حجية السنة وأباطيل المنكرين لها
بقلم د. محمد محمد أبو ليلة
يشكك المسمون زوراً بالقرآنيين في حُجية السنة النبوية المطهرة بزعم أن القرآن كاف للمسلمين من حيث التشريع، وأنه بالتالي لا حاجة إلى السنة النبوية المطهرة؛ لأن القرآن فيه كل شيء يهم المسلم بدليل قوله تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتٰبِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ (الأنعام:38)، ويزعم هؤلاء أن السنة دخل عليها الوضع، والأحاديث الموضوعة معروفة، أما القرآن فإن الله تكفل بحفظه، ولم يتكفل بحفظ السنة، وغير ذلك من الدعاوي الباطلة، فكيف يكون الرد على هؤلاء؟
في البداية أقول إنه لولا خطر السماوات المفتوحة عبر شاشات التليفزيون، وشبكة المعلومات الدولية، وسعرة تدفق المعلومات والأفكار والبدع والشبهات؛ لكنا أعرضنا عن هؤلاء وتركناهم وما يزعمون، لأنهم خارجون على إجماع المسلمين، وعن ظواهر النصوص القرآنية نفسها، هذا إذاكانوا مسلمين أصلاً، وأما إذا كانوا غير مسلمين ممن تخصصوا في التشكيك في الإسلام، وفي تضليل المسلمين؛ فإنهم قد خالفوا الأدلة النقلية التي على المعارض أن يلتزم بها، ويقف عند حدها؛ وخالفوا كذلك أدلة العقل، وما يرتاح إليه من الأدلة والبراهين، وما يصحب ذلك من استنباطات أهل العلم والرأى.
وإنه لمن المعلوم من الدين بالضرورة أن السنة النبوية الشريفة هي المصدر الثاني للتشريع الإسلامي رتبةً وترتيباً، والسنة وحي بالمعاني، كما أن القرآن وحي بالمعاني والمباني، يقول الله تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾ (النجم: 3-5).
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم ينطق قط عن هوى أو غرض في النفس، والمعروف أن ما نطق به النبي صلى الله عليه وسلم كان قرآناً وسنةً، وبالتالي فالهوى منفي عن القرآن وعن السنة معاً، ووصف الوحي شامل لكليهما، مع مراعاة الفرق بين الوحيين.
ومن المعروف للمسلمين أن السنة منها القولي الخاص بأقواله صلى الله عليه وسلم، ومنها الفعلي، والعملي الخاص بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها التقريري أي الخاص بموافقاته صلى الله عليه وسلم أو رضاه عن الفعل أوالترك.
ولهؤلاء الذين يزعمون أنهم يتمسكون بالقرآن نقول: إنكم لا تتمسكون لا بقرآن، ولا بسنة، وإنما تتخذون من دعواكم الكاذبة عباءةً لتشكيك المسلمين، وتضليل المؤمنين، وصرفهم عن العمل بأحكام الله، قرآنا كانت أو سنةً.
وهنا نقدم بعض أدلة القرآن والسنة على حجية السنة، وثبوت حكمها، ووجوب العمل بها مع القرآن الكريم.
الأدلة من القرآن الكريم، ومن السنة النبوية كثيرة، وهذه الأدلة قد شكلت إجماع الأمة، على أن مصدرى الإسلام الأعظمين هما القرآن والسنة.
دليل آخر أسميه «الدليل الأعلى والجامع»، وهو في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ﴾ (النساء:64). فهذه قاعدة عامة تنطبق على جميع الرسل، فإن الله يُرسل الرسول ليُطاع فيما بلغ، وفيما أمر ونهي، وفيما فعل، وفيما ترك، وهل يَتَصَور عاقل أن الله يستعمل الرسل، وهم أفضل خلقه وأَخْيَرِهِم لمجرد تمرير الرسالة إلى الناس لا غير؟! هذا منطق معكوس ودس على القرآن والسنة جميعاً، فإن التشكيك في إحداهما ينسحب بلاشك على الآخر؛ وفيه تشكيك كذلك في مصداقية الصحابة الذين حفظوا القرآن الكريم، وحفظوا السنة واعتنوا بهما، حفظاً وكتابةً، وجمعاً وتدوينًا، وتدبرًا واستنباطاً.
يقول الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (إبراهيم:4). فالبيان – وليس النقل الآلي – هو مقصود الله تعالى من بعثة الرسل عليهم السلام.
وهذه آية أخرى ساطعة وصادعة بالحق في وجوب اتباع رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ (الحشر:7).
ومعنى الآية: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ﴾ من كتاب، أو سنة ﴿فَخُذُوهُ﴾، أي اقبلوه واعملوا به، ﴿وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ﴾ أي من عند نفسه، وبتوقيف من ربه ﴿فَانْتَهُوا﴾، وكذلك يكون الشأن بالنسبة لأمره ولسائر أقواله، وأفعاله.
ويقول تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ (النور:65).
وهذه الآية مهمة في موضوعنا، ولأهميتها نتوقف عندها قليلاً، وتأتى أهمية هذه الآية، لكونها تضمنت مع الأمر بوجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم أمرين آخرين كلاهما يُكذب منكري السنة.
إذ طرحت علينا الآية ثلاثة أوامر جاء ذكرها على هذا النحو، الذي يفيد التساوي في الأهمية والحكم:
1 – إقامة الصلاة .
2 – إيتاء الزكاة.
3 – طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وإذا كان المعلوم أن الصلاة والزكاة ركنان من أركان الإسلام، فإن طاعة المرسل بهما صلى الله عليه وسلم من طاعة الله تعالى صاحب الأمر والنهي.
وهنا نسأل متى شرعت الصلاة؟، وكيف نقيم الصلاة؟، وما عددها في اليوم والليلة؟، وما أوقاتها؟، هل ذكر في القرآن أنها خمس صلوات في اليوم والليلة؟، وهل ذكر في القرآن أسماء الصلوات الخمس، وأوقاتها؟: (صلاة الفجر، وصلاة الظهر، وصلاة العصر، وصلاة المغرب، ثم صلاة العشاء) أين يوجد هذا في القرآن؟، ما كيفية الإعداد للصّلاة، والدخول فيها؟، ما عدد الركعات؟، وما هيئات الصلاة؟، وما يجب على المصلى قوله؟، وكيف يدخل فيها؟، وكيف يخرج منها؟.
الخيار هنا إما الاكتفاء بما جاء في القرآن من إشارات إلى الصلاة وأهميتها وأثرها في النفس دون أن نصلى، وإما أن نصلي بالصلاة وفي كل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا ورد الأمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الأمر بالصلاة والزكاة.
ونسأل عن الزكاة، وهي عماد المجتمع المسلم الصحيح والمتوازن، هل يحتوي القرآن على التفاصيل الخاصة بها، مقاديرها، أنواعها، مصارفها إلخ، إن هذا مما اختصت السنة ببيانه بنص قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (النحل:44).
ونسأل أيضا هل ذكرت زكاة الفطر في القرآن الكريم التي هي فريضة نبوية يتوقف عليها قبول الصيام.
ونفس الشيء يقال بالنسبة للصوم والحج، وسائر الفرائض الإسلامية.
يقول الله تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتٰبَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ (آل عمران:164).
وهذه آية قاطعة لأعناق المدعين، فالآية تقرر أولاً أن الرسول جاء من جنس البشر، ومن أنفسهم، وأحسنهم، وفي هذا إيحاء بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما بعث ليبين ويعمل بين الناس، وليس ليبلغهم فحسب.
وقد جاء بعد هذه الفقرة، قوله: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾ أي القرآن الكريم، ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾ أي يربيهم ويهذبهم، طبقاً للمنهج الذي جاء به صلى الله عليه وسلم، ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتٰبَ﴾ أي يحفظهم ويفهمهم الكتاب وهو القرآن الكريم، «والحكمة» يعني السنة، أو ما يصدر عنه صلى الله عليه وسلم وهو حكيم الحكماء، وقد اعترف المنصفون من خصومه الأقدمين والمحدثين، والمعاصرين، فضلاً عن المؤمنين به المحبين له، على أنه صلى الله عليه وسلم كان المثل الأعلى في الحكمة وفي الأخلاق. هذا الحكيم، الذي جمع الله تعالى له حكمة السماء، وحكمة الأرض، وحكمة الأولين، وحكمة اللاحقين، هو الأسوة الحسنة، وهو الدليل على الله، والهادي إلى سواء السبيل بقوله وعمله صلى الله عليه وسلم.
يقول الله تعالى: لنساء النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالحكْمَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيرًا﴾ (الأحزاب:34). أجمع المفسرون على أن آيات الله هي القرآن، وأن الحكمة هي السنة.
ويقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا أَطِيعُوا اللهَ وأَطِيعُوا الرِّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾ (محمد:33).
إذن فمعصية النبي صلى الله عليه وسلم، أو رَدُّ سنته الثابتة على أي نحو من الأنحاء يحبط الأعمال، ويذهب بالإيمان. يقول تعالى في المعنى نفسه، وبصيغة تزيل أي وجه للمخالفة بين طاعته عز وجل، وطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم:
﴿قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ (آل عمران:32). أي أطيعهما معاً.
وتنص الآية على أن من فرق بين طاعة الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم فإنه خارج عن أهل الملة.
ونختم كلامنا عن أدلة القرآن على حجية السنة، وإمامة صاحبها صلى الله عليه وسلم للأمة إلى يوم الدين بقوله تعالى: ﴿الٰركِتٰبٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمٰتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ (إبراهيم:1).
فهذا نص على عمله صلى الله عليه وسلم في التمكين للدين، وفي تأسيس الأمة، ووضع قواعد الحضارة الجديدة المتميزة بالجمع بين المادي والروحي، بين الديني والدنيوي، بين مصالح الفرد ومصالح الجماعة، والأمة، والأسرة الإنسانية كلها.
وقبل أن ننتقل إلى أدلة حجية السنة، ووجوب اتباع صاحبها صلى الله عليه وسلم نسأل هل في القرآن أمر للرسول صلى الله عليه وسلم بإقامة دولة المدينة المنورة، أو بالهجرة إليها، أو إلى الطائف قبلها؟، وهل في القرآن أن المسلمين ذهبوا إلى حبشة فرارًا بدينهم ثم لحقوا برسول الله في المدينة؟. هل في القرآن نص على معاهدة الحديبية؟، هل فعل النبي صلى الله عليه وسلم كل ذلك، وغيره كثير بخلاف أمر الله عز وجل؟ وخروجاً على تعاليم القرآن، وماذا عن التفاصيل والتطبيقات الدقيقة للصّلاة والزكاة والصيام والحج، وعن خطط الدفاع عن الأمة والدولة عند الخطر؟.
إن منكري السنة، يتجاهلون أعمال النبي صلى الله عليه وسلم العظيمة، التي غيرت وجه العالم، وصححت مسيرة التاريخ لصالح الإنسانية جمعاء، ويودون لو شطبوها من التاريخ.
ومن الأدلة التي لا يمكن لمنكري السنة أن يعارضوها قوله تعالى بشأن تحويل القبلة: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ (البقرة:143).
وقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه «حذيفة بن اليمان» رضي الله عنه قال: «حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثَيْنِ قَدْ رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا، وأَنَا أَنْتَظِرُ الآخَرَ، حَدَّثَنَا أَنَّ الأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ (أصل) قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ نَزَلَ الْقُرْآنُ فَعَلِمُوا مِن الْقُرْآنِ، وَعَلِمُوا مِن السُّنَّةِ…»(1).
بعد أن اتضح بالأدلة القرآنية القاطعة، أن السنة هي المصدر الثاني للإسلام، وأن حجية الثابت منها، حكمه حُكم القرآن بلا تفرقة من حيث اعتبار الشرع. نريد الآن أن نستعرض معاً بعض أدلة السنة، وأدلة العقل السليم على حجية السنة المطهرة.
في البداية لا بد أن نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأسوة، والقدوة في أفعاله وأقواله، وتقريراته، يقول الله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسضنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا﴾ (الأحزاب:21).
وإذن فإن من لم يتخذ النبي صلى الله عليه وسلم أسوةً فهو غير مؤمن بالله، واليوم الآخر، غيرراج لرحمته تعالى، غير ذاكر لله عز وجل، وعن «عمر بن عبد العزيز» أن أهل السنة كانوا يقولون: «الاعتصام بالسنة نجاة».
يقول الله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (آل عمران:31).
ومن لم يأنس بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويهتدي به فهو غير محب له، وغير محب لله، وليس ينفعه الإيمان إذا ادعاه.
يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ (الأنفال:24). فكل ما دعانا إليه النبي صلى الله عليه وسلم، قرآنا كان أوسنةً، ففيه الحياة الطيبة لنا، والسعادة الأبدية التي بدايتها في الدنيا، ولا نهاية لها في الآخرة.
وقد كان الصحابة يتقلدون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل شيء، وقال صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ أَبَى قَالُوا: «يَارَسُولَ اللهِ وَمَنْ يَأْبَى» قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى»(2).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر وينهى، ويوصى وينصح، ويوجه ويخطط، ويعلم، ويقود، ويبعث بالقادة والمعلمين، وكان يدرب قادته ومبعوثيه على منهج الدعوة، والعمل للدنيا والدين.
ومن أقواله في هذا الصدد قوله صلى الله عليه وسلم: «خُذُوْا عَنِّيْ مَنَاسِكَكم»، «خذوا عني، الثيب بالثيب»، «صلوا كما رأيتموني أصلي»، «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًا (أي تأمّرَ عليكم) فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلافاً كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّيْنَ الرَّاشِدِيْنَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ»(3).
وقال صلى الله عليه وسلم: «تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ»(4).
ومن أخطر البدع التي حذرنا منها الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخبثها، بدعة إنكار السنة، وادعاء أن القرآن يغني عنها، وكيف يسوغ إنكار السنة مع قوله صلى الله عليه وسلم: «نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها ثم بلغها، فرب مبلغ أوعى من سامع»(5)، إذ نص صلى الله عليه وسلم على وجوب سماع مقالته، أي قوله مما هو ليس قرآنا، أو وحيًا قرآنياً.
ويقول صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِن النَّارِ»(6)، والكذب المنهى عنه في الحديث هو الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته، بإسناد شيء لم يقله إليه صلى الله عليه وسلم، ومعنى هذا الإخبار التحذيري أن أقواله صلى الله عليه وسلم من صحيح التشريع، ولا يجوز الكذب فيها، أو الكذب على المشرِّع، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وننبه على نقطة مهمة وهي أنه من المعروف المقطوع به أن أحدًا لم يدس على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا بدعوى أنه قرآن البتة، وإنما دُست عليه بعض الأحاديث التي ميزها العلماء من صحيح سنته صلى الله عليه وسلم، ونبهوا على وضعها، وحذروا المسلمين منها، ووضعوا لهذا منهجاً قويماً في نقد الرجال أو الرواة، ونقد المتن لم يعرف التاريخ له مثيلاً من قبل.
وقد أخبر رسول صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء الكذابين الذين سيأتون من بعده فينكرون سنته توصلاً إلى طمس معالم دينه، وأنَّى لهم ذلك، ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ (الصف:8).
