ الوأد من المجتمع الإسلاميِّ الأول ، ثم عادت في العصور المتأخِّرة بصورة الإجهاض غير المشروع بعد أن ضَعُفَ وازعُ الدِّين في القلوب ، وأصبحت وسائل الإجهاض ميسورةً بين أيدي الناس ، ولهذا أطلق بعض العلماء المعاصرين على الإجهاض غير المشروع اسم “الوأد الأصغر” تشبيهاً له بالوأد أيام الجاهلية ، ونظراً لما ينطوي عليه الإجهاض المتعمَّد من أخطار عديدة على الأم والجنين ، ولأنَّ الجنينَ يعدُّ حياً من بداية الحمل ، وحياته محترمة في كافَّة أطوارها وبخاصة بعد نفخ الروح (نهاية الأربعين يوم الأولى من حياة الجنين ، أو نهاية الشهر الرابع ، على قولين للفقهاء) فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى حُرمة الإجهاض المتعمد إلا لعذر شرعيِّ ، سواء قبل نفخ الروح في الجنين أو بعدها ، كما جاء في الفتوى (رقم 140) الصادرة بتاريخ 20/6/1407هـ عن هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية ، وفيها :
(( لا يجوز إسقاطُ الحملِ في مختلف مراحله إلا لمبرِّر شرعيٍّ ، وفي حدود ضيقة جداً:
(1) إن كان الحمل في الطَّور الأول ، وهي مدة الأربعين ، وكان في إسقاطه مصلحةٌ شرعيةٌ ، أو دفعُ ضرر متوقَّعٍ ، جازَ إسقاطُهُ ، أما إسقاطه في هذه المدة خشيةَ المشقَّة في تربية أولادٍ أو خوفاً من العجز عن تكاليف معيشتهم أو تعليمهم ، أو من أجل مستقبلهم ، أو اكتفاءً بما لدى الزوجين من أولادٍ ، فغير جائز .
(2) لا يجوز إسقاطُ الحملِ إن كان علقةً أو مضغةً إلا إذا قرِرَّت لجنةٌ طبيةٌ ثقةٌ أنَّ استمراره خطرٌ على سلامة أمِّه بأنْ يُخشى عليها الهلاكُ من استمراره جازَ إسقاطُهُ بعد استنفاد كافة الوسائل لتلافي تلك الأخطار .
(3) بعد الطور الثالث ، وبعد إكمال أربعة أشهرٍ للحمل ، لا يَحلُّ إسقاطُهُ حتى يُقَرِّر جمعٌ من المختصين الثقات أنَّ بقاء الجنين في بطن أمه يسبِّب موتَها ، وذلك بعد استنفاد كافة الوسائل لإنقاذ حياته )) [1] .
وقد اشترط الفقهاء للإجهاض الطبي المشروع ثلاثة شروط ، هي:
(1) موافقة الزوجين: لأن لهما حقوقاً وواجبات تتعلق بالإجهاض ، ولأن الإذن الطبي أساسٌ في عقد الإجارة بين الطبيب والمريض ، ولهذا يشترط قبل الشروع بالإجهاض أخذ ( الموافقة الخطية ) بإجراء الإجهاض من الحامل ومن زوجها أو وليّ أمرها ، وإثبات ذلك في ملفها الطبي ، وإذا رفضت الإجهاض وجب الامتثال لرغبتها ، وإثبات ذلك في ملفِّها الطبي كذلك وأخذ توقيعها وتوقيع زوجها أو وليِّ أمرها بالرفض بعد إعلامهم بخطورة استمرار الحمل .
(2) عدم تعريض الحامل لخطر أشدّ: عملاً بقاعدة ( اتقاء أشد الضَرَرَيْن بارتكاب أخفِّهما ضَرَراً ) فإذا كان خطر الحمل أكبر من خطر الإجهاض جاز الإجهاض .
(3) شهادة طبيبين عَدْلَيْن: يتفقان على ضرورة الإجهاض ، وأنه لا يترتب على الحامل خطر أشدّ من خطر الإجهاض .
ثانيا: تحريم قطع الذرية: أو التعقيم ،وهو قطع الذرية بصورة نهائية لا رجعة فيها ، ويجرى بطرق جراحية عديدة ، ومن المعلوم أن قطع الذرية في الجاهلية قبل الإسلام كان يجرى بإخصاء الرجال ، فلما جاء الإسلام نهى عنه وحرَّمه ، كما ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه ، قال: ((كُنَّا نغزو مع النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – ليسَ لنا نساءٌ ، فقلنا : يا رسول الله ألا نستخصي ؟ فنهانا عن ذلك)) [2]، والحكمة من النهي عن قطع الذرية أو التعقيم واضحة جليَّة ، فهو يقطع النسل ، ويُشوِّه الخِلقة ، ويُضعف الدافع الجنسي ، ويولد آثاراً نفسية مدمِّرة بسبب الإحساس بالعقم ، والشعور بالنقص ، ولكن إذا دعت ضرورة طبيَّة معتبَرة شرعاً للتعقيم جاز ، مثل إصابة خصية الرجل أو مبيض المرأة بورم خبيث أو نحوه مما يخشى معه الهلاك فعندئذ يجوز استئصال العضو المصاب وإن أدى إلى العقم .
ومن طرائق قطع الذرية كذلك تحديد النسل (Family Limitation) وهو توقف الزوجين عن الإنجاب نهائياً بوسيلة غير جراحية ، مثل حبوب منع الحمل ونحوها ، وبهذا يختلف عن التعقيم الذي يجرى بالجراحة ، ويلجأ الزوجان إلى تحديد النسل غالباً اكتفاء بما رزقا به من أولاد بحجة الوفاء بأعباء معيشتهم وتربيتهم ، أما تنظيم النسل (Family Planning) فهو يعني توقف الزوجين عن الإنجاب لفترة محدودة من الزمن ، ثم العودة إلى الإنجاب من جديد ، ويلجأ الزوجان عادة إلى تنظيم النسل رغبة في المباعدة بين الولادات وإتاحة الفرصة لتربية الولد حتى يبلغ عمراً معقولاً تقل فيه حاجته للرعاية ، ولتنظيم النسل وسائل عديدة من أشهرها حبوب منع الحمل (Contraception) واللولب (Loop) الذي يوضع في رحم المرأة فيمنع الحمل ، وقد لجأت بعض الدول التي تعاني من كثرة السكان ( الصين ، الهند ) إلى تحديد النسل وجعلته سياسة عامة في البلاد ، فأصدرت قوانين صارمة تحظر إنجاب أكثر من ولد واحد لكل أسرة ، فكان لهذه السياسة آثار اجتماعية سيئة على المجتمع ، منها قتل الولد بمجرد ولادته إذا كان من الجنس غير المرغوب (البنات غالباً) ، ومنها لجوء الأمهات الحوامل إلى الإجهاض بوسائل بدائية خارج المستشفيات ، بعيداً عن أعين القانون ، مما يسفر كل عام عن مقتل مئات الآلاف من الأمهات ، وقد صدرت خلال السنوات القليلة الماضية فتاوى عديدة اتفقت على حرمة التعقيم ، وحرمة تحديد النسل إذا كان سياسة عامة في المجتمع ، وأباحت تنظيم النسل بشروط ، ومن ذلك مثلاً (القرار 1) الصادر عن المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي في دورته الثالثة المنعقدة عام 1400هـ ، الذي جاء فيه :
( لا يجوز تحديد النسل مطلقاً ، ولا يجوز منع الحمل إذا كان القصد من ذلك خشية الإملاق ، لأن الله تعالى هو الرزاق ذو القوة المتين ، وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ، أو كان ذلك لأسباب أخرى غير معتبرة شرعاً ، أما تعاطي أسباب منع الحمل ، أو تأخيره في حالات فردية ، لضرر محقق ، مثل كون المرأة لا تلد ولادة عادية ، وتضطر معها إلى إجراء عملية جراحية لإخراج الجنين ، فإنه لا مانع من ذلك شرعاً ، وهكذا إذا كان تأخيره لأسباب أخرى شرعية أو صحية يقررها طبيب مسلم ثقة ، بل يتعين منع الحمل في حالة ثبوت الضرر المحقق على أمه ، إذا كان يخشى على حياتها منه بتقرير من يوثق به من الأطباء المسلمين . أما الدعوة إلى تحديد النسل ، أو منع الحمل بصفة عامة ، فلا تجوز شرعاً ، للأسباب المتقدم ذكرها ، وأشد من ذلك في الإثم والمنع إلزام الشعوب بذلك ، وفرضه عليها ، في الوقت الذي تنفق فيه الأموال الضخمة على سباق التسلح العالمي للسيطرة والتدمير بدلاً من إنفاقه في التنمية الاقتصادية والتعمير وحاجات الشعوب )
وقد تأكد هذا التوجه في قرار المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي في دورته الخامسة التي عقدت في الكويت عام 1409هـ ، ومما جاء فيه:
( أولاً ـ لا يجوز إصدار قانون عام يحدُّ من حريَّة الزوجين في الإنجاب .
ثانياً ـ يحرم استئصال القدرة على الإنجاب في الرجل والمرأة ، وهو ما يعرف بالإعقام أو التعقيم ، ما لم تَدْعُ إلى ذلك ضرورة بمعاييرها الشرعية ) .
ثالثاً ـ يجوز التحكُّم المؤقت في الإنجاب بقصد المباعدة بين فترات الحمل ، أو إيقافه لمدة معينة من الزمان ، إذا دعت إليه حاجة معتبرة شرعاً ، بحسب تقدير الزوجين عن تشاور بينهما وتراضٍ بشرط أن لا يترتب على ذلك ضرر ، وأن تكون الوسيلة مشروعة وأن لا يكون فيها عدوان على حملٍ قائمٍ ) .
المصدر: مجلة البحوث الفقهية المعاصرة
———————————————————
[1] – وزارة الصحة ( السعودية ) : اللائحة التنفيذية لنظام مزاولة مهنة الطب البشري وطب الأسنان ، ص 42 ، 1409هـ .
[2] – أخرجه البخاري 4683 ، ومسلم 2493 ، وأحمد في مسنده 3468
(الملتقى الفقهي)