بقلم محمد فتوح
“أنا مواطنة فرنسية، وحجابي هو اختيار شخصي ارتديته عن قناعة دينية، لكن في إطار احترامي للقانون الفرنسي وللآخرين، ومن هذا المنطق لم تكن هناك حاجة إلى طرح هذا النقاش”
(مريم بوجيتو)
مريم، ذات التسعة عشر ربيعا، ورئيسة الاتحاد الوطني بجامعة السوربون، خرجت في مقابلة تلفزيونية لتعبر عن رؤية نقابتها الطلابية حول مشروع إصلاح طلابي طرحته الحكومة. إلى هنا لا جديد تحت الشمس، لكن حجاب مريم الذي لف رأسها حينما خرجت في عاصمة التنوير والحريات، والذي اعتادت أن ترتديه في حياتها اليومية، أثار لغطا واسعا طال أرجاء فرنسا، لغطا دفع وزير الداخلية الفرنسي جيرار كولومب إلى التعبير عن صدمته حيال رؤيته لفتاة ترتدي الحجاب على شاشة التلفاز الفرنسي!
لم يعد للمشروع الإصلاحي الذي جاءت مريم لمناقشته عبر الشاشة قيمة في ظل حجابها الذي احتل المشهد. وهذا ما تبين من خلال تصريحات المسؤولين، فكولومب ذاته أعرب عن قلقه تجاه الحادثة بقوله: “الظاهر أنه هنالك معركة ثقافية في نهاية المطاف لدى بعض الشباب المسلم، فمن الواضح أن هنالك عددا من الأشخاص يبحثون عن الاستفزاز عبر هذه الرموز”(1)، ولم يكتف “كولومب” بذلك، بل ربط بين حجاب مريم وبين تنظيم الدولة إذ قال في معرض حديثه عن حادثة مريم: “لدي شكوك، وأظن أن بعض الشباب قد يميلون إلى الاقتناع بنظريات تنظيم الدولة”.
تتابعت حالة الجدل حِيال وصول طالبة محجبة إلى رئاسة اتحاد الطلاب في السوربون، لتعلو الأصوات العلمانية داخل الجمهورية اللائكية بهدف النيل من مريم ذاتها، إذ صَرح جوليان دراي، وهو نائب سابق لرئيس نقابة الطلاب، بالقول: “إن قيادة النقابة التي تقبل هذه السيدة الشابة قائدة تفسد كل نضالنا في الجامعات”. أما صحيفة شارلي أبيدو، وهي الصحيفة الشهيرة بالتطاول على المقدسات، فقد رسمت مريم بصورة مشوهة ملفوفة بالحجاب!
وفي مشهد يبدو متناقضا، فإن هذه التصريحات التي طالت مريم جاءت على النقيض من الموقف الذي أعلنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يوم 16 من شهر أبريل/نيسان الماضي من “وجوب احترام الحريات الدينية في بلاده للحفاظ على وحدة المجتمع”، وقد أعرب ماكرون في اللقاء نفسه “إنه يحترم كل امرأة ترتدي الحجاب”. لتعبر تلك المسافة بين ما عبّر عنه وزير الداخلية، وتلك التصريحات التي أعلنها الرئيس الفرنسي، عن تلك المساحة الشاسعة التي تفصل القيمة في إطارها النظري، وبين ما يتم تطبيقه حقيقة، وما يجد المجتمع انعكاساته في التفاصيل المعاشة.
وفي مشهد يتأسس من صوت المتهم، خرجت مريم بوجيتو لتعبر عن صدمتها من تصريحات كولومب بقولها: “من المقرف أن يوجه وزير الداخلية خطابا مماثلا يتضمن كل هذا القدر من العنف، خاصة أن ارتدائي للحجاب لا يتسم بأي بُعد سياسي، فهذا إيماني”، وبدوره أصدر “الاتحاد الوطني لطلبة فرنسا” بيانا ضد تصريحات كولومب جاء فيه: “إذا كانت مريم تتعرض للانتقاد، فلأنها امرأة مسلمة ترتدي الحجاب، ولأنها أيضا طالبة لها مسؤوليات نقابية”(2).
قصة مريم بوجيتو ليست نشازا، فبالنظر إلى الحجاب كرمز ديني، فإن فرنسا، عاصمة التنوير الأوروبي، ما تفتأ في مختلف الأحيان تضيّق الخناق على المسلمات المحجبات، سواء في أماكن العمل، والمصالح الحكومية، والمؤسسات التعليمية، فضلا عن الأماكن العامة، مما يطرح تساؤلات عدة حول مدى التمثيل الفعلي لراية الحرية والمساواة والمؤاخاة التي ترفعها فرنسا منذ ثورتها، والتي يتغنى الفرنسيون بأنهم من أرسى بثورتهم العتيقة قيم المدنية الحديثة منذ أكثر من مئتي سنة! لكن نظرة تاريخية على جذور العلمانية التي أعقبت الثورة الفرنسية يمكن لها أن تزيل تلك الحالة الضبابية التي ربما تشكلت لدى البعض، حول ما تعنيه العلمانية في فرنسا، وحول أسباب تلك الشراسة في الهجوم تجاه الحجاب، أو بنظرة أوسع، على ما يمكن اعتباره رمزا دينيا!
في هذه الأثناء نشر اتحاد المنظمات الإسلامية الفرنسية فتوى لمجلس العلماء الإسلاميين الأوروبيين جاء فيها أن “إجبار امرأة مسلمة على خلع حجابها الذي يعبر عن قناعتها الدينية وحرية الاختيار يعتبر أسوأ قمع يمكن أن تعاني منه المرأة”، حينها، لم تعبأ دولة التنوير الفرنسية بمطالب المسلمات المحجبات، ولم تنظر إلى هُويتهم الخاصة أو حرياتهم الشخصية.
أما في عام 2010 فقد امتد الأمر إلى خارج أسوار المؤسسات التعليمية، إذ أَقرّ مجلس الشيوخ الفرنسي بأغلبية ساحقة قرارا بمنع النقاب في الأماكن العامة(4)، ونص القانون على تغريم النساء اللواتي يرتدين النقاب بغرامة مالية، لتعلن وزيرة العدل الفرنسية حينها ميشيل أليو ماري “إن القانون يعيد تأكيد قيم المساواة والكرامة لكل الأفراد، وسيحول دون أن تكون المرأة عضوا لا وجه له في مجتمع عرقي أكبر”.(5)
خرجت في ذلك الحين منظمة هيومن رايس ووتش لتعتبر نص القانون، وما لحقه من تبعات اجتماعية، اعتداء على الحريات، وقد انبرى رجل الأعمال والسياسي الفرنسي من أصل جزائري “رشيد نكاز” ليعلن اعتباره هذا الفعل منافيا لقيم العلمانية والحرية، تلك القيم التي تعني ظاهريا اختيار كل شخص ما يريد، وأسس نكاز كردة فعل صندوقا باسم “الدفاع عن العلمانية والحرية”(6) وتكفّل بدفع جميع الغرامات للنساء المنتقبات في بلجيكا وفرنسا، وهو ما اعتبره البعض سلوكا ذا غرض سياسي.
جيرار كولومب.. وزير الداخلية الفرنسيلم يقف الأمر عند حدود القانون الذي صدر عام 2010، إذا تواصلت حالات الصخب تجاه الحجاب وما يمكن اعتباره مظهرا دينيا، حيث في عام 2013 طرق المجلس الأعلى للاندماج في فرنسا على الوتر الحساس باقتراحه حظر ارتداء الحجاب في جامعات البلاد(7)، بيد أن هذا القانون لم يتم تفعليه حتى اليوم، وهو ما تزامن حينها مع تصريح رئيس وزراء فرنسا الرامي إلى منع الحجاب بالكلية في الشارع الفرنسي، وهو ما أدى إلى عدد من الوقفات الاحتجاجية، عبّرت فيه محجبات وغير محجبات عن تضامنهن مع الحجاب.
لم يكن سوق العمل أفضل حالا للمحجبات عن نظيره في مجال التعليم، فالتضييق على الحجاب والذي اتخذ من شعار عدم التمييز بين الأديان غطاء له، بات عُرفا سائدا وحجة لفصل المحجبات من أعمالهن في الدوائر الفرنسية.
خديجة الأبيض، فتاة ثلاثينية، تحكي قصة اضطرارها للاستقالة من عملها في شركة فرنسية بعد قرارها ارتداء الحجاب(8)، وذلك على اعتبار أن القانون الداخلي للشركة يحظر الأزياء ذات الهوية الدينية. وقد سعت خديجة للحصول على فرصة عمل في شركة أخرى لكنها لم تفلح، للسبب ذاته، لأنها ترتدي الحجاب! وهو الأمر الذي اضطرها للعمل في شركة تحليل بيانات من منزلها دون مواجهة المجتمع، وبراتب أقل، وهو الحال الذي دفعها إلى البحث عن فرصة عمل في بريطانيا، إذ لا تجد المحجبات تلك الشراسة في الانحياز تجاههن كما هو الحال في فرنسا.
حالات المنع تلك، دفعت بعض النساء إلى المقاومة على طريقتهن، فليلى، الموظفة الحكومية، ذات الأربعين عاما، لم تجد حلا غير التحايل، وذلك عبر ارتداء قبعة تخفي كامل شعرها أثناء دوامها. وهو الحال الذي دفع بعض زملائها بالشك حيال تلك القبعة التي ما انفكت ترافق ليلى في حلها وترحالها، خاصة في فصل الصيف، حيث الحرارة مرتفعة، ولكن ليلى كانت تعي تماما أن القانون يحميها في هذا الإطار، حيث القبعات لا تمثل رمزا يمكن للدولة المحاسبة عليه.
وفي حالة تعبر عن التمييز الذي تلاقيه المحجبات في بلاد الأنوار، فإنه في عام 2008 تم تعيين مهندسة محجبة في شركة “ميكروبول” الفرنسية، لكن أحد الزبائن اشتكى بعد لقائه بالمهندسة باعتباره “لا يريد أن يكون هناك حجاب في المرة المقبلة”. نقلت “ميكروبول” بدورها الشكوى إلى الموظفة المعنية، لكنها رفضت خلع حجابها فتمت إقالتها في يونيو/حزيران 2009. مما اضطرها لرفع دعوى قضائية ضد تعسف الشركة بحقها، بيد أن محكمة العدل الأوروبية حكمت بأحقية الشركة وبررت حكمها باعتبار أن حياد المؤسسة لا يسمح بارتداء رموز سياسية أو فلسفية أو دينية.(9)
وبحسب عالمة الاجتماع الفرنسية حنان كريمي، فقد أدى ما تلقاه المرأة المحجبة الفرنسية من تضييق مستمر ومُضطرد عليها إلى صعوبة انخراطها في الحياة العامة بفرنسا، ووصفت كريمي بأن “هناك جيلا من الفرنسيات المحجبات، اللائي حصلن على شهادات علمية وأكاديمية عالية، لم يتمكنَّ من الحصول على وظيفة تناسبهن بسبب سياسة حكومية عنصرية وتمييزية متعمدة تجاههن”.(10)
لم يسلم القطاع الطبي كذلك من تلك المضايقات، حيث اشتكى عدد من المحجبات من تعامل الأطباء معهن، تذكر العشرينية الفرنسية، سميرة عبد القادر، شعورها بمناخ عدائي كلما توجهت إلى المشفى القريب من منزلها لمراجعة طبيبها، وتوضح: “بالطبع المريضات لا يسري عليهن القانون الذي يحظر على المسلمات العاملات في هذا القطاع ارتداء الحجاب، لكن الطبيب يتعمد تأخيري ويتعامل معي بفتور وتململ”.(11)
في هذا الإطار، يعتقد عالم الاجتماع قدور زويلاي بأن امتداد ظاهرة الإسلاموفوبيا إلى القطاع الصحي يرجع إلى عدم وضع نخبة الجالية الفرنسية العربية والمسلمة الأمر نصب اهتمامها، وغياب العمل على مواجهة مشاكل التمييز الديني والعنصري، إذ تتصاعد -بحسب زويلاي- دعوات عنصرية ضد الفرنسيين المسلمين طوال الوقت، وتتمدد في المجتمع دون مواجهة فكرية حقيقية تحفظ حق وحرية كل أفراد المجتمع.(12)
هذه الاعتداءات المستمرة، إنما تبني حواجز من الشك والكراهية، مما يعيق بدوره من الاندماج بين المسلمين، خاصة المحجبات، وبين المجتمع الفرنسي، وهو ما يؤسس لحالة من الغربة الشعورية التي يعيشها المسلم، فهو من المجتمع وليس منه، لتتشكل بذلك ثقافة الهامش، ثقافة الساعي نحو الاندماج في مجتمع يرفضه. وما يجعل الحالة الفرنسية ذات خصوصية، هو كثرة عدد المسلمين فيها، إذ يبلغون ما يقارب من 5 ملايين مسلم(13)، وعلى الرغم من هذا العدد المرتفع، فإن الهوية العلمانية ما زالت ترسم حدود الإقصاء لكل ما يمثل الآخر الديني باعتباره دخيلا، وهو ما ترتب عليه هجرة بعض المسلمين إلى بلدان لا يجدون فيها ذلك الانحياز الفج الذي يستهدف حرياتهم الشخصية. ولكن يبقى السؤال قائما، لماذا فرنسا تحديدا؟
(عزمي بشارة)
تتميز الجمهورية الفرنسية بكونها الأكثر علمانية، إذ يُعبر عن علمانيتها باسم “لائكية”، وهي ما تَعني حالة قانونية تجعل الدولة على الحياد مع الأديان، وليس حركة علمنة مجتمعية عادية يقوم بها أفراد المجتمع. مما يجعل لفرنسا خصوصية في طبيعتها العلمانية التي تسعى لإخضاع كل ما هو خارج عن منظومة أفكارها وقانونها قصرا إليها.
ويرصد عزمي بشارة في كتابه “العلمانية والدين في سياق تاريخي” أن العلمنة الفرنسية لم تكتف فقط بعلمنة المجال العام، وإنما أرادت أن تقوم بإخضاع كامل الكنسية تحت ربقة الدولة لما عانت منه الأرستقراطية الفرنسية في الحروب الدينية في فرنسا، ومن هنا فإن التسامح الفرنسي هو شكل من أشكال العلمنة لا باعتبارها وقوفا من الأديان على حد سواء، وإنما في سياق إخضاع الدين للدولة وقيمها وما تقرره مبادئ الجمهورية الفرنسية. يقول بشارة: “كانت قوانين التسامح في الحقيقة تعبيرا عن تأكيد تبعية المواطنين للملك أو الدولة قبل المذهب! وكانت الأقليات الدينية تدعو إلى التسامح وأولوية السلطة المدنية”.(14)
ومع الثورة الفرنسية، فإنها شكلت إيذانا بتوسع دائرة المدني ومراقبته على المجال الديني، يقول بشارة: “والثورة الفرنسية فإنها مسّت مكانة المؤسسة الدينية ومكانة الدين مَسا حقيقيا وفعليّا، ليس في الحيزّ العام وفقط، بل في نفوذه التقليدي أيضا”.
مثّلت الثورة الفرنسية إذًا علامة فارقة في ترسيخ سلطان الدولة فوق أي سلطان ولو كان دينيّا، فالأمر هنا يتجاوز التعريف التقليدي للعلمانية باعتباره فصل الدين عن الدولة، حيث يتجسد في الجمهورية الفرنسية في خضوع الديني لمنظومة السياسيّ وقيمه، ولا أدل على ذلك من إقصاء الجمعية الوطنية للدستور الفرنسي الأول لكل من هو غير فرنسي من حقه في انتخاب أعضاء الكنيسة الفرنسية ولو كان البابا نفسه، فالدين هنا أصبح -بحسب بشارة- فرنسا وخاضع لجزء من تشكيل هُويّة وطنية فرنسية، وهذه الهوية الفرنسية تتدخل حتى في تحديد الأديان الفرنسية وما يتصل بها، وهو ما أدى بحسب بشارة إلى تضخم الوطنية الفرنسية، وباتت اللائكية الفرنسية هي المرجعية في الشأن العام.
ومع توسع اللائكية لا سيما بعد دخول أفكار اليسار والاشتراكية لفرنسا، وفرض التعليم العلماني للنشء، تم قبول ما وافق الجمهورية اللائكية الفرنسية من الدين وإزاحة ما خالفه جانبا، لتصبح الدولة بذلك هي المرجع المُحدد لكل أُطر أفكار النشء الجديد وإن كانت أفكارا فاشية أو قومية متطرفة.(15)
وفقا لما سبق، يمكن تفسير ممارسة فرنسا مع المتمسكات بحجابهن من المسلمات باعتبارهن رجعيات، حيث إن الحرية هنا ما دامت متجاوزة لقيم الجمهورية اللائكية فإنها بذلك تعد خرقا لقيم المجتمع، وبالتالي فإنه من المبرر أن تتصف تلك الأفكار بالرجعية، ومن المبرر كذلك أن تتم محاربتها بشراسة. وبحسب عادل لطيفي فإن هذه الجذور التاريخية هي سبب تعرض المسلمين للاعتداءات بصورة مستمرة في فرنسا مقارنة بالدول الغربية الأخرى بما يتناقض مع الديمقراطية الليبرالية(16)، وقد وصل الأمر بماري لوبين، المرشحة الرئاسية السابقة والمحسوبة على التيار اليميني، منذ سنوات إلى تشبيه المسلمين المصلين في شوارع فرنسا بالاحتلال النازي.
وبحسب لطيفي، يتخوف مسلموّ فرنسا اليوم من أن تشهد البلاد حالة هيجان ضد الإسلام والمسلمين، في ظل عدم التمييز بين الإسلام والإسلام الراديكالي، لا على المستوى الشعبي ولا على مستوى النخبة أيضا.
هكذا أثار حجاب مريم بوجيتو الجدل القديم المتجدد حول فرنسا ومدى تمثيلها لقيم التنوير والحرية والمساواة، فالتنوير الفرنسي كما يتبدى تاريخيا، وكما تتصل امتداداته لتنعكس على واقعنا الحالي، أن تلك القيم هي ما يوافق اللائكية قصرا وحصرا، فالعلمانية الفرنسية بدلا من أن تقف على الحياد بين الأديان، صارت تُخضع الأديان لهويتها الوطنية.
(المصدر: ديوان الجزيرة)