حرب العمائم بين قم والنجف.. رؤوس تتدحرج
بقلم عمر الجنابي
قبل أكثر من شهرين كتبت على مدونات الجزيرة مقالا بعنوان: “أحفاد الخميني.. هل يُحكمون قبضتهم على العراق؟!” وتحدثت فيه عن الدور الإيراني الحالي والقادم وأبرز الشخصيات الإيرانية اللاعبة في الملف العراقي ودورها في الانتخابات والتحالفات السياسية، صحيفة الديلي تليغراف البريطانية نشرت تقريراً عن الموضوع ذاته وركزت في تقريرها على التصفيات الجسدية التي تقوم بها القوة الضاربة لفيلق القدس الإيراني بإشراف قاسم سليماني، وذكر التقرير تصفية أسماء شخصيات شيعية صرحت ضد الوجود الإيراني مؤخراً أو عملت ضد مشروعها في العراق بعد الحرب على داعش، بالنسبة للمتابعين والمختصين بالشأن العراقي فإن تقرير التلغراف لم يأتِ بالجديد، لكنه أوضح حجم القلق البريطاني من هيمنة حوزة قم المدعومة فرنسياً على حوزة النجف القريبة منها، إضافة إلى تلاعب سليماني والقيادة الإيرانية بالقرار الداخلي في العراق من خلال القتل والتهديد والترهيب لشخصيات سياسية واجتماعية بهدف تحقيق المصالح الإيرانية، وهذا له تداعياته خلال المرحلة المقبلة.
ظهور المرجع الشيعي الأعلى في حوزة النجف علي السستاني من خلال صورة جمعته بممثل الأمين العام للأمم المتحدة يان كوبيتش بعد غياب عن العدسات دام لسنوات لم يكن لأجل عيون كوبيتش أو منظمته التي ليس لها دور يذكر في العملية السياسية العراقية، كما أن الممثل الأممي قبل حضوره للنجف كان يحزم أغراض مكتبه لمغادرة العراق بعد انتهاء فترة مهامه واستبداله بممثلة ستباشر مهامَّها قريباً، إضافة إلى أن كوبيتش أفضل الخيارات الحالية المتاحة للسستاني، لأن مقابلة أي سياسي عراقي ستكون بمنزلة دعم له ولتحالفه، في وقت كثرتْ فيه الإشاعات حول استبدال أعلى مرجع شيعي في العراق والبحث عن خليفته بسبب تدهور حالته الصحية وعدم استطاعته ممارسة مهامه، وأن نجله محمد الرضا هو من يقوم بكل الأدوار ويلتقي جميع الوفود ويوقع على جميع الأوراق، ظهور السستاني هذا بدد جميع الشائعات لا سيما أنه ظهر رافعاً يدَه خلال تحدثه، أي أنه يستطيع الحركة والكلام، وكأنه يقول أنا موجود وما زلت هنا، وأعتقد أن الرسالة واضحة ووصلت.
الصحوة البريطانية الأمريكية المتأخرة على مصالحهم في العراق يصاحبها أزمة ثقة من قبل الأطراف السياسية السنية والكردية تجاه البلدين اللذين لم يكترثا لأحداث مهمة كانت الفيصل في تمدد النفوذ الإيراني وتغلغله داخل الجهات السنية والكردية بشكل علني، بعد أن كان محصوراً لدى بعض الشيعة وثلة من السنة والكرد بالخفاء، وبسبب ذلك الإهمال أو عدم الاهتمام أصبح المشهد العراقي خلال أكثر من عشر سنوات مضت يهيمن عليه اللاعبُ الإيراني ما مكَّنَ طهران من التغول بسرعة فائقة لتهيمنَ على القرار السياسي والأمني وتستحوذ على الاقتصاد وتوسع فكرها العقائدي دون أي رادع أو حسيب.
الأمر الذي يرجح تفوقها في الملف العراقي، فالاستراتيجية الإيرانية في العراق واضحة وتعتمد على احتواء ودعم كل من يُظهر لها الولاء المطلق وقادر على تقديم ما يلزم لخدمة مشروعها، على عكس الولايات المتحدة وبريطانيا اللذين يركزان على الوجود في المنطقة والتأثير على صنع القرار في حين تعمل إيران على صنع القرار وليس التأثير فحسب، وهذا دفع بكثير من المنتفعين في العملية السياسية وممن يرتدون العمائم الأسود منها والأبيض إلى الركض صوبَ من يوفر لهم المكاسب المادية والمناصب الإدارية، بل وأكثر من ذلك حيث صاروا يحضرون الاحتفالات الرسمية التي يقيمها مرشد إيران علي خامنئي ويقفون طابوراً للسلام عليه وتقبيل يده وهذا جزء من عملية احتواء هؤلاء.
إيران استطاعت خلال سنوات ما بعد احتلال العراق صُنع عمائم سنيَّة واختارت إحداها مفتياً لأهل السنة وهو مهدي الصميدعي الذي كان يدَّعي تمثيل ما يسمّى التيار السلفي الجهادي ثم بعد تعرضه لانفجار بقنبلة على شارع مطار بغداد ظهرَ على أنه ضمن عمائم إيران حتى وصل إلى درجة من كسب الثقة الإيرانية أن ينشرَ قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني صورة معه ويصفه بحجة الإسلام!
وهذه الصفة غير موجودة لدى أهل السنة في العراق ومثله خالد المُلا وجماعة تطلق على نفسها الإسلام المحمدي، وعلى كل حال هؤلاء لا يوجد لهم نفوذ في الوسط السني سوى المنتفعين من المرتبات التي يتقاضونها منهم وما إن ينقطع التمويل يصبحون بلا أتباع، هذا إن صحتْ تسمية من حولهم بالأتباع، أي أنهم ليسوا موطنَ قوة لإيران في العراق أو حتى بين السنة، بل هم مجرد حضور شكلي لإثبات وجود بين جميع أطياف الشعب، والأمر حصل مع آخرين بالطريقة ذاتها.
موطن الصراع وخطورته بين أمريكا وإيران جنوب العراق، ومن يحصل على النجف سيتملك الجنوب، حيث تعد حوزة النجف العلمية القوة الدينية هناك، وفيها يتخرَّج كبار علماء الشيعة والذين هم بطبيعة الحال بعيدون عن الاعتقاد بولاية الفقيه، بسبب عدم اعتراف السستاني بها وهنا موطن الخلاف مع حوزة قم، وتحاول إيران توحيد القرار الشيعي في العالم وربطه مباشرة بحوزة قم، ما يعني الارتباط المباشر بالولي الفقيه سواء كان خامنئي أو خليفته القادم أي أن السلطة في إيران ستسيطر على شيعة العالم.
الأيام المقبلة ستشهد تصعيدا في الخطاب المناهض لإيران في النجف، في محاولة لنقل المعركة من الدهاليز الضيقة الصامتة إلى المنابر واللقاءات، بينما سترتفع لغة التهديد والتصفية من الجانب الإيراني
واشنطن ولندن تدركان أن الإطاحة بالسستاني تعني إطلاق العنان للفقه الإيراني بتصدر المشهد، وليس أمامها سوى العمل بجدية على إبعاد الخطر عن حوزة النجف التي هي الأخرى لم تسلم من تمدد الجذور والأجندة الإيرانية داخلها، وفِي هذا الصراع فإن من يتمكن من السيطرة سيقتلع الآخر ومن يمثله، أي أن الصراع أشبه بقتال حلبة الموت والخروج منها لمنتصر واحد، إيران في أوج قوتها في الوقت الراهن وبدء التضييق عليها سيدفعها لتعجيل الحسم قبل أن تضعف، والتحركات من الطرف الآخر تؤكد الإدراك التام لخطورة الوضع.
ما يعني أن الأيام المقبلة ستشهد تصعيدا في الخطاب المناهض لإيران في النجف، في محاولة لنقل المعركة من الدهاليز الضيقة الصامتة إلى المنابر واللقاءات، بينما سترتفع لغة التهديد والتصفية من الجانب الإيراني، وقد تصل إلى فرض الإقامة الجبرية على بعض الشخصيات وقتل أخرى أو تغييبها لردع الآخرين، وهذا الأمر تدركه الإدارتان الأمريكية والبريطانية، أما اللاعبون الآخرون مثل الصدر من جهة والفصائل المسلحة القريبة من إيران من جهة أخرى فسيكونون على أهبة الاستعداد، سواء من ناحية التحركات الشعبية والاحتجاجات أو عبر المواجهات والمناوشات المسلحة وحرب العصابات والاغتيالات، فلا إيران تستغني عن مشروعها التمددي ولا الآخرون يقبلون بخسارة ما بنَوه طيلة السنوات الماضية.
(المصدر: مدونات الجزيرة)