يقول صلى الله عليه وسلم: «أَلاَ إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلاَ يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ (جالس) عَلَى أَرِيكَتِهِ (مقعده الوثير)، يَقُولُ: «عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلاَلٍ فَأَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ، أَلاَ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ لَحْمُ الْحِمَارِ الأَهْلِيِّ، وَلاَ كُلُّ ذِي نَابٍ مِنْ السَّبُعِ، وَلاَ لُقَطَةُ مُعَاهِدٍ، إِلاَّ أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا صَاحِبُهَا، وَمَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْرُوهُ (أي يضيفوه) فَإِنْ لَمْ يَقْرُوهُ فَلَهُ أَنْ يُعْقِبَهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُ»(7).
فهذا الحديث ينص على أن السنة وحي، وهي مثل القرآن في الحكم والتشريع، وليس في النظم والإعجاز، وفيه أيضاً أن منكرى السنة يكونون من المترفين المنعمين الشبعانين، من كثرة ما تجْنى أيديهم من جراء الهجوم على الإسلام، والتشكيك فيه، وينبغي قراءة هذا الحديث في ضوء قوله تعالى: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾ (الإسراء:16).
إن حجج منكري السنة داحضة، ولاستكمال الموضوع نسأل ما تعلاتهم وحججهم، أو شبههم المتهافتة في إنكار السنة؟.
وهنا نجمل شبهاتهم في الآتي: إنهم يقولون: إن القرآن جاء جامعاً لكل شيء، وأنه ليس في حاجة إلى بيان أو تفصيل من خارجه، ويستشهدون على ذلك بقول الله تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ (الأنعام:38).
مع أن الآية تتحدث عن علم الله المحيط بكل شيء، وليس معناها أن القرآن فيه كل شيء، وأنه يغني عن السنة، أو يغني عن استعمال العقل، ولنقرأ جزء الآية الذي لم يظهروه، تفادياً منهم أن يكذبهم المعنى الحقيقي المراد في الآية، يقول تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ (الأنعام:38).
فالكتاب هو اللوح المحفوظ الذي فيه إحصاء الخلائق والحوادث كلها، وما كان، وما سيكون مما هو في علم الله تعالى.
وتراهم يستندون كذلك على قوله تعالى في سورة يوسف: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأولِي الألْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (يوسف:111).
وما دروا أن سورة يوسف ليس فيها أحكام، وأن معنى الآية على غير ما فهموه منها بالكلية.
ويستشهدون على باطلهم كذلك بآية سورة الحديد ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ﴾ (الحديد:22).
وهذه الآية أيضا في إحاطة علم الله بكل شيء، وفيما كتبه في اللوح المحفوظ، وليس فيها دليل أبداً على رد السنة النبوية، والاكتفاء بالقرآن.
ويضيفون إلى ذلك أن السنة دخلها الوضع، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن كتابة أقواله، والاكتفاء بكتابة القرآن، وأن السنة لم تدون إلا أيام عمر بن عبد العزيز.
وهذا تمويه يكذبه القرآن والسنة، ففي القرآن قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر:9). والسنة ذكر، داخل في عموم الذكر المحفوظ، يقول تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ﴾ (الغاشية:21).
وقد جمع الله تعالى في الأمر بالذكر بين القرآن والسنة في قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالحكْمَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيرًا﴾ (الأحزاب:34).
ومن النص على حفظ السنة قوله تعالى: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ (القيامة:17-19).
وما دامت السنة هي المبينة للقرآن الكريم فإنها محفوظة بحفظه، ومن الثابت أن أحاديثه صلى الله عليه وسلم قد كتبت في حياته، وحفظها الصحابة رضي الله عنهم، حتى أن محفوظ أبى هريرة من أحاديثه وسنته صلى الله عليه وسلم يعد بالآلاف، وكذلك محفوظ السيدة عائشة رضي الله عنها، وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم الذين عرفوا بالحفظ، وكتابة السنة، وقد كان حفظ القرآن، وحفظ السنة يسيران بالتوازي بين علماء المة وحفاظها، ويزعم المستشرقون ومعهم مقلدوهم، أن السنة لم تكتب إلا في عصر «عمر بن عبد العزيز» وهذا خطأ يخل بمنهجهم وأمانتهم العلمية التي يتمسكون بها بعيدًا عن الدراسات الإسلامية والعربية، لقد كتبت السنة وحفظت في الصدور قبل «عمر بن عبد العزيز»، وأما ما فعله هذا الخليفة العادل، فهو تدوين السنة في كتب وتصنيفها وتبويبها.
وعمل «عمر بن عبد العزيز» بالنسبة لتدوين السنة هو كعمل «عثمان بن عفان» في جمع القرآن، فقد كان القرآن مكتوباً في الرقاع ومحفوظاً في الصدور، ومجموعاً في الربعة التي كتبت في عهد «أبي بكر» رضي الله عنه، وحفظت عند أم المؤمنين السيدة حفصة بنت عمر رضي الله عنهما، حتى طلبها منها عثمان لكتابة المصحف الإمام بموافقة جميع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالمصحف إذن كان مكتوباً، ومجموعاً قبل عثمان رضي الله عنه، ولكنّه جمع القرآن جمع قراءة، وكذلك كانت السنة محفوظةً ومدونةً ولكن بجهود فردية، فأمر «عمر بن عبد العزيز» خليفة المسلمين رضي الله عنه بجمعها وتدوينها وتصنيفها، فكان هذا منه مشروعاً ضخماً لحفظ سنته صلى الله عليه وسلم.
هذه المزاعم التي يرددها المسمَّوْنَ كذباً بالقرآنيين، هي نفسها دعاوي المستشرقين، وخصوم الإسلام، بألوانهم، وأطيافهم المختلفة.
وهنا أذكر أنّه قدم بعض أعضاء هذه المجموعة المارقة للتحقيق في 25/6/2007 بسبب سبهم للصحابة رضي الله عنهم، وسب أبي هريرة بخاصة، ولإنكارهم لصلاة السنة، بحجة أنها ليست من السنّة العملية، بل من السنة القولية، وهم يرفضون السنة القولية بزعم أن رواتها ليسوا ثقات، وأيضا لأنهم يزعمون أن القرآن وحده هو مصدر للتشريع.
وأخفى هؤلاء عقيدتهم الزائفة في رفض الصلاة جملة بحجة أن القرآن لم يحددها، ولم يفصل فيها مما يدل على أنها اختيارية، وليست فريضةً.
هذا لون مما يُظْهِرُهُ القرآنيون الذين هم كالحرباء يتلونون بحسب المواقف والأجواء؛ إذ يقولون إن القرآن لم يذكر إلا صلاة الصبح، وصلاة العصر، أما صلاة الظهر والمغرب والعشاء فلا ذكر لها في القرآن.
ويضيف كيتاني: أن القرآن ذكر ثلاث صلوات: ﴿أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوْدًا﴾ (الإسراء:78)، وفي البقرة: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا للهِ قَانِتِين﴾ (البقرة:238).
وزعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم إما أنه لم يأمر بأي عدد محدد من الصلوات، وإما أنه أمر بصلاتين فقط، وهي صلاة الصبح، وصلاة الليل، وصلاة الليل عنده تُعَدُّ اقتباساً من المسيحية، ويقول «لسنا ندري صلاةً أخرى أتى بها «محمد» ذات تراتيل وتُسَمّى الوسطى. ما أوجه الشبه بين صلاة المسلمين، وصلاة غيرهم؟
وبدون تحفظ يقول كيتاني: «وهكذا يكون عندنا ثلاث صلوات يومية، وهي الصبح، والظهر، والليل، وهو ما يتطابق تماماً مع الأوقات الثلاثة لصلاة اليهود»(8).
دعاوي عريضة، ومقطعات، أو مربعات متنافرة أراد أن يصنع منها شيئًا يلائم أحكامه المسبقة في أن الإسلام دين منتحل، وليس دينًا أصيلاً.
تلك هي غاية كلام المستشرقين، ثم كلام البهائيين، والقرآنيين منهم.
ولنقرأ أيضا ما يقوله «مونتجمري وات» في كتاب «محمد في المدينة»: «من المحتمل أنه منذ السنوات الأخيرة في حياة النبي لم تكن الصلوات الخمس يلتزم بها التزاماً دائماً(9)، الخط المعوج نفسه يكرره المستشرقون بطرق مختلفة.
بعد أن ذكرنا شيئًا عن الخلفية الاستشراقية، والخلفية البهائية، والطائفية لدعاوي القرآنيين، نرجع إلى رفضهم لصلاة السنة، بدعوى أنها سنة قولية غير ملزمة، وأنها غير موجودة في القرآن، هذا فضلا عن اتهامهم للصحابة والرواة بالكذب، ومما يكذبهم في إنكار صلاة السنة قوله تعالى: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُودًا﴾ (الإسراء:79). ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِيْنَ مَعَكَ﴾ (المزمل:20). ففي الآية الأولى نص على صلاة التهجد وهي سنة، أو نافلة، وفي الآية الثانية ذكر الله قيام الليل الذي كان النبي والصحابة يقومون به. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «فرضَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ فمَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلاَةِ فَهِيَ زَكَاةً مَقْبُولَةً، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلاَةِ فِهِيَ صَدَقَةٌ مِن الصَّدَقَاتِ»(10).
ومما تعلق به منكرو السنة أحاديث غير صحيحة في وجوب عرض السنة على القرآن، فما وافق القرآن منها قُبِل، وماخالفه رُد ولم يُقبل، واستدلوا على ذلك بما رُوِيَ من أن بعض الصحابة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل يجب الوضوء من القيء؟، فأجاب صلى الله عليه وسلم: «(لو) كان واجبا لوجدَّتَهُ في كتاب الله تعالى». قالوا هذا دليل على أنه لا يجب العمل إلا بما في الكتاب فقط، ولا توجب السنة شيئًا.
وقد بين ابن حزم الأندلسي (ت456هـ) في كتاب الإحكام في أصول الأحكام (2/76-79)، والسيوطي في كتاب مفتاح الجنة (ص16، 14-19)، أن أحاديث العرض على كتاب الله تعالى كلها ضعيفة، لا تصح متناً، وإسنادًا.
يقول الشافعي في الرسالة: «ما روى هذا أحد يَثبُتُ حديثه في شيء صغر ولا كبر…»(11).
وقال ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/191): «قال عبد الرحمن بن مهدي: الزنادقة والخوارج وضعوا هذا الحديث»، ثم قال: «وهذه الألفاظ لا تصح عنه صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم بصحيح النقل من سقيمه؛ لأنا لم نجد في كتاب الله، ألا يقبل من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما وافق كتاب الله؛ بل وجدنا كتاب الله يطلق التأسى به، والأمر بطاعته، ويحذر المخالفة عن أمره جملة على كل حال».
أما هجومهم على أبي هريرة، واتهامهم له بالكذب والخيانة، والوضع على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي اتهامات باطلة تدل على كراهيتهم لهذا الدين ولنماذجه الرفيعة من الرجال.
لقد تعلقوا بروايات لا أصل لها، وبعبارات قيلت عن أبي هريرة لم يفهموها، ولم يضعوها في سياقها من حياة الرجل الذي عرف بإخلاصه، وتجرده وانقطاعه لحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وعكوفه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لهذا الغرض فهو كبير أهل الصُّفَّة، أضياف الإسلام، فكان من ثم أكثر الصحابة ملازمة لرسول الله وسماعاً منه صلى الله عليه وسلم.
روى عنه أنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: «من يبسط ثوبه حتى أفرغ من حديثي، ثم يقبضه إليه، فإنه لن ينسى شيئًا سمعه مني أبدًا»، فبسطت ثوبي، أو قال: نَمِرَتي، ثم حدثنا صلى الله عليه وسلم، فقبضته إلى، فوالله ما نسيت شيئا سمعته منه، وأيْمُ الله لولا آية من كتاب الله ما حدثتكم بشيء أبدًا: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتٰبِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (البقرة:174).
والحجر في كلام النبي صلى الله عليه وسلم يراد به العقل، والذاكرة بخاصة، وفي القرآن الكريم: ﴿هَلْ ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ﴾(الفجر:5).
لقد ألزم «أبو هريرة» نفسه بحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يشغله عن هذا الأمر النبيل شاغل أبدًا، لمدة ثلاث سنوات متصلة، جعلته بحق أكثر الصحابة حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن حديث لمحمد بن عمارة بن حزم أورده البخاري: «أن أبا هريرة أحفظ الناس». وأخرج أحمد والترمذي عن ابن عمر أنه قال لأبي هريرة: «إن كنت لألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعرفنا بحديثه». أخرجه الإمام أحمد والترمذي، وقال الإمام الشافعي: «أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في عصره».
ويكفي أبا هريرة، إلى جانب صفاء ذهنه، وتفرغه الكامل لحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعاؤه رضي الله عنه لنفسه، بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، بقوة الحفظ، وعدم النسيان، وتأمين النبي صلى الله عليه وسلم على دعائه، كما في الحديث الذي أخرجه النسائي في السنن، والحاكم في المستدرك.
وقد أورد الحافظ ابن حجر في الإصابة من حديث طويل أن «مروان بن الحكم» سأل «أبا هريرة» أن يحدثه، وكان قد كلف كاتبه أن يدوّن كل ما يسمعه من أبي هريرة، وفي آخر العام أرسل إليه وسأله أن يحدثه، فحدث فما غيَّر حرفاً واحدًا مما حدث من قبل.
هذا هو أبو هريرة رضي الله عنه أكثر الصحابة صحبةً للنبي صلى الله عليه وسلم وأكثرهم جمعاً لأحاديثه صلى الله عليه وسلم ورواية لها(13).
فهل بقى بعد هذه الأدلة الدامغة، وغيرها كثير، لمنكري السنة من شيء غير الشغب، والتمويه، والإصدار على التمسك بالباطل لغاية في نفوسهم، مع وضوح الحق وجلاء اليقين.
وهكذا يتبين ضلال الأدعياء من أعداء الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأعداء القرآن والسنة.
* * *
الهوامش:
رواه البخاري 6497، ومسلم: 143.
صحيح البخاري.
سنن أبي داود.
موطأ مالك.
المعجم الأوسط للطبراني.
صحيح البخاري.
سنن أبي داود.
انظر: عبد الرحمن بدوي. دفاع عن محمد ضد المنتقصين من قدره. ترجمة كمال جاد الله، الدار العالمية للكتب والنشر.ص162-163.
انظر: مونتجمري وات، محمد في المدينة. ص37.
رواه أبوداود، وابن ماجة، والحاكم، وقال: صحيح على شرط البخاري.
الرسالة، ص225.
أخرجاه في الصحيحين، صفة الصفوة 1/225.
انظر: دفاع عن السنة ورد شبه المستشرقين، والكتاب المعاصرين، وبيان الشبه الواردة على السنة قديماً وحديثاً، للدكتور الشيخ محمد بن محمد أبوشهبة. مكتبة السنة 1409هـ/1989م ص100 وما بعدها.
(المصدر: مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند)