حقيقة العبادة في القرآن الكريم والسنة النبوية
بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)
ساد بين الناس مفاهيم خاطئة للعبادة، وصُرفت عقولهم، وقلوبهم، وأعمالهم عن هذه الوظيفة التشريفية التي خُلق الله الإنسان من أجلها، وسخر له كل شيء في نفسه وفي الكون من حوله ؛ ليقوم بها وفق أمر خالقه، وعند تأمُّل القرآن الكريم، والسنة النبوية، وما تحويه من أخبار، وأوامر، ونواهي، ووعد، ووعيد؛ نجدها كلها تدور حول تقرير ألوهية الله سبحانه وتعالى، وعبودية الإنسان له.
فإذا كان خلق الإنسان، وتسخير الكون له، وإيجاد العقل، والقلب، والإرادة فيه، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وخلق الجنة والنار، وقبل ذلك وبعده ما تقتضيه صفات الباري ـ جلَّ وعلا ـ من كونه في ذاته وأفعاله سبحانه وتعالى حكيماً عليماً، خلق كل شيء فقدره تقديراً، ولم يخلق شيئاً عبثاً، ولم يوجِد شيئاً لغير حكمة، وإذا كان القرآن المجيد، وما فيه من أخبار، وأوامر، ووعد، ووعيد جاء لأجل هذه المهمة العظيمة، ألا وهي تعبيد الخلق كلهم لله سبحانه؛ فكيف يصح حينئذ أن يُـتَصَوَّر: أن العبادة هي النية النقية وحسب، أو أنها الشعائر التعبدية فقط، أو أنها لبعض نشاطات الإنسان دون بعض، أو لبعض أفعاله، وأحواله دون بعض.
بل إن دائرة العبادة التي خلق الله لها الإنسان، وجعلها غايته في الحياة، ومهمته في الأرض دائرة رحبة واسعة تشمل شؤون الإنسان كلها، وتستوعب حياته جميعاً، وتستغرق كافة مناشطه وأعماله.( القرضاوي، 1985، ص55)
وبهذا المعنى الشامل فهم السلف الصالح عبادة الإنسان فرداً كان أو جماعة، وقد لخص هذا المعنى الشامل للعبادة، وحدَّد ماهيتها شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ حين قال: (العبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبرُّ الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار، والمنافقين، والإحسان إلى الجار، واليتيم، والمسكين، وابن السبيل، والمملوك من الادميين، والبهائم، والدعاء، والذكر، والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة، وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله، والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف لعذابه، وأمثال ذلك هي من العبادة لله…).( ابن تيمية، 2004، ج10، ص150)
وبهذا التعريف الجامع لا يمكن أن يخرج أي شيء من نشاطات الإنسان وأعماله، سواء كان ذلك في العبادات المحضة، أو في المعاملات المشروعة، أو في العادات التي طبع الإنسان على فعلها.
أما في العبادات، والمعاملات المشروعة؛ فإنها مما يحبه الله ويرضاه، وهذا أمره الشرعي الدائر بين الأحكام الخمسة التي اصطلح عليها الفقهاء وهي: (الواجب، والمحرم، والمستحب، والمكروه، والمباح) أما في العادات فالذي لم يوجد منها بأوامر الشرع، ولم يقيد بأحكامه على وجه الخصوص، فإنه لا يخرج عن كونه داخلاً تحت عمومات الشرع باعتبار عبودية الإنسان في كل أحواله لله سبحانه، وباعتبار أن: (العادات لها تأثير عظيم فيما يحبه الله، أو فيما يكرهه، فلهذا أيضاً جاءت الشريعة بلزوم عادات السابقين الأولين في أقوالهم، وأعمالهم، وكراهة الخروج عنها إلى غيرها من غير حاجة).(ابن تيمية، 1983، ج11، ص399)
وإن كان ينبغي لنا هنا الإشارة إلى أن الأصل في العبادات المحضة المنع؛ حتى يرد ما يدل على مشروعيتها، وأن أصل العادات العفو؛ حتى يرد ما يدل على منعها، وذلك مبني على (أن تصرفات العباد من الأقوال، والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينه، وعادات يحتاجون إليها في دنياهم. فباستقراء أصول الشريعة نعلم: أن العبادات التي أوجبها الله، أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع.
وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم ممَّا يحتاجون إليه، والأصل فيه عدم الحظر، فلا يحظر منه إلا ما حظره الله، سبحانه وتعالى ؛ وذلك لأن الأمر، والنهي هما شرع الله، والعبادة لابد أن يكون مأموراً بها، فما لم يثبت: أنه مأمور به؛ كيف يحكم عليه بأنه عبادة؟!
وما لم يثبت في العادات: أنه منهي عنه، كيف يحكم عليه: أنه محظور؟ والعادات الأصل فيها العفو، فلا يحظر منها إلا ما حرم).( ابن تيمية، 2004، ج29 ، ص117)
وهذا التقسيم في الحظر، والإباحة لا يخرج شيئاً من أفعال الإنسان العادية من دائرة العبادة لله، ولكن ذلك يختلف من درجته ما بين عبادة محضة، وعادة مشوبة بالعبادة، وعادة تتحول بالنية والقصد إلى عبادة؛ لأن المباحات يؤجر عليها بالنية والقصد الحسن؛ إذا صارت وسائل للمقاصد الواجبة، أو المندوبة، أو تكميلاً لشيء منهما.( الغامدي،1992، ج1، ص19)
وقال النووي في شرحه لحديث: «وفي بضع أحدكم صدقة»: (وفي هذا دليل على أنَّ المباحات تصير طاعات بالنية الصادقة).
ومن ذلك يتضح: (أن الدين كله داخل في العبادة، والدين منهج الله جاء ليسع الحياة كلها، وينظم جميع أمورها من أدب الأكل، والشرب، وقضاء الحاجة إلى بناء الدولة، وسياسة المال، وشؤون المعاملات والعقوبات، وأصول العلاقات الدولية في السلم والحرب.
إن الشعائر التعبدية من صلاة، وصوم، وزكاة لها أهميتها، ومكانتها، ولكنها ليست العبادة كلها، بل هي جزء من العبادة التي يريدها الله تعالى.
إن مقتضى العبادة المطالب بها الإنسان أن يجعل المسلم أقواله، وأفعاله، وتصرفاته، وسلوكه، وعلاقاته مع الناس وفق المناهج والأوضاع التي جاءت بها الشريعة الإسلامية، يفعل ذلك طاعة لله، واستسلاماً لأمره…).( الأشقر،1981، ص47)
والدليل على المفهوم الشامل للعبادة من الكتاب، والسنة، وفعل الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ ما يلي:
فأما من القرآن الكريم؛ فقوله تعالى:{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ *}[الذاريات:56] ، {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ *}[التوبة: 31]، {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ *}[الأنعام: 162 ـ 163]، {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ *}[البينة:5].
ومن السنة أحاديث كثيرة بعضها في عموم العادات بدون تخصيص، وبعضها الآخر في أفراد السلوك العادي، وفي هذا الأخير دليل، وتنبيه على المعنى العام المقصود إثباته هنا، فمن ذلك:
قوله صلى الله عليه وسلم: «إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة؛ وهو يحتسبها؛ كانت له صدقة».
وقوله صلى الله عليه وسلم: «كل ما صنعت إلى أهلك فهو صدقة عليهم».( الألباني، 1985، ج3، ص22) وقوله صلى الله عليه وسلم: «دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك».
مراجع البحث
علي محمد الصلابي، الوسطية في القرآن الكريم، مكتبة الصحابة، 1422ه-2001م صص 359-363
ابن تيمية، مجموع فتاوى، الطبعة الأولى، السعودية. 1425ه-2004م
ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم، تحقيق د. ناصر عبد الكريم العقل، العبيكان،1404 هـ، 1983
ناصر الدين الألباني، سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيِّىء في الأمة، المكتب الإسلامي، الطبعة الخامسة، 1405 هـ/ 1985م
يوسف القرضاوي، العبادة في الإسلام، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية عشر، 1405 هـ/ 1985م.
سعيد ناصر الغامدي، حقيقة البدعة وأحكامها، مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى، 1412 هـ/ 1992م.
عمر الأشقر، مقاصد المكلفين، مكتبة الفلاح، الكويت، الطبعة الأولى، 1401 هـ. 1981م.