مقالاتمقالات مختارة

حدود الدين ومقتضيات السياسة

حدود الدين ومقتضيات السياسة

بقلم بن عجمية بو عبدالله

جاءت الأديان لتنظم حياة الناس وتنشر قيم العدل والتسامح والمساواة بين البشر، كما أنها جاءت لكي يعمر الإنسان في الأرض ويؤسس لدول وحضارات ومجتمعات إنسانية راقية يعطي فيها خدمة للبشرية التي يجب أن نخدمها، كل في مجاله وتخصصه، كما جاءت الأديان أيضا لتمنع الظلم والاستبداد والهيمنة والسيطرة سواء بين الأفراد أو بين المجتمعات والدول.

لكن، ومن باب الموضوعية، وجب التنبيه إلى أن الأديان ليست على نفس القدر من التوجهات الإصلاحية والتعاليم السليمة والمنتجة، ففرقٌ كبيرٌ بين المسيحية المحرَّفة مثلا والتي حاربت العلم والعلماء في زمن تحكم وسيطرة الكنيسة وبين الدين الإسلامي الذي صنع حضارات وشجع على العلم والابداع والاختراع، وهذه ملاحظة مهمة في فهم كيف تشكلت العلمانية الغربية التي فصلت الدين عن السياسة لأنه أصبح معيقا لتطور الحياة المنطقي والفطري، وعليه فإن أي محاولة لاستنساخ التجربة الغربية في الانقلاب على الدين وفصله وتهميشه في عالمنا العربي والإسلامي هو إسقاطٌ ظالم للشريعة الإسلامية ومبادئها التي لا تتعارض أبدا لا مع السياسة ولا مع الحياة.

ولكي يعطي الإنسان مشروعية لأعماله غير المنضبطة وغير السوية، سيجد الدين حاجزا قويا في مواجهته، ولذلك سيحاول وبكل الطرق أن يقوم بتحييده ومقاومة تعاليمه، بل يحاول أن يجعل الدينَ مادة للنقاش والجدل والتشكيك حول جدواه وأهميته في حياتنا مستدلا بعديد المجتمعات غير الدينية، ولكنها في المقابل حضاراتٌ قوية صنعت قصص نجاح وفي شتى المجالات دون الاحتكام إلى الدين، ولعل هذا الواقع الذي تراكم عبر الزمن جعل الدينَ مادة لطرح التساؤلات المهمة التالية:

  • هل أصبح الدين في حياة الناس أمرا هامشيا وثانويا؟ أم أنه لا يزال حاضرا بقوة في تفاصيل وكليات حياتهم ومواقفهم؟
  • إلى أين وصلت العلمانية من تغلغل وتنفُّذ في مجتمعاتنا الإسلامية؟ وهل نجحت في تهميش الدين وتحييده عن السياسة وربما الحياة عموما؟
  • هل يجوز استخدام الدين في السياسة من قبل الحكام؟ في حين يُمنع آخرون من هذا الحق بدعوى أن الدين للجميع؟
  • هل يجوز للأحزاب والتنظيمات أن تتأسس على خلفيات دينية مستغلين بذلك عواطف الجماهير تجاه أديانهم؟
  • ما هي حدود الدين؟ وماهي حدود السياسة؟ ولماذا اندلع الخلاف والجدل حول العلاقة بينهما في ثنائية حادة: إما الدين أو السياسة؟

إن محاولة إعطاء إجابات شافية ومفصلة وعميقة على هذه التساؤلات يحتاج إلى كتب ومجلدات ونقاشات عديدة لن تسعها هذه الأسطر القليلة، مع أهمية الإشارة إلى أن هناك ملايين الإسهامات الفكرية والفلسفية والسياسية التي تناولت هذا الموضوع، ولكنني سأحاول تسجيل الملاحظات التالية من قبيل بعض مطالعاتي واحتكاكي بالإسلاميين والعلمانيين معا:

يجب أن نستحضر دائما، ونحن نناقش إشكالية الدين وعلاقته بالسياسة والحياة، أنه يشكل السواد الأعظم في بلداننا الإسلامية، وأن حضوره العاطفي والذهني متجذرٌ لدى المسلم، صحيح قد لا يكون هذا الأخير ملتزما بتعاليمه كلها أو منضبطا بأوامره ومنتهيا عن نواهيه، ولكنه لا يقبل أبدا أن يحارَب أو يواجَه أو حتى يُنتَقد، لذلك تحاول عديد الفعاليات السياسية في العالم الإسلامي الظهور بخلفية دينية لاستعطاف ميولهم وكسب أصواتهم ودعمهم في السياسة والمجتمع، وبالتالي أي محاولة لمصادمة هذا التيار الجارف والكبير هو مغامرة خطيرة وحساسة من قبل العلمانيين أو اللادينيين في المجتمعات الإسلامية، وهذه المسألة تحديدا لم تكن في حسبان العلمانيين الذين فشلوا -في اعتقادي- في إحداث اختراق كبير وتهميش الدين وفصله عن السياسة.

عندما تتحوّل الأديان إلى فضاء للصراعات، فهذا دليل على أنّ النخب في هذه البلدان ليست على توافق وتجانس، كما تعكس الهوة الكبيرة بين مختلف الفعاليات السياسية وأن فكرة العقد الاجتماعي لا تزال بعيدة المنال، لأن واحدا من الأمور الأساسية وهي الدين أصبحت محل جدل وخلاف إلى درجة استحالة التعايش حد الاقتتال أحيانا، وفي أغلب الأحيان هي صراعات مفتعلة قد تحركها قوى داخلية بمصالح محدودة وضيقة، وقد تحركها قوى خارجية كذلك لها مصالح في زعزعة مجتمعاتنا ودولنا لأجل إدامة مصالحها ونفوذها.

كما أن الدين عاملٌ للاستقرار والتطوّر والإبداع، قد يتحوّل إلى عامل للهدم والصراعات والتفتت والحروب الأهلية إذا ما تم إقحامه في الصراع، وهذا للأسف الشديد ما قامت به عديد الأنظمة الحاكمة في الدول الإسلامية وقامت به -من باب الموضوعية- الكثيرُ من التنظيمات السياسية والطوائف ذات الخلفية الدينية، والنتيجة الدخول في حروب أهلية ودول ضعيفة ومجتمعات مفككة؛ إذ أنه، بدل الاحتماء بالدولة الجامعة والعقد الاجتماعي وقيم المواطنة، احتمى الكل تحت ديانته وعرشه وطائفته ومذهبه كما حدث ويحدث في بلد مثل العراق ولبنان واليمن وسوريا وليبيا للأسف الشديد، وعليه قد يكون كل شيء مقبولا في الصراع إلا الدين لأن اقحام هذا الأخير في التدافع له عواقب خطيرة لن يزول مفعولها بسرعة أو سهولة.

إن أكثر الانحرافات التي حدثت وتحدث في التعامل مع الدين هو استخدام الأنظمة الحاكمة له، من تسييس له واحتواء واستخدام سواء في المناهج التربوية أو في الإعلام أو من خلال احتواء المساجد وخطبها، في حين منعت الآخرين، من فعاليات سياسية تحديدا، من القيام بنفس الأمر.

في المقابل كذلك، حاولت الكثير من الجماعات والأحزاب الإسلامية استخدام واحتكار الدين للوصول إلى السلطة، بل وراحت تصنّف الآخرين وفق خلفية دينية وإعطاء الشرعية لهذه الجهة وتكفير الجهة الأخرى وتبديع وتفسيق من تبقى وأنها الوحيدة الناطقة باسم الدين أو باسم الله في الأرض، طبيعي في السياسة أن تكون لك خلفية دينية، ومعقول جدا في التدافع السياسي كذلك أن تدافع عن الدين وقيمه وتعاليمه، لكن احتكاره لنفسك فقط وتوظيف الفتاوى في نفس البلد المسلم للتموقع والاحتكار، فهذا هو غير المقبول لأن الدين للجميع ولا يمكن اختطافه لا من السلطة ولا من الأحزاب.

موضوع الفتاوى وتحديدا الفتاوى السياسية كذلك حدثت فيها تجاوزاتٌ كثيرة، فمرة نسمع أن الديمقراطية كفرٌ لكن لا بأس باستخدامها للوصول إلى السلطة، ومرة نسمع بأن جماعة ما ستدخل جهنم فقط لأننا نختلف معها في التوجُّه السياسي والقناعات، وهذا موضوع طويل يحتاج لمقالات عديدة، وتحضرني في هذا المقام عديد الفتاوى التي أصنفها أنها ضلت عن النص وعن الشرع وهي خلفياتٌ سياسية أكثر منها أحكام شرعية، فكيف يكون الاجتهاد السياسي في قضية من القضايا الحياتية التي تُعنى بشؤون الشعب أو المجتمع أن تدخل ضمن التصنيف الديني أو الأحكام التي لم تجمع عليها الأمة وإنما هي اجتهادات لجماعات تريد الوصول الى السلطة، وهذا حقها المشروع ولكن ليس من حقها أبدا أن تستخدم الدين والفتوى لإقصاء الآخرين أو إبعادهم عن المشهد في حين أنهم يمتلكون نفس الحق معك في أن يصلوا هم كذلك إلى السلطة.

سنجد في الأخير أن الجميع حاول أن يستخدم الدين، إمّا باحتكاره أو بتهميشه، والنتيجة للأسف كانت واحدة وهي أن كل الأطراف لم تنجح في بناء عقد اجتماعي يكون فيه الدين عاملا للاستقرار وليس للتوتر والأزمات.

(المصدر: صحيفة الشروق الالكترونية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى