حرب المصطلحات ” جولة حول إحدى تقنيات الحداثيين في أطروحاتهم “
إعداد عمار بن محمد الأراكاني
للتحميل كملف PDF اضغط هنا
المقدمة:
الجوهر والعرض والجنس والفصل والماصدق والمركب والذرة والمتحيز واللامحدود وغيرها من المصطلحات، دخلت على المجتمع الإسلامي وأرَّقته دهرًا من الزمان، وأشغلت طلبة العلم الشرعي الراغب في فهم كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ورد الشبهات المثارة حولهما، سواء من التيارات الفلسفية أو المنطقية أو الكلامية.
ومن أكبر الإشكالات التي واجهت علماء الإسلام الألفاظ المجملة والمصطلحات الفضفاضة، التي تحتمل حقًّا وباطلًا، وتضمّ في نفسها طيبًا وخبيثًا، ويختلط فيه الفاسد مع الصالح، ويختلط على الناس الحق مع الباطل، ولا يدري المرء حينها مع أيٍّ الحق، وتزداد الحاجة إلى العلماء الراسخين المحقِّقين؛ ليبيِّنوا للناس ويرشدوهم سبل السلام.
لا يخفى أن لليهود النصيبَ الوافر من هذا التلاعب والتحايل على المصطلحات الشرعية، وتبديلها وتغييرها، فقد قال الله تعالى لهم: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [البقرة: 58، 59]، فبدلوا القول الذي أمرهم الله به، وقالوا قولا غير الذي أمروا أن يقولوه([1])، ولما حرم الله تعالى عليهم الشحوم جملوها وأذابوها ثم أكلوا ثمنها؛ إيهامًا بأنها ليست الشحوم المحرمة عليهم([2]).
واليوم نجد التيار الحداثي يحذو حذو أولئك في توليد المصطلحات بشكل ملحوظ داخل الفضاء الإسلامي، ولا يخطئ القلم حين يُسمِّيه هوسًا بتوليد المصطلحات، فقد غدا أسلوبًا واضحًا من أساليبهم، ونمطًا من أنماط الكتابة لديهم، وسمة من السمات التي يعرفون بها بين الكتاب.
وقد يعترض معترض بأن القاعدة الشهيرة أنه “لا مشاحة في الاصطلاح”؛ ولذا من هنا نبدأ بتأصيل هذه القضية ثم ننتقل للحداثيين.
توليد المصطلحات بين التجديد والتضليل:
توليد مصطلحات جديدة وصياغة لدليل سابق؛ مثل: أن يعرض الإنسان مسألة من المسائل أو دليلًا من دلائله بلغة عصرية ومصطلحات حديثة ومعانٍ مستخدمةٍ في زمننا، فهذا له حالات كثيرة ومقاصد متباعدة، منها:
- أن يقصد به توضيح العلم ومسائله ودلائله؛ بتسهيله واستبدال مصطلحاته بمصطلحات قريبة من العقول ومفهومة في الأذهان، لإفهام المبتدئين ممن لا يستوعب المستويات العالية في اللغة، فهذا لا إشكال فيه، ولكن يشترط فيه ألا يكون لفظًا مجملًا يحمل في مبناه معنًى باطلًا، وذلك أن “مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم ولغتهم ليس بمكروه -إذا احتيج إلى ذلك وكانت المعاني صحيحة- كمخاطبة العجم من الروم والفرس والترك بلغتهم وعرفهم، فإن هذا جائز حسن للحاجة، وإنما كرهه الأئمة إذا لم يحتج إليه، ولهذا قال النبي لأم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص -وكانت صغيرة ولدت بأرض الحبشة؛ لأن أباها كان من المهاجرين إليها- فقال لها: «يا أم خالد، هذا سناه»([3])، والسنا بلسان الحبشة: الحسن؛ لأنها كانت من أهل هذه اللغة. وكذلك يترجم القرآن والحديث لمن يحتاج إلى تفهيمه إياه بالترجمة، وكذلك يقرأ المسلم ما يحتاج إليه من كتب الأمم وكلامهم بلغتهم”([4]). وهنا ينبغي التنبُّه إلى أن هذه مرحلة استثنائية وليست هي الأصل، أو قل: مرحلة مؤقتة، ولا شك أن من يستطيع فهم المصطلحات القرآنية والنبوية مباشرة أجل وأعلى منزلة ممن يحتاج إلى من يوضِّح له تلك المصطلحات بما هو في دائرة مصطلحاته وبيئته.
- أن يقصد به التعمية والغموض وإمرار بعض الأفكار والمنتجات الأجنبية الدخيلة على الأمة الإسلامية، وهذا مكمن الخطر في فتح باب المصطلحات على مصراعيه، فإن استبدال أمة لألفاظها بألفاظ غيرها، أو تركها مصطلحاتها واستعمالها لمصطلحات أمة أخرى لا يحصل غالبًا إلا نتيجة ضعف وانهزام الأولى أمام الأخرى، أو نتيجة انبهار الأولى بالثانية وتعظيمها لها، فهذا أحد المزالق المهلكة التي انزلق فيها بعض من فتن بالموجة اليونانية من علماء الإسلام، وهو ما يؤدِّي غالبًا إلى الإعراض عن المصطلحات القرآنية والنبوية، واستبدالها بمصطلحات دخيلة مجملة، ولا تؤدي ذات المعنى الذي تؤديه المصطلحات القرآنية والنبوية، بل إنها تأتي محمَّلة بأثقال من الأفكار والدلائل، منها ما هو باطل، ومنها ما هو حق، وهذا لا شك أنه نوع تضليل وتوعير لسبيل الحق، وصد عن سبيل الله سبحانه وتعالى، وهنا لا بد أن ننبه إلى قضية هامة، وهي الحالة الثالثة:
- أن يقصد الإعراض عن المصطلحات القرآنية والنبوية؛ بحجة أنها مصطلحات قديمة ومستهلكة، وغير متناسبة مع عصرنا الذي شهد ثورة في المصطلحات والأفكار، وعليه فيجب علينا استبدال المصطلحات القديمة (مصطلحات القرآن والسنة) بالمصطلحات الحديثة، كمصطلحات العلوم الحديثة من علم النفس وعلم الاجتماع وغيرها من العلوم، ولا شك أن هذا مذموم؛ فإن المصطلحات القرآنية والنبوية ونصوصهما ومعانيهما يجب أن يُجعلا هما الأصل وإليهما المرجع؛ إذ فيهما الحجة، كما أنهما أبعد عن الغلط والخلط وأقرب إلى الدقة والضبط، وفي هذا يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: “فالمقصود أن معرفة ما جاء به الرسول وما أراده بألفاظ القرآن والحديث هو أصل العلم والإيمان والسعادة والنجاة، ثم معرفة ما قال الناس في هذا الباب لينظر المعاني الموافقة للرسول والمعاني المخالفة لها، والألفاظ نوعان: نوع يوجد في كلام الله ورسوله، ونوع لا يوجد في كلام الله ورسوله. فيعرف معنى الأول ويجعل ذلك المعنى هو الأصل، ويعرف ما يعنيه الناس بالثاني ويرد إلى الأول، هذا طريق أهل الهدى والسنة.
وطريق أهل الضلال والبدع بالعكس: يجعلون الألفاظ التي أحدثوها ومعانيها هي الأصل، ويجعلون ما قاله الله ورسوله تبعًا لهم، فيردونها بالتأويل والتحريف إلى معانيهم، ويقولون: نحن نفسر القرآن بالعقل واللغة، يعنون: أنهم يعتقدون معنى بعقلهم ورأيهم ثم يتأوَّلون القرآن عليه بما يمكنهم من التأويلات والتفسيرات المتضمنة لتحريف الكلم عن مواضعه؛ ولهذا قال الإمام أحمد: أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس”([5]).
ومن أهم الأحوال التي ينبغي لنا إفرادها بالذكر والتنبيه: أن يكون المصطلح حاملًا للحق والباطل في ذاته؛ مما يؤدي إلى تلبيس الحق بالباطل، وتضليل الناس عن الحق وكتمانه، كما فعلت اليهود والنصارى حين أرادوا التضليل والتعمية، فنهاهم الله تعالى عن ذلك بقوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 71].
فخلط الحق بالباطل مذموم، ويسبّب كتمان الحق وضياعه بين الناس، كما أنه سبب انحراف أهل الكتاب وضلالهم، وسواء أعرف الباحث أو الكاتب أن ذلك المصطلح يتضمَّن باطلًا أو لم يعرف، وسواء أقَصد نشر ذلك اللبس أو لم يقصده، فإن هذا غير مؤثر ما دام أنه يؤدي إلى الإضلال والتحريف، وهذا ما حصل بالفعل في تاريخ الأمة، فحين ترجمت الكتب اليونانية وانبهر بها من انبهر، سواء بعلومها أو منظوماتها الفكرية أو قضاياها أو ألفاظها ومصطلحاتها، فانطلقت طائفة من العلماء يريدون صياغة الأدلة الدينية الشرعية ومسائلها بمصطلحات أولئك القوم، فصاغوها العلم الشرعي بمصطلحاتهم واستمدوا منهم الألفاظ، وصبغوها بالصبغة الشرعية؛ فالتبس الحق بالباطل، ودخل الفساد على الناس من ذلك الباب، سواء أكان الفساد في باب التصورات إذ ارتبطت بتصورات اليونان تبعًا لمصطلحاتهم، أو المعاني والتصديقات، وانشغلت الأمة بحل تلك الإشكالات، فهذا السبيل من سبل الفتنة في الدين، وإفساد التصورات العقلية واللسانية، والإشغال بما لا ينفع أهل الإسلام، بل ينفع أعداء الإسلام([6]).
ولذا كرهه السلف رحمهم الله، فإن “السلف والأئمة لم يكرهوا الكلام لمجرد ما فيه من الاصطلاحات المولَّدة كلفظ الجوهر والعرض والجسم وغير ذلك؛ بل لأن المعاني التي يعبرون عنها بهذه العبارات فيها من الباطل المذموم في الأدلة والأحكام ما يجب النهي عنه؛ لاشتمال هذه الألفاظ على معان مجملة في النفي والإثبات، كما قال الإمام أحمد في وصفه لأهل البدع، فقال: (هم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، متفقون على مخالفة الكتاب، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويلبّسون على جهال الناس بما يتكلمون به من المتشابه).
فإذا عُرفت المعاني التي يقصدونها بأمثال هذه العبارات ووُزنت بالكتاب والسنة؛ بحيث يُثبت الحق الذي أثبته الكتاب والسنة، ويُنفي الباطل الذي نفاه الكتاب والسنة، كان ذلك هو الحق، بخلاف ما سلكه أهل الأهواء من التكلم بهذه الألفاظ نفيا وإثباتا في الوسائل والمسائل؛ من غير بيان التفصيل والتقسيم الذي هو الصراط المستقيم”([7]).
وقد قصَّ علينا الإمام ابن القيم تاريخ الإغواء بالمصطلحات منذ الزمن الأول، وكيف كان التدرج شيئًا فشيئًا في هذا السبيل حتى عزلوا الكتاب والسنة عن الحجية، ونصَّبوا أقوال الرجال مكانهما، يقول ابن القيم رحمه الله: “ينبغي للمفتي أن يفتي بلفظ النص مهما أمكنه، فإنه يتضمن الحكم والدليل مع البيان التام، فهو حكم مضمونٌ له الصواب، متضمن للدليل عليه في أحسن بيان، وقول الفقيه المعيَّن ليس كذلك، وقد كان الصحابة والتابعون والأئمة الذين سلكوا على منهاجهم يتحرون ذلك غاية التحري، حتى خَلَفت من بعدهم خلوف رغبوا عن النصوص، واشتقوا لهم ألفاظًا غير ألفاظ النصوص، فأوجب ذلك هَجر النصوص، ومعلوم أن تلك الألفاظ لا تفي بما تفي به النصوص من الحكم والدليل وحسن البيان، فتولَّد من هجران ألفاظ النصوص والإقبال على الألفاظ الحادثة وتعليق الأحكام بها على الأمة من الفساد ما لا يعلمه إلا اللَّه، فألفاظ النصوص عِصمة وحجةٌ بريئة من الخطأ والتناقض والتعقيد والاضطراب، ولما كانت هي عصمة عهدة الصحابة وأصولهم التي إليها يرجعون كانت علومهم أصح من علوم من بعدهم، وخطؤهم فيما اختلفوا فيه أقل من خطأ من بعدهم، ثم التابعون بالنسبة إلى من بعدهم كذلك، وهلم جرًّا.
ولما استحكم هجران النصوص عند أكثر أهل الأهواء والبدع كانت علومهم في مسائلهم وأدلتهم في غاية الفساد والاضطراب والتناقض.
وقد كان أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إذا سُئلوا عن مسألة يقولون: قال اللَّه كذا، قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كذا، وفعل كذا، ولا يعدلون عن ذلك ما وجدوا إليه سبيلًا قط، فمن تأمل أجوبتهم وجدها شفاء لما في الصدور، فلما طال العهد وبعُد الناس من نور النبوة صار هذا عيبًا عند المتأخرين أن يذكروا في أصول دينهم وفروعه قال اللَّه وقال رسول اللَّه، أما أصول دينهم فصرحوا في كتبهم أن قول اللَّه وقول رسوله لا يفيد اليقين في مسائل أصول الدين، وإنما يحتج بكلام اللَّه ورسوله فيها الحشوية والمجسمة والمشبهة، وأما فروعهم فقنعوا بتقليد من اختصر لهم بعض المختصرات التي لا يذكر فيها نص عن اللَّه تعالى، ولا عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ولا عن الإمام الذي زعموا أنهم قلدوه دينهم، بل عمدتهم فيما يفتون ويقضون به وينقلون به الحقوق ويبيحون به الفروج والدماء والأموال على قول ذلك المصنِّف، وأجلّهم عند نفسه وزعيمهم عند بني جنسه من يستحضر لفظ ذلك الكتاب”([8]).
واقع التيار الحداثي في حرب المصطلحات:
في التيار الحداثي نجد المساوئ والمخازي التي ذكرناها مجتمعةً، سواء أتكلمنا عن التعمية والغموض في الكلام، ولا ندري أكان ذلك بغية الهروب من المساءلة أم غير ذلك؟ أو تكلمنا عن الانبهار بالمصطلحات الدخيلة وتفضيلها وتقزيم المصطلحات القرآنية والنبوية والإعراض عنها، أو كان الحديث عن لبس الحق بالباطل وتضليل القارئ.
أمثلة من كتابات أركون:
لا أظن أحدًا يختلف في أن أفضل من يصرِّح بحالة الرجل لسانه، فهذا أركون يصرِّح بغموض ألفاظه ومصطلحاته وأهمية استبدال المصطلحات القديمة (مصطلحات القرآن والسنة) بمصطلحات العلوم الحديثة (الغربية)، وينص عليه في كتبه، ويشكو من قلة من يفهم نصه، ويستاء من شكاوى تلامذته فضلًا عن غيرهم من صعوبة جهازه المصطلحي والمفاهيمي كما يسمِّيه، ولكنه يبعد التهمة عن توليده المستمر للمصطلحات، ويضعها على عاتق الجهاز التعليمي والجهات المسؤولة عنها في الدول العربية، فيقول: “اكتشفت أن مستوى التعليم الثانوي والجامعي بعيد جدًّا عما يجب أن يكون عليه، خاصة فيما يتعلق بعلوم الإنسان والمجتمع؛ ولذا فإن معظم الطلبة الذين قرؤوا كتبي يشكون من صعوبة فهم الجهاز المفهومي أو المصطلحي الذي أستخدمه وأواصل تجديده وإثراءه؛ انطلاقًا من النصوص والمؤلفات والتجارب الفكرية الإسلامية في الواقع، إن تلك الصعوبة لا تعود إلى اتباعي لأسلوب معقد أو إلى كثرة المصطلحات الغريبة المعنى والنادرة الاستخدام، وإنما تعود إلى انعدام الأرضية المفهومية والمعرفية الخاصة بالعلوم الإنسانية والاجتماعية في اللغة العربية”([9]).
هنا نجد أركون يُرجع تهمة الصعوبة في الفهم وعدم استيعاب القراء لمصطلحاته المتجددة دائما إلى كون أولئك الطلبة لم يتوسعوا في المصطلحات الخاصة بالعلوم الإنسانية والاجتماعية في اللغة العربية!!
فما تلك المصطلحات الخاصة بتلك العلوم؟ أهي مصطلحات ابن خلدون أم غيره؟!
دعنا نرجع مرة أخرى إلى أركون ليوضح لنا ذلك، فقد وضحها بعد ذلك حيث قال: “وإنما تعود إلى انعدام الأرضية المفهومية والمعرفية الخاصة بالعلوم الإنسانية والاجتماعية في اللغة العربية، أي: لغة التلقي التي ينقل إليها فكر الحداثة، ناهيك عن جميع ما يخص بحوث ومناقشات (ما وراء الحداثة)… لا يمكن إدراك المقاصد المعرفية الخاصة بفصل (المكانة المعرفية والوظيفة المعيارية للوحي) إذا كان القارئ بعيدًا أو غافلًا عما جرى من مجادلات علمية ومناقشات فلسفية ولاهوتية حول ما أسميته بـ: (ظاهرة الوحي) في الأديان المرتبطة بالكتب المنزلة”([10]).
لينتقل بعد ذلك ويبيِّن أننا نحن المخطئون حين لم نأخذ عن الغرب والشرق مصطلحاتهم، والتزمنا بالمصطلحات القرآنية والنبوية ومصطلحات أئمة الإسلام كالإمام الطبري، فيقول أركون: “إن مفهوم الوحي في السياق القرآني قبل انتشار (المصحف الرسمي المغلق) كان أكثر اتساعًا من حيث الآفاق والرؤية الدينية مما آل إليه بعد انغلاق الفكر الإسلامي داخل التفسير التقليدي الموروث عن الطبري ومن نقل عنه حتى يومنا هذا، فقد أصبح الوحي بعدئذ منحصرًا فيما ورد في القرآن الكريم وحده؛ لأن المفسرين والمتكلمين والفقهاء انفصلوا عن القراءة التاريخية للوحي واكتفوا بالقراءة اللاهوتية الأرثوذكسية بالمعنى السني والشيعي والخارجي، ولم يختلف في ذلك موقف اليهود والمسيحيين؛ إذ حرصت كل أمة أو ملة على احتكار الوحي الكامل الصحيح لنفسها لتبعد الملل الأخرى عن فضل اصطفاء الله لها وحدها؛ ولذلك أصبح علم اللاهوت في الأديان الثلاثة المتنافسة ينحو نحو المماحكات الجدلية ونبذ الآخر أو طرده واستبعاده من فضل الاصطفاء الإلهي (أو من نعمة الاصطفاء الإلهي)”([11]).
وفي نص آخر يعتب على الباحثين اقتصارهم على تراثهم الإسلامي في كتاباتهم وكونها منعزلة عن مقارنات اللاهوتيين والفلسفيين وغيرهم من غير التراث الإسلامي، ويصرح بضرورة استبدال المعجم المستعمل في الجامعات والمعاقل العلمية حيث يقول: “لا يزال معظم الباحثين (من المسلمين وغير مسلمين) يكتبون تاريخ الفكر الإسلامي بمعزل عن التاريخ المقارن للأديان والأنظمة اللاهوتية والفلسفية. وقد بينت أن كلود كاهين والباحثين الذين يشاركونه في استشارتهم بضرورة نقد المصادر القديمة قبل استعمالها لكتابة التاريخ، يتبنون المعجم الخاص بالسياسية الشرعية، دون أن يقارنوه بمعجم اللاهوت السياسي المشترك للأديان المنزلة، ثم بمعجم الفلسفة السياسية الحديثة قبل وبعد انفصاله عن المعجم اللاهوتي القديم الذي لا يخلو منه أي دين من الأديان. ومن المعلوم أن هذا الثاني قد انتصر على الأول في أوروبا. ويمكن الجزم هنا أيضًا بأن الإطار المعرفي الذي يتشبَّث به الباحثون في الفكر الإسلامي والدارسون للمجتمعات المنعوتة بالإسلامية لا يزال مرتبطًا ومتأثّرا بالإطار المعرفي الإسلامي الموروث أكثر مما هو مرتبط بما كنت قد دعوته بالعقل الاستطلاعي أو المستقبلي (La raison emergente). وأقصد به العقل الحديث الذي يطمح إلى التعرف على ما منع التفكير فيه، وأبعد عن دائرة الاستطلاع والاستكشاف؛ لكي تبقى مشروعية أنواع السلطة وقداسة أنواع الحاكمية مؤثرة في الخيال الديني والسياسي تأثيرا ميثولوجيًّا تقديسيًّا تأليهيًّا، مهما كانت الظروف التاريخية والأطر الثقافية والبيئات الاجتماعية والأوضاع الاقتصادية”([12]).
وتبعًا لمشروعه وهدفه الذي صرَّح به -ألا وهو التاريخية أو أرخنة الإسلام كما يحلو له أن يسميه- فإن قضية توليد المصطلحات تعتبر من الأمور الجوهرية في مشروعه ولا غرو؛ إذ مشروعه “عملية متكرّرة من الأسطرة والأدلجة لما كان الإسلام العباسي قد حوّره أصلا وحوله إلى لحظة تدشينية للإسلام بصفة: (الدين الحق)”([13])، ويقول في نص آخر: “أرخنة كل ما كانت قد نزعت منه صبغة التاريخية على نحو متواصل ومنتظم على مدار التاريخ”([14]). ويوضح في نص آخر مشروعَه: “مشروعا علميا شموليًّا، جماعيًّا، يخترق كل الخصوصيات الثقافية والعلوم الضيقة ويتجاوزها. إنه المشروع الذي يهدف إلى القراءة التحليلية، المقارنة، الاسترجاعية-المستقبلية أو التراجعية-التقدمية لكل أنظمة الفكر والتراثات الثقافية المكتوبة أو الشفهية، والتي كانت قد انتشرت وترعرعت وتنافست من حوض البحر الأبيض المتوسط”([15]).
إذن، المصطلحات القرآنية والنبوية والمصطلحات التي تركها لنا أئمة العلم ليست -بزعمه- كافية في بيان الدين الإسلامي، بل علينا السعي وراء مصطلحات التلقي التي ينقل إليها فكر الحداثة كما يسميها أركون، ومصطلحات العلوم الحديثة التي أسستها الحداثة لنفهم الدين الإسلامي على الوجه الصحيح.
ولننتقل بعد هذا إلى كتابات أركون؛ إذ لا شك أننا سنقف على جانب من تلك المصطلحات، ولم نذهب بعيدًا في بحث هذه القضية، وقد مرت معنا مجموعة من النصوص، فلنرجع إليها لنجد أمامنا كمًّا هائلًا من المصطلحات من أمثال: (ما وراء الحداثة، المكانة المعرفية والوظيفة المعيارية، ولاهوتية، المصحف الرسمي المغلق، التفسير التقليدي، القراءة التاريخية للوحي، القراءة اللاهوتية الأرثوذكسية للوحي، علم اللاهوت، العقل الاستطلاعي، ميثولوجيا، الأدلجة، التاريخية، الأرخنة، القراءة التحليلية الاسترجاعية-المستقبلية أو التراجعية-التقدمية). لا شك أن القارئ وإن كان متضلّعَ الباع في العلوم الشرعية والمصطلحات الإسلامية سيحتاج إلى البحث عن المراد بهذه المصطلحات والخوض في معانيها، وهو ما يعيق كثيرًا من الناس عن فهم نصوص أركون كما صرح به هو بنفسه.
قد يقول قائل: إنما ذلك حال شيء يسير من كتاباته، ومع تناولنا نصوصًا من كتابين من كتبه فلعلنا نأخذ نصوصًا أخرى من كتاباته تؤكد لنا أن هذه الحالة (توليد المصطلحات) سمة من سماته.
فمثلًا ينتقد أركون خصيصة الشمول التي يتميز بها الدين الإسلامي، وكونه نظامًا للحياة في جميع جوانبها، وعدم إغفاله لشيء من حاجاتها، يقول أركون: “من تأثير الإسلام إلى درجة أنهم يجعلونه يشمل كل شيء، ويتدخَّل في كل شيء، وهكذا يحوِّلونه إلى أقنوم هائل مهيمن يمكن عن طريقه تفسير كل ما يحدث في العالم الذي انتشر فيه هذا الدين”([16]).
لن نناقش هنا قضية الشمول؛ إذ ليس هو مجال البحث هنا، ولكن ما علاقة مصطلح (أقنوم) بالفضاء الإسلامي ليقحم فيه؟!
وفي موقف آخر ينتقد فيه انقياد المسلم لأقوال الله وأقول رسوله صلى الله عليه وسلم وخضوعه لأمر الله يقول: “يطلب منه [أي: المؤمن] الخضوع للشعائر والعبادات الدينية التي تجعله يتقمَّص من الداخل كل النظام النفسي والمعنوي والاجتماعي والسياسي للتراث المقدس، وفق المعنى الكيميائي والجسدي لكلمة تقمّص، وهكذا يترسَّخ التراث الأرثوذكسي مع مرور الزمن، ويصبح مقدَّسًا، ومن ثم فلا تمكن مناقشته أو طرح الأسئلة عنه أو الكشف عن تاريخيته”([17]).
وبعيدًا عن النقاش في مسألة الانقياد، فما علاقة (التراث المقدس، المعنى الكيميائي والجسدي لكلمة تقمّص، التراث الأرثوذكسي) بالقضية؟! وما دلالاتها؟! ولم علينا إقحامها في الفضاء الإسلامي وفيه من المصطلحات الكثيرة الدالة على المعاني التي يقصدها من هذه المصطلحات الدخيلة؟!
