بقلم د. أكرم كساب.
انتهينا فيما مضى إلى أن السياسة الشرعية تكون فيما لا نص فيه، وفيما فيه نص كذلك، وأن وجود النص ليس شرطا، وعليه فإن العلماء يؤكدون على أن السياسة الشرعية تكثر في ما لا نص فيه، ولقد درج العلماء في القديم والحديث عند ذكر مشروعية السياسة الشرعية وحجيتها أن يركزوا على السياسة بالمعنى الخاص؛ وهو ما لا نص فيه، وأخص من ذلك ما تعلق بقرارات الحاكم وسياساته في الأمور القضائية والتعزيرات.
فابن القيم مثلا في كتابه (الطرق الحكمية) كان سبب تأليفه هذا الكتاب أن سائلا سأله عن الحاكم، أو الوالي يحكم بالفراسة والقرائن التي يظهر له فيها الحق، والاستدلال بالأمارات ولا يقف مع مجرد ظواهر البينات والإقرار، حتى إنه ربما يتهدد أحد الخصمين، إذا ظهر منه أنه مبطل وربما ضربه، وربما سأله عن أشياء تدله على صورة الحال فهل ذلك صواب أم خطأ؟
وقد ساق ابن القيم ما ساق من عشرات وعشرات الأدلة فيما يتعلق بالقضاء وتحقيق طرقه التي تتماشى مع سياسة الأمم بالعدل المنشود، وهو هنا يتحدث فقط عن دائرة محدودة من السياسة الشرعية وحجيتها.
ومن قبله شيخه ابن تيمية في كتابه (السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية) أقامه على آيتي سورة النساء: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 58، 59]، وقد أفرد فيه ابن تيمية جزء كبيرا جعله للحديث عن الحدود والتعزيرات بعد أن تحدث عن أولايات ومعرفة الأصلح، والأموال…. وغيرها مما يلحق بالسياسة الشرعية.
وإبراهيم بن يحي بن خليفة المشهور بـ (دَدَه أفندي) عقد فصلا كاملا في كتابه (السياسة الشرعية) للدلالة على مشروعيتها، كان -جل إن لم يكن كل ما استشهد به إنما- يتعلق بمشروعية التعزيرات وفعل الحاكم فيها.
لكني سأذكر هنا حجية العمل بالسياسة الشرعية بمعناها العام والخاص، وليس كما يذكر الغالب الأعظم من الفقهاء والعلماء حجية ما لا نص فيه فقط.
أولا: المشروعية من الكتاب:
لقد عجّ القرآن الكريم بالعشرات؛ بل المئات من الآيات القرآنية التي تؤكد مشروعية السياسة الشرعية والعمل بها، ومن ذلك الآيات التي وردت في الدلالة على وحدانية الله في الحكم والتشريع: كقوله تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]، والآيات الدالة على الحكم بما أنزل الله: كقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49]،والآيات الدالة على طاعة النبي صلى الله عليه وسلم: كقوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } [آل عمران: 32]، والنصوص الدالة على طاعة ولي الأمر: كقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } [النساء: 9]، والنصوص الدالة على تحقيق العدل والمساوة والشورى: ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } [النساء: 58]، وقوله جلّ شأنه:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ } [آل عمران: 159]، وقوله سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، والآيات الداخلة السير والمغازي والجهاد كقوله تعالى: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ}(البقرة:193).
ثانيا: المشروعية من السنة:
وأما السنة فقد حفلت دواوينها من جوامع ومسانيد وسنن ومصنفات بالكثير والكثير من الأدلة على السياسة الشرعية، ومن ذلك ما ورد في أن الله سبحانه هو الحكم وله الحكم، روى أبو داود عن شُرَيْحٍ عَنْ أَبِيهِ هَانِئٍ أَنَّهُ لَمَّا وَفَدَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قَوْمِهِ سَمِعَهُمْ يَكْنُونَهُ بِأَبِي الْحَكَمِ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَكَمُ، وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ، فَلِمَ تُكْنَى أَبَا الْحَكَمِ؟» فَقَالَ: إِنَّ قَوْمِي إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَتَوْنِي، فَحَكَمْتُ بَيْنَهُمْ فَرَضِيَ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَحْسَنَ هَذَا، فَمَا لَكَ مِنَ الْوَلَدِ؟» قَالَ: لِي شُرَيْحٌ، وَمُسْلِمٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: «فَمَنْ أَكْبَرُهُمْ؟» قُلْتُ: شُرَيْحٌ، قَالَ: «فَأَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ» رواه أبو داود وصححه الألباني.
ومن ذلك ما جاء في مشروعية التعزير بما لا يزيد عن الحد، روى البخاري عن عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَابِرٍ، عَمَّنْ، سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: “لاَ عُقُوبَةَ فَوْقَ عَشْرِ ضَرَبَاتٍ إِلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ” رواه البخاري.
ومنه ماجاء في الصبر على أئمة الجور، وعدم مفارقة الجماعة، روى الشيخان عن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرٍ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» رواه البخاري.
ومنه ما جاء في المحافظة على التوازن البيئي؛ إذ دعا النبي إلى عدم قتل الكلاب، روى أحمد مسنده عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” لَوْلَا أَنَّ الْكِلَابَ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ لَأَمَرْتُ بِقَتْلِهَا، فَاقْتُلُوا مِنْهَا الْأَسْوَدَ الْبَهِيمَ. وَأَيُّمَا قَوْمٍ اتَّخَذُوا كَلْبًا لَيْسَ بِكَلْبِ حَرْثٍ أَوْ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ نَقَصُوا مِنْ أُجُورِهِمْ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطًا” في موضعه في المباحث القادمة.
ثالثا: المشروعية من الإجماع:
والإجماع كذلك على مشروعية السياسة الشرعية، إذ الإجماع منعقد على كثير من مسائلها، ومن ذلك إجماع الصحابة على تنصيب أمير بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وإجماعهم على خلافة أبي بكر، وإجماعهم على جمع أبي بكر للقرآن، وقتاله للمرتدين، وإجماعهم على حرق عثمان للمصاحف.. وما أكثر ذلك… وسيأتي كل في موضعه في المباحث القادمة.