“حتى لا يكون بر الوالدين فسادًا”
بقلم الشيخ أحمد سالم
(1)
إن الأصل الثابت الذي يؤمن به المسلم أن شرع الله لا يمكن أن يكون فسادًا، وأن أية شعبة إيمانية تستحيل فسادًا فإنما استحالت بسبب خطأ في فهمها النظري أو خلل في تطبيقها العملي، وإن أحد الواجبات العظيمة المنوطة بحملة الخطاب الشرعي هي أن يزيلوا عن وجه الشعب الإيمانية غبرة الفهم الخطأ وقترة التطبيق المختل؛ ليحيى من حي بتلك الشعب عن بينة، وليهلك عن بينة من أعرض عنها ظِنة وتهمة.
وإن الشعبة الإيمانية التي أريد الكلام عنها من هذا الوجه اليوم هي بر الوالدين، وهي الشعبة الإيمانية التي تُضارع أركان الإسلام في الحث عليها وكثرة الأدلة الدالة على تعظيمها والوعيد بالعقوبة عند الإخلال بها حتى إن الكفر ذاك الذنب العظيم لم يؤثر كون الوالدين من أهلها على وجوب تعظيم حقهما فقال الله تعالى “وإن جاهداك على أن تُشرك بي ما ليس لك به علم فلا تُطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفًا”.
لكن هذه الشعبة الإيمانية العظيمة لم يشرعها الله إلا تعظيمًا للحق وصلاحًا للنفوس وهداية للمجتمعات، فإذا رأيناها أمامنا قد أصبحت هدرًا للحق وعذابا للنفس وفتنة للمجتمعات، وجب أن نوقن أن ذلك ما كان ليكون قط إلا وهناك خطأ في فهمها أو خلل في ممارستها.
إن بر الوالدين ليس مطلقًا بلا ضابط هكذا، وليس ضابطه كما يظن بعض الناس أنها الطاعة المطلقة في غير معصية، حتى ولو كان هذا فيما فيه ضر وأذى للإنسان، وحتى لو كان هذا من أب أحمق أو أم مضيعة للدين لا تبني عملها عليه، كل ذلك فساد ليس مقصودًا للشرع أن يفرض الطاعة فيه.
(2)
ويمكننا ترتيب قواعد الفهم الصحيح والممارسة المنضبطة لهذه الشعبة الإيمانية عبر النقاط التالية:
أولًا: إن الشريعة تفترض فيمن تطلب تعظيم حقه من الوالدين أنه أيضًا يُعظم شرع الله فيما يمارسه مع أبنائه إن كان مؤمنًا، فلا يأمرهم بمعصية، وأيضًا يراعي مصالحهم فلا يتعسف في استعمال حقه، والتعسف في استعمال الحق هو استعمال الحق المشروع على وجه غير مشروع فيه تضييع للدين أو إهدار لمقتضى المصلحة والخير.
ثانيًا: لا يختلف هذا في حالة كون الأب كافرًا؛ فإن الشريعة تفترض فيه أنه يراعي كليات الأخلاق والمصالح ويحترم خصوصية دين ولده، أما أن الشريعة تُطلق القول ببر أب مضيع للدين أو فاسد الأخلاق لا يراعي مصالح أبنائه ويحترم دينهم، فهذا كذب على الشرع؛ لأجل ذلك أت كل قضايا الطاعة مقيدة بأنها طاعة بالمعروف ومصاحبة بالمعروف، وليس المعروف هنا هو فقط الخلو من المعصية بالمعنى المباشر بل معها الخلو من كل ما فيه ضرر وأذى ودلالة على التعسف وإن لم تكن تفاصيل جزئياته منفردة تعد معصية.
إن حث الشريعة على بر الأب المشرك قضية: نوظفها في بيان عظم حق الوالدين مهما بلغ باطلهما، ونوظفها في منع إلحاق الأذى بالأهل إلا دفاعًا عن النفس كما في حالات التحرش والاغتصاب، ونستعملها أيضا في الدعوة للتسامح والنسيان، والدعوة لتجاوز (غير واجب) للبغض القلبي الناتج عن جرائم الأهل، لكن لا يمكن الاستدلال بها على طاعة الأب المجرم المتجني المتعسف في استعمال حقه؛ لأن الشرك متعلق بحق الله عز وجل لا يستلزم أن يكون هذا المشرك المأمور ببره مضيعا لحقوق الناس بل قد يكون عادلا منصفًا، بل الآية في الحقيقة دليل لنا على ما نقرره هنا، فإن نص الوحي يقول إن الأب المشرك إن جاهدك على أن تشرك فلا تطعه، والواقع أن من نفس جنسها أنه إن جاهداك على تضييع حقوقك وهدر إنسانيتك، فلا تطعه؛ فإن الله لا يحب الظلم ولا يرضاه، بل الباب متاح لك في ألا تطيع في هدر حقوقك ما دمت لا تعتدي ظلمًا وإيذاء.
ثالثًا: إن اجتهاد الفقهاء واختلافهم في وضع ضابط للعقوق يدلنا دلالة ظاهرة على أنهم لم يفهموا هذا الإطلاق العامي الذي يشيع على ألسنة بعض الوعاظ والمتكلمين بغير علم، وليس هنا مجال عرض تفاصيل اجتهاداتهم، لكني أذكر هنا أن أول قدر متفق عليه في هذا الموضوع هو أن إلحاق الأذى والضرر بالوالدين بغير حق هو أول درجات العقوق المتفق عليها، بداية من قول أف وانتهاء بالاعتداءات البدنية، كل ذلك عقوق محرم وكبيرة من الكبائر إلا إذا كان له مبرر ضروري كما يقع والعياذ بالله في حالات الاعتداء والتحرش.
يلي ذلك من العقوق المتفق عليه ترك طاعتهم فيما فيه مصلحة دينية أو دنيوية لهما ولا ضرر فيه عليك أو فيه ضرر محدود أقل من تلك المصلحة، أما إن كان فيه ضرر أكبر فتركه ليس عقوقا مع وجوب التلطف لهما وتخفيف أثر عدم طاعتهما.
يلي ذلك من العقوق صورة أخرى هي مساحة رمادية نوعًا ما ويقع فيه اختلاف بين الفقهاء وهي طاعة الولدين إذا أمرا بما لا تظهر مصلحته وليس فيه ضرر، والأقرب في هذا هو تغليب جانب الطاعة قدر الطاقة ويكون مؤثرا هنا جدا حال الوالدين واعتياد مراعاة الحق والخير عندهما.
رابعًا: ليس من العقوق:
(1) ترك طاعة الوالدين إذا اعتيد منهما الحمق وعدم مراعاة الشرع ولم تظهر مصلحة بلا مضرة فيما يأمران به. قال ابن حجر الهيتمي “وحيث نشأ أمر الوالد أو نهيه عن مجرد الحمق لم يلتفت إليه أخذا مما ذكره الأئمة في أمره لولده بطلاق زوجته”.
(2) ترك طاعة الوالدين فيما فيه مضرة لك أو فوات مصلحة ظاهرة يشق تحصيل بديلها عليك. فلا تجب طاعتهما في فراق زوجة ولا في أكل طعام لا يُشتهى ولا في ترك عمل ظاهر النفع أو درس علم تحتاجه أو عمل تطوعي ينفعك، بشرط أن تتفادى في كل ذلك ما يجر عليك أو عليهم الضرر والأذى؛ وعلى ذلك تُخرج بعض فتاوى الأئمة في الطاعة في فراق الزوجة، فهي في طبيعة مجتمع تقل فيه أضرار الطلاق ويفترضون فيه ظهور المصلحة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية “ليس لأحد الأبوين أن يلزم الولد أو البنت بنكاح من لا يريد، وإنه إذا امتنع لا يكون عاقاً، وإذا لم يكن لأحد أن يلزمه بأكل ما ينفرُ منه مع قدرته على أكل ما تشتهيه نفسه: كان النكاح كذلك، وأولى، فإن أَكْلَ المكروه مرارة ساعة، وعِشْرة المكروه من الزوجين على طول، تؤذي صاحبه، ولا يمكنه فراقه”.
(3) لا تجب طاعة الأب الذي يُعتاد منه تجاوز الشرع بالاعتداء على ولده في ماله أو نفسه أو عرضه، بل دفع هذا الاعتداء واجب طالما يتم دفعه بالقدر الضروري لدفع الاعتداء بلا تجاوز للحد الضروري، فما يُدفع من التحرش بالزجر لا يُدفع بالسب وما يُدفع بالسب لا يُدفع بالضرب أو الرفع للسلطان وما يُدفع بالضرب أو الرفع للسلطان لا يُدفع بالقتل.
خامسًا: جرائم الآباء في حق الأبناء لها درجات كثيرة، وكل درجة منها تستوجب من الفقيه خطابًا مختلفًا يوجهه لهذا الابن بحيث يجعله يتعامل مع هذه الجريمة بما يحفظ القدر الباقي من حق أبيه وبما يحفظ أيضًا إنسانية الابن وحقه في معاملة شرعية هو الآخر.
لدينا سقف الجرائم التي يرتكبها الآباء في حق الأبناء: الأب الذي يغتصب ابنته أو يقتل ابنه. ولدينا الدرجة الدنيا من أخطاء الآباء أعني التعسف في استعمال حقه في الولاية بأن يعضلها أو يحبسها في البيت ويمنعها من ممارسة حقوقها الإنسانية، أو أن يتحكم في مسار حياته تحكمًا يفسدها عشان أنا أبوك وعارف مصلحتك.
ولدينا أيضًا الأبناء في طرفي الموضوع: الابن العاق الذي يؤذي أهله ويظلمهم. والابن الذي ليس عاقا لكن لديه سوء تقدير لمواقف أهله فيفسرها تفسيرات سيئة، ويظنها حمقًا وسوء رعاية للشرع والمصلحة؛ نتيجة لنقص وعيه، وضعف إدراكه، بينما أهله بالفعل يقصدون الشرع والمصلحة. وبينهما الابن غير العاق الذي يجتهد في سؤال أهل العلم من أجل تطبيق الضوابط السابقة لكن فيه عنف واشتهاء لدخول المعارك التي يمكن تفاديها.
هذا الشكل المعقد يحوي بين أطرافه درجات شتى تنعكس على مئات التفاصيل في الممارسة اليومية، ولذلك لا مفر من الرجوع للفقهاء واستشارة العقلاء في التعامل مع هذه التفاصيل وفهم طبيعة الوالدين واختيار الطريق المناسب للتعامل معهما، واختيار السبيل المناسب للتعامل مع كل واقعة صدام واختلاف معهما.
أما ما أراه من التعامل الرياضي لبعض المتصدرين للفتوى والوعظ، من تعظيم جانب الآباء وبرهم وطاعتهم دون مراعاة لأننا نعيش مجتمعًا فيه ظواهر كثيرة من الانحراف الديني والأخلاقي والإنساني، وفيه من الآباء والأمهات من هو من جنس الطواغيت الظلمة الفجرة، هذا الذي أراه هو باطل وفساد، ولا بد من فقه الواقع وتعقيداته وتشابكه؛ فإن الشريعة عادلة لا تسلط الطغاة على أعناق الناس والشريعة أيضًا لا توجب الطاعة في الظلم والعدوان والفساد والتعسف في استعمال الحقوق، والله لا يحب الفساد، ولا يُصلح عمل المفسدين.
(المصدر: مركز نماء للبحوث والدراسات)