وفي نقاش آخر في تصوّر الألوهية والإيمان بالله سبحانه وتعالى نجده يقول: “في مرحلة القرآن كان مطلوبًا إدراك الله وتصوّره بمثابة فاعل أو نموذج حاضر باستمرار في الحياة اليومية للنبي والمؤمنين، ولكن هذه الصورة أو هذا التصوّر سوف تتطوَّر وتتغير في مراحل لاحقة، وذلك في عدة اتجاهات: الثيولوجي الكلامي والصوفي والفلسفي والشعبي ثم العقلاني اليوم، على عكس ما تظنّ المسلمة التقليدية التي تفترض وجود إله حيّ متعال وثابت لا يتغير، فإن مفهوم الله لا ينجو من ضغط التاريخية وتأثيرها، أقصد أنه خاضع للتحوُّل والتغيّر بتغير العصور والأزمان”([18]).
ويقف ذهن كل قارئ هنا عند قوله: (المسلمة التقليدية التي تفترض وجود إله حي، مفهوم الله لا ينجو من ضغط التاريخية، إله خاضع للتحوُّل والتغيّر بتغير العصور والأزمان)! كل تلك المصطلحات والتراكيب بحاجة إلى شرح وتوضيح، ولا ندري منذ متى صار يسمَّى المسلم الذي يؤمن بوجود إلهه تقليديًّا؟! ومن المسلم غير التقليدي؟ أهو الذي لا يتصوَّر وجود إله حيّ؟!
أسئلة كثيرة تقتضيها هذه الكلمات، ولكنه هوس توليد المصطلحات الذي أسلفنا الحديث عنه آنفًا.
ولكن الأدهى والأمر أن يتلو هذا الهوسَ في توليد المصطلحات -الذي يشكو هو من غموضه وعيِّه- نقدٌ للمصطلح القرآني الذي نزل بلسان عربي مبين، يقول أركون: “إنه لدى فكر معاصر متعوّد اتباع نوع معين من البرهان، والإيحاء والوصف والسرد في نصوص يجري إنشاؤها بحسب مخطط صارم، فإن القرآن مدعاة للنفور بعرضه غير المنظم، واستخدامه غير المعتاد للخطاب، ووفرة إيحاءاته الأسطورية والتاريخية والجغرافية والدينية، وكذلك بتكراره، وانعدام ترابطه، واختصارًا بمجموعة كاملة من الرموز التي لم تعد تجد البتة دعائم ملموسة، سواء في طرق تفكيرنا أم في محيطنا الطبيعي والاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي”([19]).
ويقول: “نعلم أن القرآن يظلّ مستغلقًا وغير مفهوم للمؤرّخين أو المثقفين الأكثر تخصصًا وتبحرًا في العلم، فما بالك بجمهور المؤمنين؟! ولا أحد يفكر في شرحه أو تفسيره بناءً على المناهج الحديثة من أجل تقريبه من الأذهان والعقول”([20]).
فكيف يصح ممن يشكو تلامذته من لغته أن يصم لغة القرآن بالنفور وانتفاء الانتظام، وقد عجزت الجن والإنس أن يأتوا بآية من مثله؟!
كيف يصحّ ممن يستعصي جهازه المصطلحي أن ينتقد المصطلحات القرآنية بأنها غير معتادة في الخطاب، أو أسطورية أو غير مترابطة، أو أنها لغة رمزية تحتاج إلى مفكٍّ لشفراتها؟!
أم كيف يصحّ ممن يعاني من العيّ أن يعيِّر كلام الله بالعيِّ، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
أمثلة من كتابات الجابري:
وإن اختلف المجال الذي كرس فيه أركون مشاريعه عن غيره من الحداثيين، إلا أن سمة توليد المصطلحات ظلَّت حاضرة في أقلامهم وكتاباتهم، فنجد الجابري ينظِّر لبدعية مصطلح الأصل ويؤكد أنها لم تكن معهودة فيما قبل عصر التدوين، يقول: “يمكن الاطمئنان إلى أن الزوج الأصل الفرع إنما ظهر في عصر التدوين كأداة نظرية لا بد منها في عملية التدوين ذاتها، عملية البناء العام للثقافة العربية الإسلامية”([21]).
إلى أن قال: “المظاهر الأساسية التي تتجلَّى فيها خصوصية العقل البياني -والتي بها يتميز- أن عملية التفكير في هذا العقل محكومة دومًا بأصل، وبعبارة أخرى: إن العقل البياني فاعلية ذهنية لا تستطيع ولا تقبل ممارسة أي نشاط إلا انطلاقًا من أصل معطى نص، أو مستفاد من أصل معطى ما ثبت بالإجماع أو القياس، ليس هذا فحسب، فسلطة الأصل على العقل البياني لا تقتصر على المنطلق، بل إنها تؤسّس عملية إنتاج المعرفة ذاتها باعتبار أن التفكير البياني يقوم أساسًا على قياس فرع على أصل، فهو سلسلة من عمليات رد الفروع والمستجدات إلى أصول مقررة من قبل”([22]).
وهنا لن تخطئ العين مجموعةً من تلك المصطلحات الغامِضة مثل: عملية البناء العام للثقافة العربية الإسلامية، وما الذي يقصد بذلك؟ أهو تأسيس العلوم الإسلامية في عصر النبوة؟ وما العقل البياني؟ وما الذي يقابله من العقول؟
أمثلة من كتابات أبو زيد:
وأما نصر أبو زيد فمن نصوصه التي تظهر فيها هذه السّمة، ولعلنا نترك النصوص القادمة للقارئ ليقف بنفسه على تلك المصطلحات، فمنها قوله: “القرآن نص مقدَّس ثابت منطوقه، لكنه يصبح مفهومًا بالنسبي والمتغير، أي من جهة الإنسان، ويتحول إلى نص يتأنّس، فالنص منذ نزوله الأولي -أي: مع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم لحظة الوحي- تحول من كونه نصًّا إلهيًّا وصار فهمًا إنسانيًّا؛ لأنه تحول من التنزيل إلى التأويل”([23]).
ويقول في موضع آخر: “إن الحقائق الأمبيريقية المعطاة عن النص تؤكّد أنه نزل منجَّمًا على بضع وعشرين سنة، تؤكد أيضا أن كل آية أو مجموعة من الآيات نزلت عند سبب خاص استوجب إنزالها”([24]).
ويقول في موضع ثالث: “إن الدعوة للتحرُّر من سلطة النصوص ومن مرجعيَّتها الشاملة ليست إلا دعوة لإطلاق العقل الإنساني حرًّا؛ يتجادل مع الطبيعة في مجال العلوم الطبيعية، ويتجادل مع الواقع الاجتماعي والإنساني في مجال العلوم الإنسانية والفنون والآداب، فهل تتصادم هذه الدعوة مع النصوص الدينية أم تتصادم مع السلطة التي أضفاها العقل والفكر؟ إن هذه الدعوة للتحرُّر لا تقوم على إلغاء الدين، ولا تقوم على إلغاء نصوصه، لكنها تقوم على أساس فهم النصوص الدينية فهمًا علميًّا”([25]).
فهنا جملة من المصطلحات التي مرت بنا في هذه النصوص مثل: نص مقدس، النسبي والمتغير، فهما إنسانيًّا، التنزيل، التأويل، الحقائق الأمبيريقية، سلطة النصوص.
أمثلة من كتابات تيزيني:
وممن كانت هذه السمة حاضرة أيضًا في كتاباته طيب تيزيني، في مثل قوله: “وعلى هذا فإن ما يبرز أساسيًّا هنا يكمن في النظر إلى اللاحق مضبوطًا بما نتواضع عليه، من الآن فصاعدًا، بالحد الاصطلاحي (الوضعية الاجتماعية المشخصة)، أما ما تتقوّم به هذه الوضعية فيتمثل في أنها تعبر عن منظومة من العلاقات والمؤسسات السوسيوثقافية والاقتصادية، التي تحدّد بدورها وتضبط بصيغ أولية وعمومية شبكة الأفعال والتأثيرات والمؤثرات المتحدّرة عن النشاط المنهجي المعرفي والإيديولوجي والسياسي للأفراد والمجموعات في مجتمعٍ ما ومرحلة تاريخية ما”([26]).
ومن نصوصه أيضًا: “إن ذلك من منظور السلفوية، حيث يوضع ذلك الموضع، فإنه يغدو أكثر من ذاته أولا، وأكثر من ذاته وذوات الأزمنة كلها مجتمعة ثانيا؛ ذلك لأن الماضي المذكور -بحسب الموقف المعني- ليس هو الماضي الواقعي المشخص والمندرج في حركة الوجود الكلية، بل هو ما يتعالى على هذه الحركة تعاليا يجعله يتنصل منها وينسل من طرف، ليعلن نفسه محورًا كليا وشاملا لها من طرف آخر، وهذا بدوره ينطوي على مفارقة وجودية ومنطقية، لا يمكن التحلل منها إلا من موقع ذلك الموقف المحدد بالمصادرة على المجتمع والتاريخ والتراث”([27]).
وفي نص آخر يبلغ الأمر بتيزيني إلى أن يدَّعي بكل وقاحة أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو «أول من موضعه [أي: القرآن] بشريًّا، وبشّر به تاريخيًّا متورّخًا، واستعان إدراكه في البدء بالسيدة خديجة، وبعمها أو ابن عمها ورقة بن نوفل». لكن هذا البعد التاريخي للنصوص «قد جرى التنكر له من قبل جموع متعاظمة من الفقهاء والمحدثين السلفويين، وكذلك الجمهور العام»([28]).
ولا أشكّ أن هنا كثيرًا من المصطلحات التي استوقفتك -أخي القارئ- إن كنت معتنيًا بذلك حين قراءة النص، فعلى سبيل المثال: الوضعية الاجتماعية المشخصة، السوسيوثقافية، حركة الوجود الكلية، السلفوية، الماضي الواقعي المشخص…
هذا إلى صعوبة التراكيب والفهم لتلك النصوص الناتج عن التوليد المصطلحي والغموض المقصود أو غير المقصود.
ولنختم بهذه النصوص ليرتاح العقل بعد محاولة فهمها:
يقول طيب تيزيني: “فتتقوم بالاعتقاد بإمكانية النكوص إلى الماضي الإسلامي (الباكر خصوصًا)، والعودة إليه على نحو يظهر الحاضر فيه لحظة من لحظات الانحدار والانحراف عن هذا الماضي. وعبر مزيد من الضبط والتدقيق للوقف، نلاحظ أن هذا الأخير يرتدّ إلى التصور الإسلامي ذي النزوع السلفوي حول التاريخ، وينطلق منه، فالتاريخ بمقتضى ذلك يتمثل في حركة ثلاثية الأبعاد يكون منها (وهو الإسلام) هدفا للأول (وهو ما قبل الإسلام الجاهلية)، وطموحا لبلوغه في حين يتجلى الثالث (وهو ما بعد الإسلام) بصفته خروجًا عن الثاني وانحرافا. أما البعد الثاني -وقد حددناه بالإسلام- فهو ذلك الذي يمثل جماع القول في الوجود جوهرا وكمالا قدسيّة، وعلى هذا فإذا كان الأمر على صعيد القاعدة الأولى من إوالية الاعتقاد السلفوي قد تحدّد بتصور استجلاب الماضي الإسلامي وإعادته في الحاضر الراهن (راهن السلفوي) عبر خلق دولة إسلامية أو مجتمع إسلامي، خال من الجاهلية المعاصرة جاهلية القرن العشرين بتعبير السلفوي نفسه، أي: على مثال المجتمع الإسلامي الباكر، فإن القاعدة الثانية من هذه الإوالية تتمثل في نكوص ماضي إلى الماضي الإسلامي المعني عبر التأكيد على ضرورة الانخراط في مواقف المجتمع الإسلامي الباكر وتصوراته ومشكلاته وحلوله وتوجهاته المرحلية والإستراتيجية، التي جسدت المثل العليا التامة تصور التمامية للمجتمع البشري عموما وإطلاقا، بالرغم من المحدودية الجغرافية والتاريخية لمصدرها المثل بذلك المجتمع الإسلامي الباكر.
وفي هذه الحال الثانية يغدو الاتجاه الأساسي ماثلا في استحداث وضعية روحية جوانية تحيل إلى المواقف والتصورات إلخ.. المذكورة آنفا، طلبا لمددها وتحصنًا بها ضد كوابيس الحاضر المنحرف دينيا واجتماعيًّا وجنسيًّا وأخلاقيا إلخ… وعلى هذا الصعيد لا يكون الأمر متعلقا بالدعوة إلى إيجاد مجتمع إسلامي أو دولة إسلامية بقدر ما ينحصر في أساسه وعمومه في تحقيق الاحتماء بتلك المبادئ والمثل، وبما ينسج حولها من تحصين ذاتي وبلوغ لأهداف الإسلام الأول الصحيح، ومن الملاحظ أن هذا الموقف غالبا ما ينطلق من حاجات فردية، أو فئوية متشظية فرديًّا؛ لتحقيق خلاص فردي، قد يؤدي إلى صوفية نظرية أو طقوسية، أو إلى كلتيهما معا”([29]).
ويقول في موضع آخر: “وإذا تتبعنا صيغة العودة إلى الإسلام الباكر لاحظنا أنه يجري التنظير لها من موقع تمييز ميتافيزيقي لا تاريخي بين الحقيقة والتاريخ والثابت والمتغير والمطلق والنسبي، ومن ثم بين الوحي الإلهي والعالم أولا، وفي ضوء رؤية انحدارية فاجعية للزمن التاريخي ثانيا، ولعل فهمي جدعان أن يكون واحد من ممثلي هذا الموقف بشقَّيه المذكورين فهو يكتب ما يلي: فالحقيقة تنتمي أصلا إلى عالم الأزل والأبدية الذي يفارق تمامًا وقائع التاريخ ويعلو عليه، ولا يخضع لقانون الصيرورة الصارم، وهي حين تتجسَّد في الإنسان فإنما تعانق الزمان وتحلّ فيه”([30]).
الخاتمة:
نستخلص مما سبق أن من أهم السمات التي لا يكاد ينفك عنها التيار الحداثي سمة التوليد المصطلحي، والذي يرنو في الغالب إلى الغموض والتعمية، أو إلى ترك أطواق النجاة مشرعة في قاع البحر، ولم يكن ذلك حالة استثنائية لدى واحد أو اثنين كما رأينا، بل هي السمة الغالبة في كتاباتهم، والاصطلاح وإن كان لا مشاحة فيه، ولكن لا بد من المشاحة فيما كان فيه صد عن مصطلحات القرآن والسنة، أو لبس الحق بالباطل، أو كان وسيلة للتعمية والغموض.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) ينظر: جامع البيان، ت. شاكر (2/ 112).
([2]) ينظر: صحيح البخاري (2223)، صحيح مسلم (1581)، فتح الباري لابن حجر (4/ 415).
([4]) مجموع الفتاوى لابن تيمية (3/ 306).
([5]) مجموع الفتاوى (17/ 355).
([6]) ينظر: ضوابط استعمال المصطلحات العقدية والفكرية عند أهل السنة والجماعة، د. سعود العتيبي (ص: 125).
([7]) مجموع الفتاوى لابن تيمية (3/ 307).
([9]) القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني (ص: 8-9).
([10]) القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني (ص: 9).
([12]) قضايا في نقد العقل الديني (ص: 8).
([14]) القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني (ص: 82).
([15]) قضايا في نقد العقل الديني (ص: 46-47).
([18]) الفكر الإسلامي: قراءة علمية (ص: 102).
([19]) الوحي: الحقيقة، التاريخ.. نحو قراءة جديدة للقرآن، (ص: 34). وهذا المقال قد وضع مقدمة لترجمة كازيمرسكي للقرآن الكريم سنة 1970م، كما أعيد نشره في كتاب: قراءات في القرآن، سنة 1982م.
([20]) قضايا في نقد العقل الديني (ص: 59).
([21]) بنية العقل العربي (109).
([23]) نقد الخطاب الديني (93).
([26]) النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة (ص: 19).
(المصدر: مركز سلف للبحوث والدراسات)