مقالاتمقالات مختارة

حركة النهضة التونسية: بين واقع العلمنة ومتخيل الأسلمة

حركة النهضة التونسية: بين واقع العلمنة ومتخيل الأسلمة

بقلم عادل بن عبدالله

في هذا السياق “الموبوء” الذي أعاد فيروس كورونا ترتيب قضاياه ليدفع بالقضايا الصغرى إلى واجهة المشهد العام، قد يبدو طرح علاقة حركة النهضة التونسية بالعلمانية أو بمشاريع الأسلمة ضربا من الترف النخبوي أو نوعا من “الإلهاء” عن المواضيع الأشد ارتباطا باحتياجات المواطنين ومشاكلهم الواقعية. إنه اعتراض منطقي في ظاهره، ولكنه يفقد قيمته إذا ما تجاوزنا البنى السطحية للخطابات / للخيارات السياسية وبحثنا في بناها/ دلالاتها العميقة التي قد لا تتوافق مع منطوق أصحابها بالضرورة، سواء أكانوا من خصوم النهضة أم من النهضويين أنفسهم.

وبالإضافة إلى ذلك، فإن الانقسام الأخطر الذي يحكم هندسة الحقل السياسي التونسي – بل العربي – يظل هو التقابل بين “الأحزاب الديمقراطية” أو العلمانية، وبين الأحزاب الإسلامية التي لم يستطع مفهوم “المسلم الديمقراطي” مثلا أن يحمل النخب العلمانية على التطبيع معها بصورة مبدئية.

وسنحاول في هذا المقال – بصورة مختزلة ولكنها غير مخلّة بالنسق الحجاجي – أن نجيب عن السؤال التالي: هل يمكن للحركات الإسلامية التي قبلت بالعمل القانوني وانتقلت من منطق البديل للنخب العلمانية إلى منطق الشراكة معها داخل النصاب السياسي الحديث (أي الدولة- الأمة)؛ ألاّ تتعلمن مهما كانت تمثلاتها أو تمثلات أنصارها لحقيقة دورها التاريخي؟ وإن شئنا صياغة السؤال بطريقة مختلفة فإننا سنقول: هل إن وجود تلك الحركات في السلطة – كما هو الشأن في تونس أو المغرب – سيشكك في الأسس الفلسفية للعلمنة ذاتها، أم إنه فقط سيفرض إعادة التفاوض الجماعي على شكل جديد من العلمانية؛ قد يقطع مع النموذج اللائكي الفرنسي ولكنه لن يخرج من منطق العلمنة وإن تبنى نماذج مختلفة، كالنموذج الأنجلوساكسوني أو غيره؟

هل يمكن للحركات الإسلامية التي قبلت بالعمل القانوني وانتقلت من منطق البديل للنخب العلمانية إلى منطق الشراكة معها داخل النصاب السياسي الحديث (أي الدولة- الأمة)؛ ألاّ تتعلمن مهما كانت تمثلاتها أو تمثلات أنصارها لحقيقة دورها التاريخي؟

اللائكية الفرنسية.. الغائب الأهم في السجال العمومي

لا يعلم الكثير من أنصار حركة النهضة أن زعيمهم ورئيس حركتهم الأستاذ راشد الغنوشي كان خلال مرحلة نفيه في بريطانيا متأثرا بالطرح الذي قدمه المرحوم عبد الوهاب المسيري، ذلك الطرح القائم على التمييز بين العلمانية الشاملة والعلمانية الجزئية. كما لا يعلمون أن الأستاذ الغنوشي كان يتبنى العلمانية الجزئية، ولا يرى فيها أي تعارض مع المرجعية الإسلامية لحركة النهضة.

ولكن لما كانت العلمانية من الكلمات سيئة السمعة في المجال التداولي للإسلاميين، كما قال المرحوم المسيري نفسه – لأسباب فقهية تتعلق بهيمنة الطرح السلفي الرافض لها باعتبارها فلسفة “كُفرية”، ولأسباب تاريخية تتعلق بمعاناة الإسلاميين من التنزيل السلطوي لتلك الفلسفة السياسية داخل تونس أو غيرها – فقد دفع زعيم النهضة بهذا المفهوم إلى الهامش، ولا يُذكر له أي استعمال للعلمانية الجزئية أو دفاع عنها منذ رجوعه إلى تونس بعد الثورة.

لقد كان مفهوم “العلمانية الجزئية” مدخلا جيدا لإعادة التفاوض في شأن “اللائكية الفرنسية” التي كانت أقرب ما تكون إلى تجسيد مفهوم “العلمانية الشاملة”، حسب طرح المرحوم عبد الوهاب المسيري. ولكنّ حركة النهضة اختارت – لأسباب يحتاج شرحها إلى دراسات معمقة – تحييد هذا المفهوم والدفع به إلى منطقة المكبوت أو اللا مفكر فيه ضمن السجال العمومي الذي أعقب الثورة.

الأستاذ الغنوشي كان يتبنى العلمانية الجزئية، ولا يرى فيها أي تعارض مع المرجعية الإسلامية لحركة النهضة

أما النخب “الحداثية” فقد كانت تدافع عن النموذج اللائكي الفرنسي وكأنه النموذج العلماني الأوحد، نموذج انبنى عليه “النمط المجتمعي التونسي” ولا يمكن أن يقابله إلا “الأسلمة”، أو بصورة أصح “أخونة المجتمع”، مع ما يعنيه ذلك من تهديدات مؤكدة لمكاسب المرأة وللحريات الفردية والجماعية. ولعل ما قامت به حركة النهضة من تغييب لمفهوم العلمانية الجزئية أو من طرح للتفاوض الجماعي حول شكل علماني مختلف لهندسة المجتمع؛ قد جعل الصراع يتخذ طابعا حديا ويدار بمفردات وجودية أساسها النفي المتبادل.

“المسلم الديمقراطي”.. وهشاشة التأسيس النظري

بغياب التبني الصريح للعلمانية، مع الدعوة إلى التفاوض حول نموذج مختلف عن اللائكية الفرنسية، لم يكن لمفهوم “المسلم الديمقراطي” أن يُغير شيئا في وعي القاعدة الانتخابية لحركة النهضة وفي انتظاراتها ذات الأساس الديني التقليدي، كما كان ذلك الغياب يمنع إدارة الخلاف مع النخب “اللائكية” على أرضية مختلفة عن أرضية الصراع الإسلامي/ العلماني بمعانيه ورهاناته وحلوله الموروثة عن الزمن الاستبدادي.

بغياب التبني الصريح للعلمانية، مع الدعوة إلى التفاوض حول نموذج مختلف عن اللائكية الفرنسية، لم يكن لمفهوم “المسلم الديمقراطي” أن يُغير شيئا في وعي القاعدة الانتخابية لحركة النهضة وفي انتظاراتها ذات الأساس الديني التقليدي

ونحن نذهب إلى أنّ عدم التفاوض حول اللائكية الفرنسية هو أحد أسباب استمرار صراع “الهويات القاتلة” في تونس، بل هو أحد أهم أسباب العودة المظفرة للسردية البورقيبية باعتبارها “الخطاب الكبير” بعد الثورة، مع ما يعنيه ذلك من ترسيخ لعلاقة التبعية الاقتصادية والثقافية لفرنسا، تلك التبعية التي تعيق انبثاق أي مشروع وطني للتحرر أو لاكتساب مقومات السيادة، في إطار توافقات أو تسويات كبرى بين النخب التونسية على اختلاف مرجعياتها الأيديولوجية وسردياتها “الخلاصية” الدينية أو المعلمنة.

إن من المبالغة أن نقول بأن هشاشة الانتقال الديمقراطي في تونس تعود إلى نزعة استئصالية “جوهرانية” تحكم النخب اللائكية في علاقتهم بالإسلاميين، إذ أن الأقرب إلى الموضوعية والإنصاف أن نقول إن جزءا من تلك الهشاشة يعود إلى خيارات حركة النهضة ذاتها، وعدم جرأتها على الحسم في قضية “العلمانية” أو الأسس الفلسفية الحديثة لهندسة الفضاء العام وإدارة الاختلاف بين الفاعلين الجماعيين.

فحركة النهضة – لأسباب ترجع إلى حسابات انتخابية ضيقة – ترفض الاعتراف بطابعها “العلماني” أو ترفض أن تأخذ بجدية خيار العمل السياسي القانوني تحت سقف دستور الدولة- الأمة، خوفا من خسارة جزء كبير من قاعدتها الانتخابية المحافظة أو المتدينة. فماذا يعني أن تتحول الحركة من بديل للنخب اللائكية إلى شريك لها؟ وماذا يعني الاحتكام عند الخلاف إلى الدستور والقوانين الوضعية؟ وماذا يعني الاحتكام إلى إرادة الناخبين وإلى صناديق الاقتراع لاكتساب الشرعية؟ بل ماذا يعني الاعتراف بأن يكون “الإسلام” جزءا من مرجعية التشريع للمجتمع لا مرجع التشريع الأوحد؟

بأي معنى يمكن للنهضة أن تكون جزءا من “الكتلة التاريخية”؟

النهضة لن تستطيع مغادرة هذه “الوظيفة” إلا عندما تمتلك الشجاعة للاعتراف بطابعها “العلماني” من جهة أولى، ثم تنحاز من جهة ثانية بصورة مبدئية للمقهورين وضحايا المنظومة بصرف النظر عن خياراتهم الفكرية والسلوكية، رغم ما يعنيه ذلك من خسارة لجزء مهم من قاعدتها الانتخابية

إننا أمام اندراج كامل لحركة النهضة في مسار العلمنة – أو بالأحرى تَونسة النموذج المجتمعي الفرنسي دون تفاوض جماعي حقيقي بعيدا عن خيارات النخب وسياسات التحديث الفوقي – ولكنها بحكم عجزها عن طرح اللائكية الفرنسية على طاولة السجال العمومي وإعادة التفاوض الجماعي حولها؛ وجدت نفسها واقعيا مجرد طابور خامس لتلك اللائكية التي استطاعت بوجود حركة النهضة أن تحقق من المكاسب ما عجزت عن تحقيقه في لحظتي الحكم الدستورية والتجمعية: تقنين الجنسية المثلية، ونشر نقاط بيع الخمر في أغلب مناطق الجمهورية، وتكريس التبعية الشاملة لفرنسا وفتح مكتب للفرانكفونية في تونس (أي مكتب للاستخبارات الخارجية الفرنسية)، والضرب الممنهج لمقومات الهوية الجماعية عبر تعبيرات إعلامية وفنية متعددة، ومنع إعادة التفاوض على شروط التبادل اللا متكافئ بين تونس وفرنسا، وترسيخ هيمنة الفرنسية واللهجة المحكية والعجز عن إصلاح التعليم أو تعريبه، تعدد مظاهر التطبيع مع الكيان الصهيوني ومع وكلائه في تونس وخارجها.. الخ.

ولا شك عندنا في أن حركة النهضة لن تستطيع مغادرة هذه “الوظيفة” إلا عندما تمتلك الشجاعة للاعتراف بطابعها “العلماني” من جهة أولى، ثم تنحاز من جهة ثانية بصورة مبدئية للمقهورين وضحايا المنظومة بصرف النظر عن خياراتهم الفكرية والسلوكية، رغم ما يعنيه ذلك من خسارة لجزء مهم من قاعدتها الانتخابية، لكنها خسارة معقولة لأنها ستعوّضها بربح استراتيجي أهم: قاعدة انتخابية جديدة ستكون بالضرورة جزءا من “الكتلة التاريخية” أو من النواة الصلبة لأي مشروع وطني حقيقي.

(المصدر: عربي21)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى