مقالاتمقالات المنتدى

حقيقة دعوة الرسل من خلال وصية يعقوب ﷺ لأبنائه

حقيقة دعوة الرسل من خلال وصية يعقوب ﷺ لأبنائه

 

بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)

 

ذكر الله وصية يعقوب – عليه السّلام – لأبنائه في سياق الآيات التي تتحدث عن وجوب التمسك بملة أبيه إبراهيم عليه السلام، والتي تبين أن من ترك ملته رغبة عنها إلى غيرها فإنما هو جاهل بموضع حظ نفسه فيما ينفعها ويضرها في معادها، كاليهود والنصارى الذي انحرفوا عن الطريق الصحيح، فموضوع الوصية في الآية: الحثُّ على التمسك بالإسلام وعدم تركه أبداً.

قال تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ}:

إنَّ هذا المشهد بين يعقوب وبنيه في لحظة الموت والاحتضار لمشهد عظيم الدلالة، قوي الإيحاء، عميق التأثير، ميت يحتضر فما هي القضية التي تشغل باله في ساعة الاحتضار؟ وما هو الشاغل الذي يعني خاطره وهو في سكرات الموت؟ وما هو الأمر الجلل الذي يريد أن يطمئن عليه ويستوثق منه؟ وما هي البركة التي يريد أن يخلفها لأبنائه ويحرص على سلامة وصولها إليهم فيسلمها لهم في محضر يسجل فيه كل المستحيلات؟ إنها العقيدة هي التركة وهي الذخر وهي القضية الكبرى، وهي الشغل الشاغل، وهي الأمر الجلل، الذي لا تشغل عنه سكرات الموت وصرعاته.

قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي}:

هذا هو الأمر الذي جمعناكم من أجله، وهذه هي القضية التي أردت الاطمئنان عليها، وهذه هي الأمانة والذخر والتراث.

قوله تعالى: {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}:

إنهم يعرفون دينهم ويذكرونه، وإنهم يتسلمون التراث ويصونونه، وإنهم يطمئنون الوالد المحتضر ويريحونه، وكذلك ظلت وصية إبراهيم لبنيه مرعية في أبناء يعقوب وكذلك ينصون نصاً صريحاً على أنهم {مُسْلِمُونَ} والقرآن يسأل بني إسرائيل: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ}.

فهذا هو الذي كان، يشهد به الله، ويقرره، ويقطع به كل حجة لهم في التمويه والتضليل; ويقطع به كل صلة حقيقية بينهم وبين أبيهم إسرائيل، وفي ضوء هذا التقرير يظهر الفارق الحاسم بين تلك الأمة التي خلت، والجيل الذي كانت تواجهه الدعوة، حيث لا مجال لصلة، ولا مجال لوراثة، ولا مجال لنسب بين السابقين واللاحقين. (في ظلال القرآن، سيد قطب، 1/117)

قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ]البقرة:134[:

إنَّ اليهود كانوا كلما ذكرت محمدةٌ لإبراهيم وبنيه انتحلوها لأنفسهم وتفاخروا بها على غيرهم حتى ظنهم الناس أنهم هداة آبائهم وإن لم يهتدوا بهديهم، فردّ الله سبحانه وتعالى قولهم وقول غيرهم ممن كانوا يتفاخرون بأنهم سلالة إبراهيم وإسماعيل ولا يعملون عملهم ولا يسلكون مسلكهم وكانوا يحسبون مجرد النسب يكسبهم شرفاً وذكراً عند الله فقال: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.

الإشارة إلى هذه الجماعة الفاضلة إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وذريتهم الذين اهتدوا بهديهم وقبسوا من نور الله بوصيتهم وهي {قَدْ خَلَتْ} أي مضت، وصارت في عبر التاريخ لهم ما كسبوه من خير فيكون عند الله جزاؤه، وعليكم معشر العرب أن تقتدوا بإبراهيم وتأخذوا بوصيته وأن تعبدوا إلهاً واحداً هو الله جلّ جلاله إن كنتم تنتمون إليه، فتجمعون بين شرف النسب وشرف الاتباع، والنسب وحده لا يغني فتيلاً من غير اتباع، وكذلك أنتم معشر اليهود ليس لكم أن تفخروا بأن هؤلاء آباؤكم وتلحقوا تاريخهم بتاريخكم، إلا أن تتبعوهم في الإخلاص لله رب العالمين والإسلام له، وإلا كنتم الخارجين عليهم المحاربين لمآثرهم وإن لم تجدّوا في اتباعهم فلكم جزاء فعلكم.

ولذا قال تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} أي لها ما كسبته مكسوباً إليها بقدره محسوباً لها في اليوم الآخر بجزائه، ويتضمن قوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} الجزء لهذا الكسب وهو خير {وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} إن عملتم مثل عملهم واتبعتم هديهم وأخذتم بوصيتهم، وكانت لكم شعاراً ودثاراً تتحلون به، وهذا حثّ على الاقتداء ودعوة إليه، فإن تجانفوا الإثم وتخالفوا الوصية فعليكم إثم ما تفعلون.

وإنكم لستم مسؤولون عن أفعالهم إن خيراً أو شراً فكذلك ليس لكم أن تدعوا أن عملهم عملكم ونسبهم نسبكم؛ لأنّكم انفصلتم بعملكم عنهم، ولذا قال تعالى: {وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وكذلك لا يكفيكم عملهم، إن خيراً فخيره لهم إلا تكونوا قد عملتهم مثل عملهم ولا تزر وازرة وزر أخرى.

إنَّ ملة إبراهيم عليه السّلام هي التوحيد، والطهارة من الوثنية هي لبّ الدين اصطفاه الله لنا، وهي الحق الذي لا ريب فيه، وهي مقياس الحق الذي يتميز به من الباطل، فمن آمن بها فقد اهتدى، ومن خالفها فقد ضل وغوى، وأهل الكتاب الذين حرفوا القول عن مواضعه وغيروا وبدلوا وخرجوا عن المنهاج وتركوا ملة إبراهيم يزعمون أن ما عندهم حق وهداية، فضلّت أفهامهم، وزعم اليهود أن في يهوديتهم السلامة وزعم النصارى بنصرانيتهم الوثنية أنّها الهداية وكلٌ في غيّهم يعمهون. (زهرة التفاسير، الإمام محمد أبو زهرة، 1/420)

___________________________________________________________

المصادر:

  • إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء والمرسلين، علي محمد الصلابي، دار ابن كثير.
  • زهرة التفاسير، الإمام محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي للطباعة والنشر، القاهرة، مصر، 2008م.
  • في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق للطباعة، القاهرة، ط 32، 2003 م.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى