حرية العقيدة .. بين القبول والرفض
بقلم د. أنور بن قاسم الخضري (خاص بالمنتدى)
خلق آدم عليه السلام، وزوجه، موحدين مؤمنين. وإن كانت طبيعة الإنسان قابلة للجحود والكفر.
ومنذ فتح آدم عينيه أمر بالطاعة، وكلف بالعبودية، ونهي عن المعصية والمخالفة، فمقتضى الإيمان بالله والاستسلام له الطاعة والعبودية.
وعندما أهبط آدم وزوجه إلى الأرض حذرا من مغبة تصديق الشيطان واتباعه، وأخبرا بضرورة لزومه -هو وذريته- هدى الله تعالى الذي سيأتيهم جيلا بعد جيل، وأن في مخالفة ذلك الهدى ضلالهم وشقائهم.
وعقب عشرة قرون (قيل قرن بمعنى ١٠٠ عام وقيل بمعنى جيل) وقع الانحراف العقدي في البشرية، وشيئا فشيئا زاد وتعمق الانحطاط، حتى أصبح الإنسان قابلا لعبادة كل شيء مهما كان حقيرا، وطاعة أي فرد مهما كان ذليلا!.
وكانت الرسل عليهم السلام يبعثون لهداية البشرية وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وإعادتهم إلى الإيمان الذي أخرجوا منه. ومع بلوغ الرسالة وظهور الحجة، كانت الشعوب غالبا لا تتوقف عند تمسكها بالكفر والشرك، بل تطغى وتعتدي وتجرم، لأنه لا يمكن للكفر والضلال قبول الإيمان والهدى، فهما نقيضان لا يتفقان.
وهنا كانت الأمور تنحو إلى مسارين:
التدخل الإلهي بإهلاك تلك الأمم عن بكرة أبيها، وذلك حين لا يوجد تكافؤ في القوى بين أهل الإيمان وأهل الكفر حال عدوانهم على أهل الإيمان.
الإذن الإلهي للمؤمنين بقتال الكفار حتى يؤمنوا أو يقمع كفرهم في حدودهم، دون بغي ولا عدوان على أهل الإيمان، وتكليف المؤمنين إذا صاروا أمة مكافئة لأعدائهم بما يتطلبه ذلك من نزع شوكتهم وإضعاف قدرتهم ليظل هذا التوازن مسيطرا عليه.
وخلال تلك المسيرة التاريخية للبشرية كانت السنن مطردة والشرائع في التعامل معها مطردة.
وعندما بعث الله محمدا -صلى الله عليه وسلم- خاتما للأنبياء والمرسلين، جمع له خبرة التاريخ وأتم له العقائد والتشريعات، وبين له في قضية الإيمان والكفر أتم بيان، حتى أوشك القرآن الكريم أن يكون كله في تلك القضية وتوصيف جوانب الصراع فيها، وتوصيف الخلل الذي يدخل على المؤمنين في تصورها وإدراكها أو في التعامل معها والاستجابة لآثارها.
ومن قرأ القرآن الكريم لمرة واحدة فقط، ملما باللغة العربية، لن يخطئه الشعور بصرامة القرآن وحسمه في هذه القضية بأوضح خطاب وأتم تشريع.
فالقرآن عدو للكفر والشرك، ناه عنهما وعن مظاهرهما، قارن بينهما وبين الباطل والضلال والغي والظلم والفساد والفتنة والظلمات وغيرها من أوصاف الذم والتنفير.
وهو محذر من الوقوع في أي شكل من أشكالهما، وناه عن أي تشبه بأحوال أهلهما أو صرف الموالاة أو المداهنة لهم.
مهددا أصحاب الكفر والشرك بكل أنواع العقوبات الدنيوية والعذاب الأخروي في أبشع وأغلظ صوره، مع ما يرافق ذلك من الإخبار عن سخط الله وغضبه ومقته ولعنه إياهم.
منبها إلى بقاء الصراع بين الكفر والإيمان والشرك والإسلام قائما بدافع رغبة الكفار في ارتداد أهل الإيمان وتحول أهل الإسلام.
ومطالبا المؤمنين بالبقاء عصبة موالية لبعضها البعض، متناصرة، تعد العدة وتأخذ حذرها، وتدفع العدوان عنها.
لا بل يدعو القرآن لدعوة الكفار والمشركين بالحسنى، وإبلاغ الدين إليهم، فإذا أبوا وأعرضوا وكان بالمؤمنين قوة دعاهم لقتال الكفار والمشركين والشدة معهم والغلظة والتضييق عليهم دفعا لإفسادهم وطغيانهم وبغيهم، لا من أجل إبادتهم بل لكبح نوازع الشر لديهم بإخضاعهم لسلطان المسلمين أو الصلح معهم وكف أذاهم عن الناس، إذا لم يقبلوا بالإسلام.
هكذا فقه الصحابة رضي الله عنهم والتابعون والأمة جيلا بعد جيل قضية الإيمان والكفر ومبدأ العلاقة والصراع بينهما، خلال ألف سنة ويزيد.
وفي العصر الحديث، وبعد ثورة الغرب على الكنيسة المحرفة لدين الله، والمتحالفة مع أصحاب السلطة المتجبرين وأهل الثروة الطاغين، نشأ مبدأ العلمانية وفصل الدين عن الدولة (في الحالة اللبرالية)، وعن الحياة (في الحالة الشيوعية).
وبدأ الغرب يتمحور حول الإنسان كقضية والعقل كهاد ومرشد. سعى الغرب لتحقيق شعارات طالما لامست هموم شعوبه وتطلعاتهم: الحقوق والحريات. وفي سبيل إغلاق الباب أمام عودة الكنيسة وهيمنتها المطلقة أقر الغرب مبدأ “حرية العقيدة”، باعتباره أحد المبادئ العليا والمركزية في ثقافته الفكرية والعلمية والقانونية والأخلاقية.
وأعطى الغرب تحت هذا المبدأ “حرية العقيدة” لكل أفراده اختيار ما يحلو لهم من دين أو معتقد أو فكر أو مذهب، حتى أتخم في مجتمعاته بكل ما يمكن تصوره من ديانات وعقائد وأفكار ومذاهب متناقضة ومتضادة.
وتحت تأثير الصدمة الحضارية وقع الكثير مبهورين ومأسورين لثقافة الغرب حد السكر بمفاهيمه ومصطلحاته ونظرياته وشعاراته، والهيام بها، دون وعي بظلال معانيها ومقتضياتها ولوازمها وانعكاساتها وآثارها على مجالات العقيدة والفكر والشعور والسلوك لدى المسلمين.
ومن ذلك مبدأ وشعار “حرية العقيدة”، الذي ذهب البعض لتبنيه بقوة، مبشرا به كمخلص للمسلمين من نزاعاتهم الداخلية المستندة للدين والمعتقد!.
وللتبشير به ذهب يلوي أعناق النصوص ويحرف معانيها، ويرفض تفسير الأولين لها، أو يقيدها بالسياق الظرفي تكلفا، في حين يرد على كل ما يعارض هذا المبدأ من مقررات عقدية وأصولية وفقهية، بما في ذلك حرمة الردة فضلا عن حدها. حتى أن البعض يرى أن الردة حق مشروع وأمر مباح في الدين!!.
إن مبدأ “حرية العقيدة” في بلاد الكفر يعطي مساحة للإسلام والإيمان الذي وصفه الله بالحق والهدى والصلاح والخيرية والعدل للنفاذ إلى تلك المجتمعات. فهو مما يفتح عليهم نافذة للنور وبابا للخير. هذا بغض النظر عن حال المسلمين وواقعهم ومدى قربهم وبعدهم عن الله. فرغم ذلك كله فإننا نشهد إسلام كثير من الأوربيين والأمريكيين وغيرهم من البلاد المنفتحة مع اطلاعهم على القرآن وثقافة الإسلام، دون أن يلتفتوا للتطبيق السيء للإسلام من قبل المسلمين، لأن الإسلام جميل مقبول مقنع بذاته لا بحملته.
أما الدعوة ل”حرية العقيدة” في بلاد المسلمين فهي انتكاسة وتخلف وعودة للجاهلية، ومناقضة لكل نصوص القرآن وأحكامه التي أشرت لها سابقا. وفتح باب الردة للمسلمين بدعوى “حرية العقيدة” مناف لغاية إرسال الرسل وإنزال الكتب والدعوة والحسبة والجهاد، وأي استدلال بآيات الإخبار القدري الكوني عن وقوع الكفر واختلاف البشر بين مؤمن وكافر لإقرار حرية العقيدة هو شبيه باستدلال إبليس بإغواء الله له، واستدلال المشركين على فعلهم الشرك بمشيئة الله الكونية، واستدلال
دعاة الزنا واللواط والفجور بالغرائز التي خلقها الله وتحتاج إشباعها، واستدلال العصاة بالقدر.. سواء بسواء. لأن آيات الإخبار القدري الكوني ليست آيات تشريع وإذن، وإلا فكل ما ذمه الله تعالى في القرآن إخبارا بوقوعه كونا يكون مأذونا به!. وهذا لا يقول به إلا سفيه أحمق، لا يفقه دين الله ولا يعرف حقيقة العلاقة بين الكفر والإيمان تاريخيا، ودور الشيطان في إغواء الخلق، وضعف الحالة البشرية أمام ذلك الإغواء.
وعدا عن وصول نور الإسلام إلى الغرب من خلال مبدأ “حرية العقيدة” إلا أن الغرب في المقابل انحدر في كل صور الشرك والفساد في الأرض حتى أصبح قائد عالم الشر بلا منازع، فالصورة ليست وردية كما يريد البعض تصويرها، بل مأساوية لمن عايشها عن قرب ولمس أحوال تلك المجتمعات.
لقد كانت دول الكفر قديما دولا دينية منغلقة على عقائدها وشريعتها، لا تسمح بتحول الناس فيها من دين لدين آخر، بل ربما تقتل المتحول منها إلى دين آخر.
لذلك لما بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رسله إلى ملوك الأرض أبدوا عدم القبول لرسالته والحؤول دون بلوغها إلى رعاياهم، فكسرى مزق خطاب الرسول وتهدد وتوعد، وهرقل أراد أن يقبل قومه بالإسلام فأوشك الملأ منهم أن يتمردوا عليه، وكذلك بقية الملوك، عدا النجاشي.
هذا الانغلاق في تلك الحقبة لم يكن ممكنا اختراقه بشعار “حرية العقيدة”، لأنه ليس حلا طالما والآخر لا يلتزمه، والتزام المسلمين به يعني نقض تميز دينهم عن غيره طالما وأن الله سوى بينه وبين غيره في الاختيار والإباحة.
ولم يكن ممكنا اختراقه إلا بكسره عبر كسر قوة السلطة الطاغية المهيمنة عليه، ولكن مع ابقاء متاحات أخرى للاختيار تعرض على الكفار، وهي:
– أن يدخلوا في ديننا وملتنا، فيكونون منا وإخوة لنا في الدين،
– أو أن يدخلوا في دولتنا، مع بقائهم على دينهم، دون أن نتدخل في شئونهم ولا أن يتدخلوا في شئوننا، ولهم علينا: معايشتهم، والدفاع عنهم، وحماية مصالحهم، والعدل في الحكم بينهم إن لجؤوا إلينا، أو بينهم وبين غيرهم، ولنا عليهم: أن لا يدعووا ويبشروا بدينهم في أوساطنا، وأن لا ينالوا من ديننا ولا دولتنا ولا أمتنا، وأن لا يجاهروا بشعائرهم الشركية استعلاء بها في أوساطنا،
– أو أن يصالحونا ويسالمونا فلا يعتدوا على: ديننا أو دولتنا أو أمتنا (فرادى أو جماعات) أو أهل ذمتنا وجوارنا أو مصالحنا، فنصالحهم ونسالمهم،
– أو أن يقاتلونا ونقاتلهم مقاتلة الخصم الشريف لخصمه الشريف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، طالما وأنهم سيغلقون باب نفاذ النور إلى مجتمعاتهم.
وهذه الخيارات هي من قبيل متاحات للنفاذ إليهم، لا أنها التزام وإعلاء لمبدأ “حرية العقيدة” بالمطلق. صحيح أنه بموجب هذه الخيارات يحق للكافر أن يختار بين الدخول في الإسلام أو البقاء على الدين الذي هو عليه لكن ليس من منطلق الإباحة للكفر ذاته وإنما إقرارا له عليه.
وبمعنى آخر إنها حرية اختيار موقفهم منا كي نختار موقفنا منهم. ولو كان الإسلام يقر أساسا بحريتهم في الاعتقاد لم يكن ليلجئهم لخيارات هو يراها ويحددها سلفا دونهم.
إن انفتاح البعض مع مبدأ “حرية العقيدة” حد إطلاق الكلام بجواز الردة، وأن الردة أمر مباح في الإسلام كبقية المباحات، ليس عليه أثرة من هداية الوحي أو نور العقل، ولا يملك أصحابه له حجة أو دليلا سوى نصوص الإخبار القدري التي ترد في القرآن الكريم أو السنة النبوية.
وهؤلاء عرفوا أم لم يعرفوا يسقطون وجوب الإيمان والإسلام، وتحريم الكفر والشرك، لأنه لا يمكن الجمع بين القول بإباحة وجواز الردة ووجوب الإيمان والإسلام. فأصوليا ومنطقيا وقانونيا الأمر بالشيء وإيجابه نهي عن ضده وتحريم له، بل ونهي وتحريم لأسبابه ومداخله والسبل المفضية له.
فلا يجتمع القول بإيجاب الصلاة وإباحة تركها، وإيجاب الصيام وإباحة جحوده، وإيجاب اتباع خاتم الرسل وإباحة تصديق مدعي الرسالة!!.
وإذا كان الله تعالى لم يبح من الأقوال والأفعال والألبسة والأطعمة والأشربة والملبوسات والأنكحة وغيرها إلا ما كان طيبا ونافعا للخلق، ومحرما منها الخبيث والضار، هذا في تفاصيل القضايا والأمور الدنيوية التي قد لا يبنى عليها هلاك أخروي، فكيف يبيح ما هو ضرر محض وخبث ورجس وضلال وباطل وغي في ذاته؟!.
سبحانك هذا بهتان عظيم!.
لقد ذم الله تعالى بأوضح العبارات في كتابه الارتداد عن الدين وتبديله والتحول عنه وإخلاف وعده ونقض عهده وهجر كتابه ومخالفة رسوله ومشاقة سبيل المؤمنين.. وهذه جميعا أوصاف تتحقق في المرتد فكيف يقال بعد ذلك بإباحة الردة؟!.
سبحانك هذا بهتان عظيم!.
كما ذم سبحانه الكافر الأصلي والمنافق الذي لم يظهر كفره وتوعدهم وتهددهم بعقوبات الدنيا والآخرة، من عنده أو بأيدي المؤمنين، فكيف بمن عرف الطريق وبان له الحق وعرف الإسلام والإيمان ثم أعلن ردته صراحا عنه؟! أليس هذا أولى من السابقين ذما ووعيدا وتهديدا؟!.
وقوم يقول الله عنهم: ((إِنَّ الَّذِینَ كَفَرُوا بَعدَ إِیمَـٰنِهِم ثُمَّ ٱزدَادُوا كُفرࣰا لَّن تُقبَلَ تَوبَتُهُم وَأُولَـٰۤئكَ هُمُ الضَّاۤلُّونَ))، آل عمران: ٩٠. و((إِنَّ الَّذِینَ ءَامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا۟ ثُمَّ ءَامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازدَادُوا۟ كُفرࣰا لَّم یَكُنِ ٱللَّهُ لِیَغفِرَ لَهُم وَلَا لِیَهدِیَهُم سَبِیلَۢا))، النساء: ١٣٧. و((كَیفَ یَهدِی ٱللَّهُ قَومࣰا كَفَرُوا۟ بَعدَ إِیمَـٰنِهِم وَشَهِدُوۤا أَنَّ الرَّسُولَ حَقࣱّ وَجَاۤءَهُمُ البَیِّنَـٰتُۚ وَٱللَّهُ لَا یَهدِی ٱلۡقَومَ ٱلظَّـٰلِمِینَ))، آل عمران: ٨٦، يحرمون التوبة والمغفرة والهداية كيف يتسنى إباحة الردة لهم بعد ذلك طالما وستغلق عليهم منافذ الأوبة؟!
سبحانك هذا بهتان عظيم!.
وقد أظهر قوم كفرهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الله فيهم: ((یَحلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَد قَالُوا كَلِمَةَ الكُفرِ وَكَفَرُوا بَعدَ إِسلَـٰمِهِم وَهَمُّوا۟ بِمَا لَم یَنَالُوا۟ۚ وَمَا نَقَمُوۤا إِلَّاۤ أَن أَغنَاهُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ مِن فَضلِهِۦۚ فَإِن یَتُوبُوا۟ یَكُ خَیرࣰا لَّهُم وَإِن یَتَوَلَّوا یُعَذِّبهُمُ ٱللَّهُ عَذَابًا أَلِیمࣰا فِی الدُّنیَا وَالآخِرَةِۚ وَمَا لَهُم فِی ٱلأَرضِ مِن وَلِیࣲّ وَلَا نَصِیرࣲ))، التوبة: ٧٤. ثم يأتي من يمنح حق الردة للمسلمين تأليا على الله وكذبا على وحيه وافتراء على شرعه ودينه!.
سبحانك هذا بهتان عظيم!.