حرب الدين والجينات.. هل نظرية التطور بديل عن الخالق؟
إعداد شادي عبد الحافظ
في موسوعته عن تاريخ العلم، يقول المؤرخ الكبير جورج سارتون : “كانت اللغة العربية هي لغة العلم وتقدم البشرية في النصف الثاني من القرن الثامن إلى نهاية القرن الحادي عشر الميلادي، يكفي هنا الإشادة ببعض الأسماء اللامعة التي لم يكن هناك مَن يضاهيها في الغرب مثل جابر بن حيّان والكندي والخوارزمي والفرعزي والرازي وثابت بن قرّة والبطاني… إذا قال لك أحد إن العصور الوسطى كانت عقيمة علميا فاذكر له هؤلاء الرجال، كلهم بزغوا في فترة قصيرة”.
حينما نتحدّث عن تلك الفترة الذهبية من تاريخ الحضارة الإسلامية لا بد أن تتبادر بعض الأسئلة المثيرة للانتباه إلى دماغك شيئا فشيئا، ستقول في البداية: لِمَ حدث ذلك؟ كيف تقدّم هؤلاء؟ سيقودك هذا إلى السؤال الأهم وهو: هل تعارض معتقدهم مع المعارف العلمية التي حصّلوها؟ في الواقع، كانت علاقة العالم العربي المعاصر بالعلم غارقة تماما في هذا النوع من الأسئلة، لكن على الرغم من أن المسلمين في تلك العصور لم يجدوا تعارضا واضحا بين دراستهم للعلوم ومعتقداتهم، فإن العكس تماما يحدث حاليا، حيث يرى الكثيرون أن العلوم الحديثة، أو بعض منتجاتها، تتعارض مباشرة مع الدين الإسلامي.
للوهلة الأولى قد تظن أن الأمر يتعلق بطبيعة العلم نفسه، فعلم تلك العصور الذهبية قد يكون علما إسلاميا، أما العلم الآن فهو علم غربي، لكن بنظرة متأمّلة للمنجزات العلمية الإسلامية في تلك العصور، في الرياضيات والفيزياء والكيمياء، ستجد أنها -في المجمل- لا ترتبط بمعتقدات الأشخاص أو لا تحمل طابعا يدل على تلك المعتقدات. على سبيل المثال، لم تكن المشكلات الرياضية التي تصدّى لها المسلمون مختلفة بحال عن تلك التي اهتم بها قدماء المصريين أو الهنود أو البابليون أو اليونانيون إلخ، وفي كتابه “الإسلام والعلم” يُفرد برويز أمير علي بيود، الفيزيائي الباكستاني الحاصل على الدكتوراه في نطاق الفيزياء النووية من معهد “إم آي تي” والمهتم بتاريخ العلم في الحضارة الإسلامية، فصلا كاملا لتوضيح تلك النقطة في نطاقات علمية أخرى.
الأمر إذن قد يكون مرتبطا بشيء آخر، لكن، ما هو؟ هل يمكن أن تكون بعض منجزات العلم الحديثة تحديدا -والتي لم تكن موجودة آنذاك- متعارضة مع الدين الإسلامي؟ أحد أشهر الأمثلة المعاصرة على الفكرة القائلة بالتعارض المباشر بين الدين والعلم هي، لا شك، قضية التطور، تلك التي استمرت في إشعال الحرائق الفكرية من حين لآخر على مدى عقود عدة وصولا إلى اللحظة التي تقرأ فيها هذه الكلمات، لكن تاريخ الفكرة التطورية ضارب في القدم إلى ما هو أبعد من داروين.
في الواقع، فإن فكرة التطور بالانتخاب الطبيعي كانت شائعة في التراث الإسلامي ومتداولة بين المفكرين المسلمين وقتها، بحسب دراسة صدرت في ثمانينيات القرن الفائت، بعنوان “فكرة التطور عند فلاسفة الإسلام”، حيث فحص المؤلف، وهو الدكتور مجدي عبد الحافظ أستاذ الفلسفة بجامعة حلوان، التقارب الواضح بين التطور الدارويني وأفكار إخوان الصفا، ومسكويه، والبيروني الذي استلهمها من التراث الهندي، وابن خلدون، عن التطور البيولوجي تحديدا.
ما المشكلة إذن؟ إن الفكرة السائدة، والتي تراها على وسائل التواصل الاجتماعي بكثافة هائلة هذه الأيام، وتسمعها في الأحاديث الدارجة بين الأصدقاء والزملاء في الجامعة، تقول إن هناك ارتباطا مباشرا بين التطور والإلحاد، الملحدون هم مَن يتحدّثون في البيولوجيا التطورية ويروّجون لها. لكن تلك الفكرة بعيدة تماما عن الصواب، فهناك علماء عرب معاصرون -متخصصون في نطاقاتهم- يرون العكس تماما، لنبدأ مثلا بالدكتور سامي محمد زلط، أستاذ التنوع البيولوجي بجامعة قناة السويس، في مقدمة وضعها لكتاب “لماذا التطور حقيقة؟”، والتي بدأها قائلا:
“كلمة التطور ليست البديل عن كلمة الخالق”
هذه النقطة مهمة جدا، لأن بعض مروّجي هذا التعارض بين البيولوجيا التطورية والدين الإسلامي، أو الدين في العموم، يبدأون من تصوير الأمر بأن العلماء يضعون التطور في كفّة والله في الكفّة الأخرى، ما يعني أن القائل بصحة البيولوجيا التطورية والمدافع عنها في الغالب يكون مشركا أو كافرا أو على الأقل مروجا للكفر، يستمر زلط في توضيحه قائلا: “يمكن أن تكون متدينا وتؤمن بالتطور”، مضيفا أن التطور هو التفسير العلمي والمنطقي لما نراه من تنوّع وتشكّل في هذه الحياة، ثم يوضح بأنه لم يجد تناقضا فيما قرأه مع معتقداته كشخص مسلم، لأن عقله يتغذى بالعلم والمعرفة وقلبه وروحه مملوءان بالإيمان بالله.
من جهة أخرى، فإن الدكتور أحمد شوقي حسن، أستاذ علم الوراثة بكلية الزراعة جامعة الزقازيق، في كتابه “ثلاث قصص علمية”، يوضح أن الموقف الحاد المُعادي للدين من قِبل بعض متخصصي البيولوجيا التطورية والمروجين لها، أمثال هكسلي قديما وريتشارد دوكينز حاليا، أعطى فرصة لرواج الفكرة القائلة بالربط بين التطور والإلحاد، لكن شوقي يوضح أن هناك فارقا واضحا بين العلم، البيولوجيا التطورية تحديدا، والدين، ويطلب إلى القارئ عدم خلط الأوراق، فالعلم يقوم على الاقتناع والاختبار، أما الدين فيقوم على الإيمان واليقين، ولا خلط أو تداخلا بين المنهجين، على أهمية كليهما في حياة الإنسان. ثم يُنهي حديثه قائلا:
“إننا نعد التطور سنة الله في خلقه، وندرس آلياته، ونصحح فهمنا لها باستمرار”
وفي نسخة ثالثة من الرأي نفسه يقول دكتور مصطفى إبراهيم فهمي، الحاصل على الدكتوراه في نطاق الكيمياء الإكلينيكية من جامعة لندن عام 1969، وأحد أهم وأشهر المترجمين العرب، في مقدمته لكتاب “أعظم استعراض فوق سطح الأرض”، إنه “لا يصح تقييم العلم بالدين أو تقييم الدين بالعلم”، مضيفا أن النصوص الدينية ليست مرجعا في البيولوجيا أو العلوم الأخرى، ليست هناك فيزياء مسيحية وفيزياء إسلامية وفيزياء وثنية، ويضرب فهمي مثالا بفيشر المؤمن وهالدين الملحد، وهما عالمان واسعا الشهرة في البيولوجيا التطورية، وكلٌّ منهما له أعماله في هذا النطاق.
تاريخ الترويج ضد التطور، وربطه بالاستعمار، والإمبريالية، والغرب، والإلحاد، والمادية، والعنصرية، وضع المتحدثين عن التطور تلقائيا في خانة نمطية سيئة للغاية
أما الدكتورة رنا دجاني، وهي عالمة أردنية متخصصة في نطاق بيولوجيا الخلية وحاصلة على شهادة الدكتوراه في البيولوجيا الجزئية من جامعة آيوا، فترى -في مقال لها بدورية “نيتشر” واسعة الشهرة- أن رفض الطلاب الجامعيين المسلمين للبيولوجيا التطورية هو “فرصة”، فعلى الرغم من أنهم يدخلون إلى الفصل الدراسي رافضين ومعادين تماما لهذا النطاق العلمي، فإنه بنهاية الفصل الدراسي يكون معظمهم قد تقبَّل الفكرة. من وجهة النظر تلك، فإن الطالب المسلم قادر على مواجهة أفكار أكاديمية مثيرة للجدل وتقبّلها، وبالتالي فهو أيضا قادر على البحث في باقي أوجه حياته، دون تسليم أعمى.
وتشير دجاني إلى نقطة مهمة أخرى تتعلّق بالتنميط، فالطلاب يرونها مسلمة محجبة ثم تقف أمامهم لتقول إن البيولوجيا التطورية هي التفسير العلمي لتنوّع الحياة على سطح الأرض، فيُصدمون فورا. دعنا هنا نتأمل مشكلة مهمة، إلى جانب التصور الخاطئ السائد بين المواطنين في الوطن العربي، والقائل إن التطور يقف بديلا عن الله (تحدّثنا عنه قبل قليل)، فإن تاريخ الترويج ضد التطور، وربطه بالاستعمار، والإمبريالية، والغرب، والإلحاد، والمادية، والعنصرية، وضع المتحدثين عن التطور تلقائيا في خانة نمطية سيئة للغاية، بالتالي فإن دجاني، وغيرها من العلماء المسلمين المهتمين بالبيولوجيا التطورية، هم صدمة كبيرة للطلاب تحديدا، لأن الطلاب قدموا إلى الجامعات وهم متيقّنون من أن المُتحدِّث عن التطور ملحد أو على الأقل يواجه مشكلة حرجة في معتقداته، قولا واحدا!
من جهة أخرى، فإن الدكتور نضال قسوم، الفيزيائي الفلكي الجزائري والحاصل على شهادتي الدكتوراه والماجستير من جامعة كاليفورنيا، ينضم لمجموعة العلماء العرب الذين يرون أنه لا يوجد تعارض بين الدين والعلم في قضايا التطور، فيقول في كتابه “سؤال الإسلام الكمومي”: “أحاول الدفاع عن رؤية كونية تحقق غرضين: الاتساق التام مع النظريات والاكتشافات العلمية الحديثة، والانسجام مع المبادئ الدينية الأصيلة. ويمكن لهذا المشروع أن تُطبّقه كل المذاهب الدينية، غير أني لا أتناوله هنا إلا من جهة الإسلام، لأنه ديني”.
بل ويطوّر قسوم أطروحته حول الدين والعلم، في كتابه سالف الذكر، ليقول إنه على الرغم من الاستقلال التام المنهجي بين نطاقي العلم والدين، فإن هناك درجة من التناغم بينهما، وهو هنا لا يقصد بحال أن القرآن هو كتاب بيولوجيا أو أنه يخبر بحقائق علمية أو أن هناك نوعا من التداخل بين النطاقين، بل يرى أن العلم الحديث عجز عن إيجاد معنى لكثير من اكتشافاته، لأن ذلك ليس من تخصصه، بالتالي يمكن أن يساعد الدين على إيجاد هذا المعنى في إطار مؤمن بالله.
يمكن لنا أن نستمر في ضرب الأمثلة عن العلماء العرب والمسلمين المتخصصين، الذين لا يرون تعارضا بين التطور والإسلام، ولا ننتهي قبل أن نملأ كتابا كاملا من الأفكار المثيرة للانتباه. يتفق جميعهم على أنه لا يوجد تعارض بين الدين والعلم في العموم، قد تقول إن هؤلاء حالات خاصة، لكن في الواقع فإن تلك الفكرة تجد صدى واسعا على نطاق عالمي. على سبيل المثال، يرى معظم الباحثين العاملين بنطاق “العلم والدين”، وهو مجال بحث فلسفي معاصر، أنه لا تعارض واضح بين النطاقين أو منتجاتهما، إنه الرأي نفسه الذي اتفق عليه الرباعي الذي تحدّثنا عنه قبل قليل، في الواقع فإن الرأي الأقل قبولا في هذا النطاق هو ذلك القائل بالنزاع بين العلم والدين، سواء في العموم أو في نقاط خاصة.
في الحقيقة، يرى ألفين بلانتينجا، الفيلسوف التحليلي الأميركي المعروف، أن الصراع ليس أساسا بين الدين والعلم، وإنما هو بين الدين والفلسفة الطبيعانية، وهو فصل مهم للغاية بين “العلم” و”الفلسفة التي تستخدم العلم أو تعتمد عليه أو تؤسس له”، لأن الكثيرين -في مجتمعاتنا- يتحدّثون عن العلم بدرجة واسعة من الخلط بينه وبين الفلسفة، فيقول البعض مثلا إن هناك “علما إلحاديا”، في الواقع فإن العلم نفسه ليس إلحاديا أو إيمانيا، ولكن يمكن أن تكون هناك فلسفة تفعل ذلك، لفهم تلك الفكرة دعنا نتأمل رأي ستيفن جاي جولد، البيولوجي واسع الشهرة.
في كتابه “صخور الزمن”، يوضح جولد أن الأمر لا يتعلّق من الأساس بالصراع بين العلم نفسه والدين نفسه، بل ربما هو صراع بين رجال العلم ورجال الدين. يضرب جولد مثالا بمحاكمة جاليليو الشهيرة التي غالبا ما يتحدّث عنها الناس في سياق نقاشاتهم حول صراع العلم والدين. تبدأ الحكاية من حرب الأعوام الثلاثين، في أثناء حالة من الاضطراب في الدولة، وفي وقت كانت لدى الباباوات سلطات مطلقة للإدارة والإفتاء، هنا جاء جاليليو بأفكاره الثورية.
يقول جولد إنه في تلك النقطة لا يمكن لنا أن نقول إن ما حدث مع جاليليو كان فقط ذا علاقة بمشكلات الدين والعلم، لأنه في ظل السياق السياسي القائم، حينما يقوم شخص ما بتهديد سياسات الكنيسة في فترة كانت تواجه فيها انتقادات من نقاط عدة، كان من المتوقع أن تتحوّل قضية جاليليو إلى محاكمة شديدة الأثر، بالطبع لا يحاول جولد هنا تبرير الموقف المُشين للكنيسة والإهانة الشديدة لجاليليو، لكنه ينتقد تلك الحالة من الاستخدام الإعلامي لأمر غاية في التعقّد تاريخيا وإبرازه على أنه فقط هو صورة واضحة للصراع بين الدين والعلم عبر التاريخ.
من وجهة النظر تلك، فإن تاريخ الصراع بين الدين والعلم يُفهم بالخطأ على أنه صراع مباشر بين الدين والعلم كمنهجيات، لكن بالنظر إلى الفترة من تاريخ العالم التي شهدت ظهور العلم الحديث، كانت الإجابات عن كل أسئلة “لماذا؟” عند رجال الدين هي أن “النص الديني يقول كذا وكذا”، وبما أن طبيعة البشر أنهم لا يميلون إلى التنازل طوعا عن مناطق كانت لهم سيطرة عليها، حتى دون أن يكون لهم حق فيها، فإن البعض لا شك كان سيلجأ إلى منهجية “فرّق تَسُد” أو منهجية “شيطن الجديد” لكي يستكمل سيطرته. المشكلة إذن ليست في المنطق الذي بنت عليه النطاقات المختلفة (العلم والدين) ذاتها، لكنها مشكلة سياسية تتعلق بالملكية.
يرى جولد، وهو رأي يتفق مع الفكرة العامة لمن تحدثنا عنهم في هذا التقرير، أن العلم والدين هما نطاقان متمايزان غير متداخلان، ويُسمي ذلك بمبدأ “النطاقات غير المتداخلة” (Non-Overlapping Magisteria)، لفهم تلك الفكرة دعنا نتخيل أن هناك نظّارة لا يمكن عبرها أن نرى إلا الأشياء ذات اللون الأحمر، لا يمكن لها أن ترى أي لون آخر، ولنتخيّل أيضا أن هناك نظّارة أخرى لا ترى إلا الأشياء الزرقاء، العالم بالنسبة لتلك النظّارة هو الأزرق فقط، هل يمكن لأيٍّ من النظّارتين أن يرى الآخر أو يرى الأشياء التي يعمل عليها الآخر؟ هكذا يمكن لنا النظر لكلٍّ من الدين والعلم، فكلاهما هو طريقة للتعرف على العالم بآليات مختلفة في التقصي، تلك الآليات هي ما يُمثّل جوهر كلٍّ منهما.
ريتشارد فاينمان، الفيزيائي واسع الشهرة والحاصل على جائزة نوبل، كان يحمل رأيا شبيها، قال ذات مرة إن “الدين هو ثقافة إيمان والعلم هو ثقافة شك”. لتوضيح وظيفة العلم فإن فاينمان يضرب مثالا شائقا، سنفترض أن الآلهة بالأعلى تلعب الشطرنج، هنا على الأرض لا يمكن لنا إلا أن نرى تحركات القطع. نحن لا نعرف ما هي تلك اللعبة ولا نعرف قوانينها، لكننا فقط -من حين لآخر- نرى أن هناك قطعة ما -الفيل- تتحرك في اللون الأسود، وأخرى تتحرك في الأبيض.
وظيفة العلماء هي مراقبة تحركات تلك القطع وتكوين صورة عنها، هذه الصورة هي قوانين الفيزياء، فيحدث مثلا أن نمتلك قانونا فيزيائيا يقول إن “الفيل يتحرك في اللون نفسه”، وآخر يقول إن “الحصان يتحرك بشكل حرف L”، وهكذا. في بعض الأحيان تحدث أشياء مفاجئة كعملية “التبييت” مثلا، حيث يتغير مكان الملك فجأة بشكل يخالف القوانين، هنا يغير العلماء من طبيعة أسئلهم وطريقة رؤيتهم للأمور فتظهر نقاشات جديدة مثل: كيف يمكن للملك أن يتحرك خطوتين أو ثلاث؟ أليس ذلك مخالفا لما تعلّمناه؟ كيف تجاوزت القلعة/الطابية الملك؟، وهكذا. هنا، يقول فاينمان إنه ليس من وظيفة العلم أن يبحث وراء تلك الآلهة بالأعلى أو مصدر تلك القطع أو اللوحة التي تجري عليها أو أي من ذلك القبيل، ولكنه فقط يختص بفهم حركات قطع الشطرنج، طبيعة العلاقات بينها.
في تلك النقطة يضرب فاينمان مثالا يدفع إلى الكثير من التأمل، حيث يشير إلى أنه حينما نعلّق ثقلا في زنبرك فيتمدد، ثم نقول إن “الطاقة” هي ما دفع الزنبرك إلى التمدد، أو أن نقول إن “الله” هو من فعل ذلك، فإن كلتا الجملتين متكافئة! بمعنى أوضح، لا يهتم العلم، من وجهة نظر فاينمان، بتعريف الأشياء، لأن تعريفها يُقيّدها، أو أنه فقط يُقيّد تصوراتنا عنها، لذلك فإنه حينما نستخدم مرادفات “الطاقة” لوصف الطاقة فنحن لا نفعل شيئا، العلم يجيب عن سؤال: “ما العلاقات بين الأشياء، والتي توجد فيها الطاقة؟” وليس سؤال “ما الطاقة؟”. إنها صورة أخرى من مثال الشطرنج السابق.
في الحقيقة، يُشير فاينمان أيضا إلى نقطة أخرى لافتة للانتباه حينما يقول إنه حينما يحاول عالِمٌ ما أن يجيب عن أسئلة لا علاقة لها بالعلم فهو أحمق بقدر الشخص الذي يجلس بجانبه، تلك الفكرة أيضا مهمة، لأنها تتعلق بالعلماء الذين يتحدثون في علاقة العلم بالإيمان أو الإلحاد، حيث يظن الجمهور -حينما يتحدث داوكينز أو هوكينغ على سبيل المثال عن وجود الإله- أن العلم ينكر وجود الإله، لكن خروج العالِم للحديث في أمور كهذه هو خروج عن المنهج العلمي إلى أرض الفلسفة والدين، هذا أمر لا علاقة له بالعلم نفسه.
مِن مجموع مَن حصلوا على نوبل في الفيزياء ما بين عامي 1900 و2000، 2% كانوا من الهندوس، والنسبة نفسها من الملحدين، والنسبة نفسها من البوذيين، جميع الطوائف المسيحية تقريبا حصل أفراد منها على جوائز نوبل في الفيزياء، حصل يهود ومسلمون على نوبل في الفيزياء، محمد عبد السلام (مسلم) حصل عليها مع ستيفن واينبرج (ملحد) سنة 1979. لو كان هناك لمعتقد محدد علاقة واضحة بالعلم لانتهت المشكلة.
حصل محمد عبد السلام -إلى اليسار- (مسلم) على جائزة نوبل في الفيزياء مشاركة مع ستيفن واينبرج -إلى اليمين- (ملحد) سنة 1979 (مواقع التواصل) |
لكن على الرغم من ذلك، فإن بعض العرب المسلمين منبهر بالعلوم لدرجة أنه يود أن يؤسس للإسلام من خلال العلم، والمشكلة هي أنه في أثناء ذلك يحاول أن يُدخل أمورا علمية، ونقصد هنا نظريات وفرضيات وبرامج بحث علمية محددة، ليس فقط إلى سياق الفكر الإسلامي، وإنما إلى العقيدة ذاتها، فيعتبر أن القناعة بالتطور أو الأكوان المتوازية هي خروج عن جوهر العقيدة التي يفسرها بطريقة تتواءم مع أفكاره، ويعتبر أن النقاشات المثيرة جدا للاهتمام حول الطبيعة البشرية، سواء نطاق الحديث عن حرية الإرادة أو أصل الخير والشر في الإنسان، هي نقاشات إلحادية بطبعها لمجرد أنها تتطرق إلى موضوعات علمية قام هو بوضعها في العقيدة الإسلامية!
والمشكلة الكبرى التي طالما واجهناها مع أفكار كتلك، هي أن لها تأثيرا عكسيا مباشرا على الناس، لأن هذا الفيلق يحشر “الله” حشرا في فجوات العلم وفرضياته غير المؤكدة وجدالاته الواسعة جدا، وكل باحث يعرف جيدا كمّ الجدل والتغير الدائم الذي يعتري تخصصه، ما يضع العلم والدين في مواجهة مباشرة قد تتسبّب في خروج طالب محب للعلم من أيٍّ من النطاقين، وتلك خسارة كبيرة.
الفكرة البسيطة إذن، وهي: هناك حلول للمشكلات، هناك علماء متخصصون في نطاقاتهم لا يجدون تعارضا بين دينهم الإسلامي والبيولوجيا التطورية، أو الدين والعلم في العموم، وهذا الرأي سائد في أوساط “العلم والدين”، قد يكون ما يبدو للوهلة الأولى تعارضا هو فقط التباس في فهم المنهجيات، وفي النهاية فإن هذا النطاق البحثي الذي يختص بدراسة العلم والدين يحوي الكثير من النقاشات المهمة، والاختلافات الكثيرة، والعمق البحثي الواسع بحيث لا يمكن اختصاره في تقرير واحد، لكن الجميع يتفق على أن عقول البشر لم تعجز عن إيجاد حلول توافقية تمنع المشكلات وتفتح الباب لحب العلم والدين في الوقت نفسه، كفرصتين غير متعارضتين لتأمّل هذا العالم.
(المصدر: ميدان الجزيرة)