بقلم د. وصفي عاشور أبو زيد
بعد التطواف التاريخي المنتقى مع رحلة التقصيد الجزئي عبر مرحلتيها: مرحلة الحديث الفقهي المتناثر والمبثوث في كتب الفقه، ومرحلة التأليف المستقل الذي أعطي فيه الحديث عن الحكم والمقاصد الجزئية عناية خاصة – وقفت على عدد من الملاحظات والحقائق المهمة يحسن إثباتها وتدوينها في هذا السياق:
أولًا: أننا اقتصرنا فيه على التأليف المستقل بعد المتناثر؛ ولهذا لم نورد أبا حامد الغزالي مع أن له جهودًا لا تنكر في تتبع الأسرار والحكم والمحاسن في كتابه العظيم “إحياء علوم الدين”، ولعلنا نرجع إليه في الحديث عن مسألة من المسائل، أو رأي من الآراء.
وكذلك اقتصر حديثنا على التقصيد الجزئي فقط، وليس التقصيد الخاص أو الكلي؛ ولهذا لم نورد الشاطبي على ما له من فضل وريادة في مجال المقاصد عمومًا، ولا ابن عاشور على ما له من سبق في حديثه عن المقاصد الخاصة، ولا أبا الحسن العامري في كتابه: “الإعلام بمناقب الإسلام”؛ لكونه ينزع إلى الاستنتاجات العامة والكليات التي كان له السبق في ذكر ضرورياتها الخمس، وتنبيهه على منبع استنباطها، وهو العقوبات[1]، وقد قال عنه أستاذنا الدكتور أحمد الريسوني: “ويبدو لي أن العامريَّ وأمثاله من المتكلمين والمتفلسفين قد أسهموا في دفع البحث المقاصدي نحو مرحلة التنظير والتقعيد والتماس المقاصد الكلية”[2].
ثانيًا: المصنفات التي تناولناها في المبحث الثاني كلها تنحو منحًى متقاربًا؛ حيث تتناول النظر في الأحكام من حيث الحِكم والأسرار والمعاني والمحاسن والآثار، والمقاصد أيضًا، دون تمييز بين هذه المصطلحات جميعًا، فهي تحتاج إلى تحرير وتفرقة، وإذا كان فصل هذه الأمور نظريًّا سهلًا، فإن التطبيق العملي على فصلها تأصيليًّا من الصعوبة بمكان.
وليس معنى هذا أن كل ما جاء في هذه المصنفات بعيد – كل البعد – عن مجال التقصيد الجزئي بمعناه في هذه الدراسة، بل إننا لا نعدم حِكمًا وأسرارًا يمكن أن نعتبرها مقاصد جزئية – كما بينا سابقًا – بالإضافة إلى أن النظر في هذه الآثار والمحاسن والحكم – إن لم تصلح مقاصد جزئية – يفيدنا كثيرًا في تلمس المقصد الجزئي للحكم الشرعي الذي يؤثر فيه، وأحيانًا يدور معه.
ثالثًا: على مدى هذا التأريخ لم نجد تطورًا ملحوظًا في تناول هذا الموضوع، كما هي العادة المتبعة في تطور العلوم وتاريخ نشأتها، سوى الانتقال من الحديث غير المستقل المخصوص المنثور في تضاعيف الكتب إلى الحديث المستقل المخصوص عن الموضوع، وربما لم يكن هذا مقصودًا ومخصوصًا بالمقاصد الجزئية، وكنا ننتظر أن يحدث التطور بعد الاستقلال في التأليف؛ حيث التأصيل والتطوير والتوسيع والتعميق، كما يحدث في كل علم، ولكن هذا ما لم يحدث؛ حيث ظل الجمع بين الآثار والمحاسن والحكم والأسرار وغيرها في صعيد واحد، دون تمييز بين هذا كله، وبيان أثر هذا التمييز فقهيًّا وأصوليًّا؛ فالتناول واحد تقريبًا لم يختلف عبر تاريخ التأليف المستقل.
رابعًا: لاحظت أن الاهتمام بالمقاصد ارتبط بعلماء إصلاحيين ومجددين وفترات نهضة وتطوير، وحسبنا أن الذي أحيا الاهتمام بالفكر المقاصدي عمومًا في عصرنا هو الإمام محمد عبده، الذي كان عصره عصر تطوير ونهضة، فكان له الفضل في لفت الأنظار إلى الشاطبي وجهوده المقاصدية، ونفض التراب عن الموافقات، وطبعه وتدريسه وتوصيته به، ثم تبعه بعد ذلك تلامذته الذين أسهموا بنصيب وافر في هذا المجال، أمثال ابن عاشور والفاسي والخضري، ومن ذكرناهم مؤخرًا قبل الملاحظات.
وقد كتب كتاب “مذكرة في حكمة التشريع الإسلامي، قسم العبادات”، في عهد تطوير الأزهر وتعديل مناهجه – كما قال المؤلفان – بما يتلاءم مع فلسفة العصر وحاجة المجتمع[3]؛ حيث إن البحث عن أسرار التشريع – كما جاء في الكتاب – كان وليد الحاجة إليه في العصر الحاضر، وفي العصور الأولى كان البحث مقصورًا على استنباط الأحكام والدفاع عنها، ودفع الشبهات والاعتراضات الواردة عليها، ولا يتحدثون عن الحكمة قصدًا، بل كانوا يذكرونها عرَضًا[4].
خامسًا: ارتبط أيضًا الاهتمام بالتفكير المقصدي بفترات مواجهة مع أعداء، وجهاد ضد محتلين – ابن تيمية وابن القيم، وابن عبدالسلام، والشاطبي، وابن عاشور، وعلال الفاسي نماذج واضحة تاريخيًّا – وهذا يؤسس لأهمية جديدة للمقاصد، وما لها من دور في تحرير الأرض ومقاومة العدو.
سادسًا: ارتبطت أيضًا بفترات الغزو الفكري، وإثارة الشبهات، وفترات الضعف الحضاري الإسلامي حين تصبح الأمة المسلمة هي الطرف الضعيف في العالم، وهنا تتراوح ردود الفعل بين تقوقُع وتخندُق؛ حفاظًا على الهوية، وبين انفتاح ومبادرة عبر الاستنجاد بفلسفة التشريع الإسلامي والفكر المقاصدي لدحض الافتراءات، وإزالة الشبهات، وترسيخ الواضحات والكليات، وهذا يؤسس لدور جديد آخر للمقاصد في تحرير الأمة فكريًّا وعقديًّا، وأهميتها في حفظ الهوية للأمة المسلمة.
وبهذا يتبين – من خلال: رابعًا وخامسًا وسادسًا – ارتباط المقاصد بفترات إرادة النهضة والتطوير والإصلاح، وارتباطها بفترات الاحتلال ومقاومة العدو[5]، وارتباطها بفترات التراجع الحضاري والرغبة في التخلص منه عبر الاستنجاد بالمقاصد والتفكير الفلسفي التشريعي للرد على الشبهات وتقديم خطاب فقهي متوازن.
كما ارتبط التأليف فيها بأسماء مصلحين مجددين، مثل ابن تيمية وابن القيم وابن عبدالسلام، والشاطبي وابن عاشور وعلال الفاسي ومحمد عبده، وغيرهم، الذين كانت عصورهم ما بين مقاومة عدو أو تجديد وتطوير، أو نهضة وإصلاح، وهذا كله يؤسس لدور جديد تلعبه المقاصد في حفظ الهوية الإسلامية، وحفظ الاستقلالية الفكرية والعقدية، وتحرير الأمة من الغزو الفكري والعسكري على السواء، وهذا كلام يحتاج إلى تفصيل وتأصيل ليس هذا محله، وحسبنا أنها إشارة مجملة ظهرت واضحة من خلال الاستقراء التاريخي في هذا المجال.
———————————
[1] راجع الإعلام بمناقب الإسلام: 125، لأبي الحسن محمد بن يوسف العامري، تحقيق ودراسة د. أحمد عبدالحميد غراب، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، 1387ه – – 1967م، وراجع منه على وجه الخصوص الفصل السادس المتعلق بحكم العبادات الإسلامية ومكارمها، وتميزها عن مثيلاتها في الديانات الأخرى.
[2] البحث في مقاصد الشريعة نشأته وتطوره ومستقبله: 195 – 196، ضمن كتاب مقاصد الشريعة الإسلامية دراسات في قضايا المنهج ومجالات التطبيق، تحرير د. محمد سليم العوا، وتقديم الشيخ أحمد زكي يماني، مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية، لندن، الطبعة الأولى، 2006م.
[3] مذكرة في حكمة التشريع الإسلامي قسم العبادات، لأحمد محمد ندا وطنطاوي مصطفى: 5، وتجدر الإشارة إلى أن الأزهر تم تطويره أكثر من مرة، منها: 20 من محرم 1314ه – = 1 من يوليو 1896م؛ حيث صدر قانون تطوير الأزهر في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني، ثم بدأت جامعة الأزهر في ثوبها المعاصر سنة 1930م مع قانون إصلاح الأزهر؛ حيث أسست كليتان هما اللغة العربية والشريعة، ثم قانون رقم 103 لعام 1961 وهو قانون تطوير الأزهر؛ حيث أصبحت جامعة الأزهر تتكون من الكليات الآتية: كلية أصول الدين، وكلية الشريعة، وكلية المعاملات والإدارة، وكلية البنات الإسلامية، وكلية الهندسة، وكلية الطب، وكلية الزراعة.
[4] راجع مذكرة في حكمة التشريع الإسلامي: 4، وهذه لفتة أخرى إلى أهمية دراسة المقصد الجزئي تفصيلًا، فضلًا عن الدراسة التأصيلية، بعد اللفتة التي ذكرناها عند علي أحمد الجرجاوي سابقًا.
[5] يرى الأستاذ الدكتور محمد كمال الدين إمام أن القرون الثلاثة الأخيرة جعلت من المقاصد الشرعية “فقه مقاومة”؛ ليسترد الإسلام أرضًا فقدها لصالح تشريعات مستوردة، وأفكار مستجلبة، واعتمدت المقاصد من خلال عناصرها الثلاثة – المصلحة والعلة والمآلات – منهجًا لصناعة تشريع واجتهاد مقاصدي، وكان ذلك في مجالات التعليم والتشريع وغيرهما، انظر: الدليل الإرشادي إلى مقاصد الشريعة الإسلامية: 2/ 8 – 14، وقد اتضح من هذا التأريخ أن الأمر ليس مقصورًا على القرون الثلاثة الأخيرة فحسب، وإنما يمتد إلى عمق تاريخ الاهتمام بالمقاصد، وفترات العناية بها، وكذلك ليس محصورًا على ما يسمى بفقه المقاومة فحسب، بل يتعدى لأمور أخرى كما أشرنا.
المصدر: شبكة الألوكة.