مقالاتمقالات مختارة

حديث الفسيلة وكورونا .. وملء الفراغ حتى إذا جاء يوم القيامة | د. علي القره داغي

حديث الفسيلة وكورونا .. وملء الفراغ حتى إذا جاء يوم القيامة | د. علي القره داغي

أحدث كورونا فراغاً كبيراً في العالم، فراغاً في الوقت، والفراغ سيف ذو حدين؛ إن استثمر  للعمل الصالح فهو نعمة، وإن استعمل للشرور والسيئات فهو نقمة، فمن الناس من استغل هذه الفترة في ظل وباء كورونا (كوفيد19) للتفكير في الشرور والسرقات، بل أبدعوا طرقاً جديدة للتحايل على الناس، والنصب والخداع، حيث تشير الدراسات إلى أن الجرائم التقليدية تراجعت وقلّتْ، ولكن جرائم النصب والاحتيال الإلكتروني قد ازدادت، وكذلك ازداد التحايل في بيع الأقنعة والأدوية المزيفة، وقد حذرت وكالة الشرطة الأوروبية ( يورو بول) من هؤلاء المجرمين الذي يستغلون مخاوف الناس من جائحة كورونا لبيعهم منتجات دون المستوى المطلوب، أو يحتالون عليهم ويستولون على أموالهم عبر الإنترنت، حيث غيروا طرقهم مستغلين انتشار الوباء، وأفادت المنظمة الأوروبية في تقريرها الجمعة: 24 / 4 / 2020م أن الشرطة قد ضبطت 34 ألف قناع جراحي مزيف، وقال وزير الداخلية النمساوي كارل نيهامر هذا الأسبوع: نحن نشهد انخفاضاً في عمليات السطو والسرقة، لكن في الوقت نفسه هناك ازدياد في نسبة الجرائم الإلكترونية، كما حذرت منظمة الصحة العالمية من زيادة حادة في عمليات الاحتيال عبر البريد الإلكتروني لسرقة المال والمعلومات الحساسة من المستخدمين[1].

أمام هذا الوضع فإن الإسلام يفرض علينا أن نستغل أوقاتنا للعمل الجاد، والتفكير الإبداعي، والإبداع الحقيقي كل في مجاله، فالعمل فريضة دائمة ودائبة إلى قيام الساعة، ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:” إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها”[2].

وهذا الحديث الصحيح يدل على مجموعة من القضايا الحضارية التي تقوم عليها الحضارة الراقية والتقدم، وهي:

  1. اغتنام الفرص، ووجوب العمل النافع للدنيا والآخرة في جميع الأهوال والظروف، وفي حالة الشدة والرخاء، والمصائب، وفي حالتي السعة والضيق، فليس هناك عذر لعدم العمل ما دام ممكناً، حتى وإن كانت لحظة فيجب استثمارها.
  2. إن العمل في المفهوم القرآني يشمل جميع الأفعال العلمية والمادية، والفكرية والقلبية واللسانية، والجوارح كل حسب قدراته وتخصصه، فالعالم يشغل فكره العميق كل في تخصصه، ويعمل في تطوير عمله، وفي نشره، وفي الإبداع والتجديد فيه، والعامل يعمل بيده وجوارحه ولا يتعطل عن العمل أبداً في جميع الأحوال والظروف.
  3. أن الظروف غير العادية لا تعطي للإنسان الحق في عدم العمل، فهذا رسولنا العظيم يأمرنا بغرس الفسيلة في ظل مجيء أهوال الساعة (يوم القيامة، وأشراطه).
  4. لا يجوز للعامل (العالم والعامل) أن يعطل عمله بسبب الخوف من أنه لا يستفاد منه، أو أنه لا يُثمر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول:” إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها”، مع أنه من المعلوم أنه مع مجيء الساعة يخرب كل ما على الأرض، فهنا يعلمنا الرسول صلى الله عليه وسلم بأن علينا العمل دائماً دون النظر إلى ثماره، هل يثمر أم لا؟ لأن الثمار والنتائج بيد الله تعالى، وأن المطلوب من المسلم العمل الفكري والعقلي، ثم تفويض الأمر كله إلى الله تعالى.
  5. إن المراد بمجيء الساعة هنا قيام الساعة للتأكيد الشديد على الحرص على العمل في جميع الظروف، فيحمل الحديث على ظاهره في نظري، حيث يحمل محمل ضرب المثل الذي يقصد منه عدم النظر إلى ثمرة العمل.

ومن العلماء من فسره بمجيء علامات الساعة، قال المناوي:” أراد بقيام الساعة: أماراتها”[3].

  1. والحديث يدل أيضاً على أهمية الزراعة والغراس وتعمير الأرض، وفي ذلك إشارة إلى أهميتها للحياة الكونية، حيث يدل أيضاً على ضرورة الحفاظ على جمال الطبيعة.
  2. أن على الإنسان المسلم أن لا يكون أنانياً، وأن لا يفكر في مصلحة نفسه واستفادته فقط مما ينتجه، بل عليه أن يفكر للعمل للأجيال اللاحقة، فقد قال الفاروق عمر رضي الله عنه لخزيمة بن ثابت:” ما يمنعك أن تغرس أرضك؟ فقال له خزيمة: انا شيخ كبير أموت غداً، فقال له عمر:” أعزم عليك لتغرسنها، قال عمارة بن خزيمة: فلقد رأيت عمر بن الخطاب يغرسها بيده مع أبي”[4].
  3. الحرص على الوقت فلا يضيعه ما دام العمل ممكناً، والعمل بمعناه العام لا يمكن أن يمنع لأنه إن لم يكن بالجوارح، فيستطيع أن يعمل بقلبه، وفكره وعقله، ولسانه.
  4. التفاؤل الكبير والأمل العظيم والنظر بنظرة إيجابية مشرقة نحو المستقبل مهما كانت هناك تحديات.
  5. أن يكون المسلم صاحب المبادرات الإيجابية.
  6. الوقت هو الحياة فلا يجوز تضييعه، ولو كان دقيقة فلها قيمتها حيث يمكن أن يستغلها لعمل نافع.
  7. في ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الفسيلة بدل النواة، إشارة إلى أن المسلم يختار العمل الأنفع والأسرع من حيث الثمار والنتائج[5].

ذكرت هذا الحديث ومعظم الناس اليوم في ظل كورونا لا يعملون، ومعطلون جالسون في بيوتهم، ويحسون بالفراغ، حيث إن الحديث يدل على أن النوازل حتى مجيء الساعة لا ينبغي أن يعطل المسلم عن العمل، فالعالم يفكر ويعمل، والمتخصصون في الطب وعلوم الأوبئة والأدوية عليهم أن يسابقوا الزمن للوصول إلى لقاح، وعلاج لهذا الوباء، وقد أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم التفاؤل بأنه” ما من داء إلا وله دواء”[6] وكذلك يعمل كل إنسان في تخصصه وعمله، ولا يضيع دقيقة واحدة، فيقدم المشاريع النافعة، ويكون إيجابياً في حياته، والمفروض أن يكون لعلمائنا المتخصصين السبق في إنقاذ العالم من هذا الوباء، من خلال لقاح مانع، وعلاج ناجع.

هذا والله الموفق


[1] – موقعd W) Made For Minds)

[2] – رواه البخاري في الأدب المفرد (371) وقال الألباني في صحيح الأدب المفرد (371):” صحيح”، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (4 / 66) رجاله أثبات ثقات”، وكذلك صححه الأرناؤوط في تخريج زاد المعاد (3 / 78)، ورواه أحمد (12902) وعبد بن حميد في مسنده (1216) والبزار في مسنده (7408).

[3] – التيسير شرح الجامع الصغير (1 /372)

[4] – عزاه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1 / 8) إلى الجامع الكبير للسيوطي، ثم رأيته في كنز العمال (2 / 909) الحديث (9136) في مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن عمارة بن خزيمة بن ثابت: سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي: ما يمنعك….”.

[5] – يراجع في هذا الموضوع: عمدة القاري للحافظ العيني (12 /155)

[6] – رواه النسائي في الكبرى (6863) وأحمد (3922) وابن ماجه (3438) وإسناده حسن.

(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى