حقوق الإنسان بين السّلوك الغربيّ والعقل الإسلاميّ
بقلم يوسف الحمود
هناك حساسيّة عارمة عند الإسلاميّين عموماً والمتشدّدين منهم خصوصاً من مصطلح حقوق الإنسان، وذلك لكونه مصطلحاً غربيّ النّشأة والتّقنين، وكذلك للاستثمارات السّياسيّة والبراغماتيّة الغربيّة لهذه الحقوق، ويتجلّى ذلك في كثير من السّلوكات للإدارات الغربيّة، كما هو شأن ترامب مع ابن سلمان والسّيسيّ وابن زايد وآخرين من الدّكتاتوريّات الطّغيانيّة البشعة، ومن هنا تأتي الحمولة السلبيّة والامتعاض من مصطلح ومفهوم حقوق الإنسان، وإن بدت هذه الملاحظة صحيحةً ولكنّ ذلك لا يعفي العقل الإسلاميّ من وجوب الدّفاع عن الحقوق كقيمة دينيّة وإنسانيّة، ورغم مركزيّة المصطلح إلاّ أنّ كونيّته وعالميّته قارةّ في الخطاب القرآني، فليس الغرب أولى من المسلمين في تفعيل وتعميق الاهتمام بحقوق الإنسان، ومن هنا تكون ردّة الفعل سلبيّة وضارّة إذا بقيت تتوجّس من المصطلح لأنّه في المفهوم الإسلاميّ ” لا مشاحّة في الاصطلاح “، ولذلك يجب العمل والتّخصّص على أساس قيمة المفهوم، وليس على أساس واقعيّة المفهوم، فالأديان والفلسفات تحرّكت من خلال التّغيير الإيجابيّ لتفعيل قيمة الحقّ والحريّة والعدل والأنسنة لا على البقاء على عُقد الواقع وانحرافاته.
لقد سيطرت منظومة حقوق الإنسان في الفكر الإنسانيّ على مركز الصّدارة من حيث القيمة والأهميّة في الواقع الإنسانيّ منذ تتويج الميثاق العالميّ لحقوق الإنسان عام 1948 من خلال جهود المفكّرين والنّاشطين الّذين عملوا في هذا الحقل ممّا أدى إلى إنشاء فكرة المفوّض السّامي لحقوق الإنسان في فيينا سنة 1994، وبدأت حينذاك الدّراسات والفلسفات المؤسّسة لمفهوم الحقوق في الشّيوع والتّبلور أكثر من ذي قبل بسبب الحضور الرّسميّ والدّولي لهذه الحقوق في المنظومات الدّوليّة، وبدأ الخطاب الأمميّ يتفاعل مع الثّقافات الأخرى المتفاعلة والقابلة للعمل بهذه المفاهيم، وازدادت مساحة الدّراسات والمؤسّسات العاملة في الحقل الحقوقيّ الإنسانيّ، وهذا بدوره حرّض بعض الإسلاميّين العقلانيّين والمنفتحين على الكتابات والدّراسات المقارنة فكريّاً وفقهيّاً في مجالات حقوق الإنسان وقيمه العليا من منظور إسلاميّ، وأنتج بعض المفكّرين الإسلاميّين دراسات فكريّة وقانونيّة ناضجة ونوعيّة رغم نُدورتها وقلّتها الكميّة كما فعل محمد الغزاليّ ومحمد عمارة وكمال أبو المجد وآخرون من المفكّرين والقانونيّين، وبقيت هذه الجهود قليلة بالنّسبة لما ينتجه الآخرون في حيّز هذه الدّراسات المحوريّة في الحقل الفلسفيّ الأنسنيّ والحقوقيّ القانونيّ، وبدأت معركة أصالة المفهوم وشيوعه تأخذ مكاناً هامّاً في هذه الدّراسات وخاصّة عند الإسلاميّين الّذين رأوا صدور هذه المنظومات من مركزّية غربيّة تريد تأصيل ذاتها وكينونتها بشكلٍ عنصريٍّ متفوّقٍ في الجانب الحقوقيّ والقِيميّ على حساب فكر وثقافات الشّعوب الأخرى، وأصبح التّمظهر الأمريكيّ الأوربيّ الحامل لهذه الحقوق ينتج خطاباً صراعيّاً متضادّاً على مستوى الفلسفة والمرجعيّة رغم اعتراف الجميع بمدوّنات ومواثيق الحقوق، فالمركزيّة الغربيّة تحاول أن تحتكر تأصيل وإنتاج المفهوم عصبيّاً وحضاريّاً ومركزيّاً، وهذا بدوره يؤصّل لدونيّة الآخر حضاريّاً ومعرفيّاً، لتبقى المعادلة في إطار الغرب والشّرق، والعقل الغربيّ والعقل الإسلاميّ، والعقلّ الأنسنيّ والعقل الدّينيّ النّصوصيّ، وهذا الخطاب حاضر في مقولات وكتابات الغربيين ممّن كتبوا في نهاية التّاريخ ونهاية الحداثة ونهاية العقل، وذلك لتثبيت محوريّة الغرب المطلقة، وهذا ممّا يعمّق الأزمة المنهجيّة في رؤية الثّقافة والحقوق الإنسانيّة باعتبارها مكسباً إنسانيّاً مطلقاً دون تحيّزات ومركزيّات لهذا المفهوم تحاول أن تجعله ليبراليّاً وغربيّاً صِرفاً ممّا يجعل من المرجعيّة الغربيّة مرجعيّة أحاديّة دوغمائّية تحاول اختزال الحقيقة والمصطلح والمفهوم.
ولسنا في معرض الدّراسة المقارنة ولكنّه توضيح يقتضيه السّياق وذلك لتجاوز العقدة والمحوريّة الغربيّة وتجاوز ردّة الفعل والنّفور الإسلاميّ من مصطلح ومفهوم حقوق الإنسان، بعد خذل الغرب الأمريكيّ والأوربيّ هذا المفهوم من خلال السّياسيّة البراجماتيّة النّفعيّة وخاصّةً في العالم الإسلاميّ والشّرق الأوسط، حيث أصرّت أكثر الإدارات الغربيّة على تجاوز الحقوق والاعتبارات الإنسانيّة لتحقيق مكاسب ومصالح سياسيّة واقتصاديّة حيويّة في العلاقات الدّوليّة دون جعل مفهوم الحقوق معياراً وأساساً لهذه العلاقات، وبهذا تحوّل مفهوم حقوق الإنسان إلى مفهوم باهت ونظريّ مزعوم في نظر أغلبيّة العرب والمسلمين، ممّا جعل حالة العزوف والابتعاد عن الاهتمام بالحقوق المؤسّسات الإنسانيّة سمة ًواضحةً عند أكثر الإسلاميّين فضلاً عن العمق الشّعبيّ المجتمعيّ المفارق لهذه الثّقافة. فمن الأولويّات والضّرورات إعادة تفعيل مفهوم الأنسنة وأصالة حقوق الإنسان في المدوّنة الإسلاميّة بشكلٍ منهجيّ ومعياريّ يتغيّا الحقيقة والمفهوم دون أن يعيش ارتدادات وانعكاسات الواقع وإحباطاته المأزومة، وعلى هذه المنهجيّة ينبغي تفعيل الاهتمام بالفكر والعمل الحقوقيّ، وتدعيم المؤسّسات الحقوقيّة النّاشطة في المجتمعات لإشاعة وتعميق مفهوم الحقوق وتمكين المجتمع من ترسيخ ثقافة معرفيّة حضاريّة واسعة في مناحي الحقوق الإنسانيّة.
فالقرآن ليس له مناط عرقيّ أو مركزيّ يتمحور حوله، ولكنّه خطاب مفتوحٌ مناطُه الإنسانُ الكائن الكونيّ ( يا أيّها النّاسُ إنّا خلقناكمْ من ذكرٍ وأنثى وجعناكم شعوباً وقبائلَ لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم إنّ اللهَ عليمٌ خبيرٌ ) الحجرات:13، إنّه الخطاب الّذي يدعو إليه العقلاء من ذوي النّزوع الأنسنيّ الحضاريّ دون أن يُدركوا بأنّه خطاب إلهيّ أصلاً، إنّ قيمة وتفرّد الخطاب الإسلاميّ تكمن في إعطاء الإنسان قيمةً متعاليّةً تعطي المفهوم قداسةً وخصوصيّةً استثنائيّةً في حيّز الكائن الوجوديّ والإنسان الكُلّانيّ، لأنّ الإنسان شيءٌ من روح الله ومن معناه، وهنا يأتي سرّ التّكريم والاحتفاء الإلهيّ به، فالتّكريم للمعنى الإنسانيّ وللقيمة الإلهيّة القارّة في كينونة هذا الأنموذج البشريّ، وهل هناك شيءٌ أعظم من أن يضع الله نفسه قُبالةَ ومكان الإنسان، إنّه أعظم تشريف وتكريم لهذا الجنس المكرّم، والسّمةُ الخالدة والجوهريّة في القرآن هي عالميّة وكونيّة الخطاب الإلهيّ الّتي يتنزّل وينصهر بعالميّة وكونيّة الإنسان في نسيج معنويّ متّسق ومتناغم، لكي يمتزج الخطاب والمخاطَب والنصّ والإنسان في معنى وروح واحدة من الحقّ والكرامة والقيمة والارتقاء.
والحقيقة أنّ العقل الإسلاميّ الأوّل كان منفتحاً مبكّراً على هذه القيمة المعنويّة والجوهريّة للإنسان كما في مقولة علي بن أبي طالب ¢ المشهورة ” إن لم يكن أخٌ لك في الدّين فنظيرٌ لك في الخلق ” إنّه انعكاس لأعلى وأجلّ خطاب يؤسّس للأنسنة والعدل والحقوق والتّكريم، وهذا ما يجب السّعي إليه والعمل الدؤوب عليه ليكون الإنسان عنوان الحياة ومضمونها.
إنّ شرعة حقوق الإنسان الدّوليّة هي قوانين تحصين وحماية للمفهوم وليست ابتدائيّة كما هي في القرآن، فالاتّفاقيّات والمعاهدات جاءت تراكميّة تطوريّة بينما هي في الإسلام إنشائيّة متعالية مطلقة، غير محكومة بالنسبيّة والتّحيز والأبعاد العنصريّة والقوميّة، كما ظهر من خلال قضايا المسلمين في البوسنة وكشمير وفلسطين والثّورات العربيّة المعاصرة وغير ذلك ممّا هو محكوم بالمصالح والغايات لا بالحقوق والقيم، ورغم ذلك كلّه يجب علينا إعادة تفعيل وتعميم ثقافة الحقوق الإنسانيّة لكي لا نعيش الرؤية السلبيّة الكمونيّة اتّجاه الحقّ والحقوق والعدالة الإنسانيّة والاجتماعيّة، ومن الضّروريّ الانتقال من الاهتمام إلى الوجوب والفاعليّة في كلّ الحقول والمؤسسّات والنّشاطات، لتكون ثقافة حقوق الإنسان من صلب رسالة النّخب والمفكّرين والمتخصّصين وفي الأخصّ في العالمين العربيّ والإسلاميّ .
(المصدر: رسالة بوست)